قهر اليمنيون بقوة إرادتهم، التضاريس وطوعوها لصالحهم مستغلين إبداعهم، وأسسوا لأنفسهم قرى جبلية في أعالي القمم، بعيدًا عن الأراضي المنبسطة، تعانق الضباب، متفوقة على ناطحات السحاب العصرية.
قرى معلقة محصنة ساحرة تتغنى بروعة الطبيعة، فرغم صعوبة وقساوة العيش فيها تتناثر المنازل هنا وهناك، مبرزة إبداع اليمني الذي حافظ على عاداته وتقاليده. ملف “قرى معلقة” لنون بوست، سيشد الرحال هذه المرة إلى هذه القرى اليمنية للغوص في بعض تفاصيلها والتعرف على جمالها الطبيعي عن كثب.
حضارة كبيرة
لليمن عشرات العجائب، قُراه المعلقة المحصنة واحدة منها، فمن الارتفاعات الشاهقة للجبال، تبدو القرى الجبلية اليمنية المعلقة بروعتها وشموخها وهي تتدلى في الأسفل، تحكي قصة حياة ضاربة في القدم، قرى عودت سكانها على الصبر والجلد.
تتنوع تضاريس اليمن بين سهول وصحار وجبال وهضاب، لكن أغلبية اليمنيين اختاروا الجبال للسكن، إذ وجدوا فيها الملجأ لحمايتهم من الأخطار الطبيعية والأطماع البشرية، لذلك نمت علاقة الإنسان اليمني بالجبل منذ قرون طويلة، حتى أصبحا لا يفترقان أبدًا، فكل واحد منهما يحدّد مصير الثاني.
جبال عالية تتناثر فيها القرى العديدة، اتخذها اليمنيون سكنًا وظهيرًا للحماية، رُسمت بألوان طينية متفاوتة الدرجات كلما اقتربنا منها أفصحت عن بعض تفاصيلها، وحكت لنا عن حضارة كبيرة سكنت الجبال وما زالت.
قرى معلقة تكشف عن قوميات وحضارات كثيرة، كيفت الطبيعة خدمةً لها واستغلت تضاريسها الوعرة لخدمتها وحمايتها من كل الأخطار المحدقة حتى تستمر في الحياة، فعاشوا يحبون الحياة التقليدية وأنماطها القديمة.
بنى اليمنيون مساكنهم ذات الطوابق العديدة في تناسق كبير مع الطبيعة، حتى إنك لا تفرق بين الجبال والمنازل
لم يترك اليمنيون هذه القرى إلى الآن، فهي الملجأ والمسكن والمأوى، فمازالوا يسكنون هناك ويبدعون في بناء منازل جديدة شبيهة بالقديمة حتى تحافظ القرى على معمارها وتفاصيلها القديمة الضاربة في التاريخ، وأغلب هذه القرى محاطة بسور للحماية يعلوه حاجز أفقي يمنع محاولة تسلقه.
الحطيب واحدة من هذه القرى المعلقة، تقع شرق منطقة حراز التابعة لمناخة، لا يتجاوز عدد سكانها 400 فرد، بُنيت على سفح جبل يصل ارتفاعه إلى 3200 متر فوق سطح الأرض، من يشاهدها من بعيد يظن أنه أمام قلعة، فهي محصنة بمنازلها وجدرانها القوية المتراصة بصخور جبال “حَراز”، مندمجة مع المناظر الطبيعية بين الصخور والحقول الواسعة النابتة.
سنة 2002، تمت إضافة القرية إلى قائمة “اليونسكو” للتراث العالمي، في الفئة المختلطة بين “الثقافية” و”الطبيعية” كموقع له قيمة عالمية استثنائية، وكل ما حولها من مناظر ثقافية نادرة من جبل “حراز” و”القاضي” و”القناص” و”مناخة”.
ضمن هذه المدن المعلقة نجد أيضًا “ثلا” تتبع محافظة عمران شمال غرب العاصمة صنعاء، وهي واحدة من خمس قرى ضمن مواقع التراث العالمي المؤقتة في اليمن في قائمة التراث العالمي لليونسكو، ويرجع تاريخها إلى فترة مملكة حمير.
نجد أيضًا قرية “عزلة بني عمارة” ضمن مديرية الخبت التابعة لمحافظة المحويت غرب صنعاء، تمتلك هذه القرية المعلقة موروثًا تاريخيًا وأثريًا فريدًا، وفيها مسجد الصافح الذي يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 500 سنة مضت، فضلًا عن العديد من الحصون والقلاع الحربية.
معماريون مهرة
بنى اليمنيون مساكنهم ذات الطوابق العديدة في تناسق كبير مع الطبيعة، حتى إنك لا تفرق بين الجبال والمنازل، فهي تتماهى مع ألوانه وشموخه، وتتمتع البيوت هناك بتصاميم فريدة تظهر مدى دقة الهندسة والتصميم المعماري لليمنيين، وزادت المدارج الزراعية تلك التصاميم جمالًا على جمالها.
بُنيت هذه المنازل البسيطة بحجارة صخرية مُتراصة بشكل متناسق دون استخدام الإسمنت بينها، جعلتها تصمد لقرون عدّة رغم عوامل التعرية المختلفة، ليس هذا فحسب فتلك الحجارة جعلت البيوت باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، فلا حاجة لهم لوسائل التدفئة ولا التبريد في غالب الأحيان إلا إذ قست عليهم الطبيعة أكثر.
تحتاج هذه المنازل زمن الأمطار الغزيرة إلى الترميم، ويكون ذلك بمواد بسيطة، إذ يجلب الأهالي التراب من الحقول الزراعية ويخلطونها بالحشائش والقش والماء وتشكيل ما يسمونه الخلب، ثم يضيفون التراب على حواف السطوح لمنع تسرب مياه الأمطار.
رغم كل هذه المصاعب والتضاريس القاسية، فقد تأقلم أهل اليمن مع الجبال الشامخة وأسسوا لأنفسهم قرى معلقة عانقت عنان السماء
ما يميز هذه المنازل الحجرية التي تلتف على عنق الجبل ليس جمالها فحسب وإنما أيضًا بناؤها بشكل متلاصق، وهي سمة أساسية من سمات بناء القرى المعلقة في اليمن، ما يُنبئ بمدى التقارب والانسجام الاجتماعي بين سكان تلك القرى المتناثرة في جبال اليمن العديدة.
حتى طرقاتهم مختلفة، فبين المنازل بنيت الجسور الداخلية والخارجية لتسهيل التنقل بين المنازل وداخلها، وفي حال حصار القرية قديمًا، فإن هذه الجسور تسهل نقل الطعام والسلاح من منزل إلى آخر بكل حرية، دون أن يشعر المحاصر بحركتهم الداخلية.
الجانب الأمني يعتبر هاجسهم الأكبر، فإلى جانب القلاع والجسور، أنشأ اليمنيون تحصينات في المنازل، وهي عبارة عن فتحات مائلة بجوار الباب يستطيع صاحب المنزل إخراج بندقيته منها والقنص دون أن يراه العدو.
مصاعب عيش متعددة
هذا الجمال الطبيعي والعمارة المميزة والتاريخ الثري لقرى اليمن المعلقة، يخفي وراءه ظروف عيش قاسية، رغم ذلك يصر اليمنيين على البقاء هناك والتشبّث بأرض الآباء والأجداد وعاداتهم المتوارثة منذ زمن طويل.
صعوبة الحياة في أعالي الجبال، جعلت اليمني يتقاسم المهمات، فالكل يعمل ولا مجال للراحة هناك منذ بداية النهار إلى غروب الشمس، وعادة ما تقوم المرأة بأعمال البيت كالطهي والنظافة فضلًا عن نقل العلف للمواشي ونقل الماء من أسفل الأودية بطرق بدائية تضطرها لحمل الماء على رأسها وصعود الجبال الوعرة.
يوجد من هم أكثر حظًا ويمتلكون حميرًا تساعدهم على نقل المياه، لكن هذا الأمر يستغرق قرابة الثلاث ساعات في كل رحلة، لصعوبة التضاريس ووجود الماء أسفل الجبال، وهو ما يزيد من المعاناة اليومية للأهالي في تلك القرى المعلقة.
أما الرجل فأبرز مهامه رعي المواشي وزراعة الأرض، ويبدأ موسم الزراعة على رؤوس الجبال في ديسمبر/كانون الأول من كل سنة، حينها يتوجه الرجال إلى الحقول، لنزع بقايا زرع الموسم السابق، وهو ما يطلقون عليه “السلفدة”، لتهيئة الأرض حتى تتم زراعتها من جديد.
بعد الانتهاء من “السلفدة” يتم حرث الأرض بأساليب بدائية تعتمد غالبًا على الدواب، وبذر الحبوب ودفنها بالتراب، وغالبًا ما يردّد الأهالي في أثناء هذه الأعمال المتعبة أهازيج شعبية بصوت مرتفع، لشحن الهمم والحماس للعمل.
معاناة الأهالي لا تتوقف عند جلب الماء وحرث الأرض وتوفير الطعام، إنّما تصل للتعليم أيضًا، فأغلب أطفال تلك القرى المعلقة يقطعون عشرات الكيلومترات يوميًا ويضطرون لصعود طرق جبلية صعبة ووعرة للوصول إلى المدرسة.
رغم كل هذه المصاعب والتضاريس القاسية، فقد تأقلم أهل اليمن مع الجبال الشامخة وأسسوا لأنفسهم قرى معلقة عانقت عنان السماء حتى اشتهرت في العديد من مناطق العالم، فأصبح البعض منها قبلةً للسياح، إلا أن الحرب المتواصلة في البلاد منذ سنوات عدة أثرت على ذلك.