بدأت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بتجريف عدد من المنازل في حي غويران بمدينة الحسكة، في خضمّ أزمة كبيرة تشهدها المنطقة جرّاء معارك كبيرة بين تنظيم “داعش” وقوات “قسد”، كما قالت مصادر لشبكة الخابور المحلية إن تنظيم PYD دمّرَ عددًا من منازل المدنيين في حي غويران، رغم نزوح أهالي المنازل خارج الحي بعد اندلاع الاشتباكات.
ما قامت به الوحدات الكردية في المنطقة ليس جديدًا، خاصة بعد المعارك التي حصلت، حيث تحاول “قسد” تغيير ديموغرافية المنطقة وتنتهك حقّ كافة المكونات التي تعارض سياستها، خاصة المكون العربي في المنطقة، مع العلم أن غالبية المناطق التي تحكمها ميليشيات “قسد” الكردية هي ذات أغلبية عربية، وهو ما تحاول القوات تغييره ولو بقوة السلاح.
أتَت المعركة الأخيرة في حي غويران بمنطقة الحسكة دون أن تصدر رواية واضحة لما حصل حتى الآن، ما يدفعنا إلى الشك في دوافع القوات الكردية التي قد تكون تحاول إكمال مخططها القائم على التهجير القسري والتغيير الديموغرافي بحقّ الأغلبية العربية، بهدف تحويل المنطقة من جزء لا يتجزّأ من الدولة السورية إلى كانتون كردي ضمن ما يُسمّى مشروع “روجافا” أو مناطق الإدارة الذاتية.
سياسة التهجير القسري
يقول الصحفي والخبير بالشأن السوري غسان ياسين: “إن المعركة التي حصلت في سجن غويران بين “داعش” و”قسد” تعطي مؤشرًا واضحًا على ضعف وهشاشة “قسد”، رغم كل الدعم الأمريكي غير المسبوق على الصعيد الاقتصادي حيث سُمح لهم ببيع النفط والاستفادة من عائداته، أو الدعم العسكري غير المنقطع منذ سنوات، ولا ننسى الإسناد الجوي الدائم إذ إن كل معارك “قسد” مع “داعش” كانت تحظى بغطاء جوي أمريكي، وكان آخرها في سجن غويران حيث تدخلت الطائرات الأمريكية لتقديم الدعم”.
ويرى ياسين خلال حديثه لـ”نون بوست” أن “هشاشة كيان “قسد” أتت من أن القادة في هذا الكيان ليسوا من السوريين إنما من الكرد الأتراك أو الإيرانيين، كما تحدّثَ أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة مطّلعون صحفيون أكراد من سوريا وباحثون وأشخاص كانوا منخرطين ضمن صفوف حزب العمال الكردستاني بفرعه السوري، كما أن القادة الميدانيين الفعليين المتواجدين على الأرض لا يتكلّمون العربية، بالإضافة إلى هدم وجود حاضنة شعبية يستند عليها هذا الكيان”.
بالعودة إلى سياسة التهجير القسري التي اتبعتها “قسد” فيما سبق، يمكننا الإشارة إلى أن هذا الكيان عملَ في كثير من المناطق على العبث بالتركيبة السكانية من خلال المجازر والانتهاكات وتجريف البيوت، وهو ما تؤكده الوقائع على الأرض، حيث ارتكبت القوات الكردية عدة مجازر في مناطق سيطرتها بمحافظة الحسكة بين عامَي 2013 و2014، وتركّزت تلك الأفعال الشائنة في القرى والبلدات العربية، ولعلّ أهمها مجزرة قرية الأغيبش العربية في ريف تل تمر، وأُعدم فيها 7 من أبناء القرية كما جُرف 27 منزلًا.
وقتلت الوحدات الكردية 35 شخصًا من أبناء القبائل العربية في تل براك بريف الحسكة في فبراير/ شباط 2014، ولا ننسى بالطبع مجزرة حي غويران التي حصلت بالمشاركة بين قوات النظام والوحدات الكردية في أغسطس/ آب من العام ذاته، أضف إلى ذلك مجازر ريف القامشلي التي اُرتكبت بحقّ أهالي قرى تل خليل والحاجية والمتينية في سبتمبر/ أيلول 2014، وراح ضحيتها 35 مدنيًّا من عشيرة واحدة.
عمدت هذه الوحدات أيضًا حرق القرى الخالية وتجريف المنازل وردم الآبار الزراعية وتلغيم المناطق الجاهزة للزراعة ومنع الأهالي من العودة إلى قراهم، وأبرز هذه العمليات حصلت في قرية الرحية في ريف القامشلي التي تمَّ حرقها، بالإضافة إلى عمليات التهجير لأكثر من 130 عائلة في رأس العين في أبريل/ نيسان 2014.
وفقًا لما جاء في تقارير منظمة العفو الدولية، فإن القوات الكردية حرقت قرى ريف تل حميس، كما جرفت 13 قرية في منطقة جنوب وادي الرد في ريف القامشلي في سبتمبر/ أيلول 2014 بعد حرقها، بالإضافة إلى تهجير سكان ناحية الهول التابعة لمحافظة الحسكة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015.
وعام 2015 نشرت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية تقريرًا ذكرت فيه أن الوحدات الكردية “طردت نحو 10 آلاف من العرب ضمن حملة تطهير عرقية تمارسها الميليشيات الكردية المسلحة ضدهم في شمال شرقي سوريا”، وأشارت الصحيفة حينها إلى أن القوات “تقوم بإحراق قرى العرب السنّة”.
استثمار بالمعركة وإكمال التغيير الديموغرافي
بالانتقال إلى معركة سجن غويران الحالية، فإن “قسد” ستجد فرصة لاستغلالها وتعزيز قبضتها الأمنية والاستثمار بموضوع التغيير والتهجير، وفي السياق يقول الصحفي السوري والخبير بشؤون المنطقة الشرقية في سوريا، زين العابدين العكيدي، إنه “منذ بداية الاستعصاء في سجن غويران وتحصُّن مقاتلي التنظيم فيه مع عدد من السجناء الذين انضموا إليهم كانت النتائج متوقعة مسبقًا، حيث ستدوم المعارك لأيام وتحسمها “قسد””.
ويرى العكيدي أن “القضية كانت ما بعد الأحداث، وستكون “قسد” المستفيد الوحيد منها لعدة أسباب، ولعلّ تصريحات الجنرال جون برينان جونيور أمس كانت واضحة: “نحن ندعم “قسد” وسنواصل دعمنا لهم وخطر “داعش” باقٍ””.
بدوره يقول الكاتب السياسي مهند الكاطع لـ “نون بوست”: “قسد بالفعل بدأت منذ اللحظة الأولى بالاستثمار بموضوع غويران ومعركة مفترضة مع داعش، فالتحالف الدولي أعلن انتصاره على “داعش” منذ سنتَين، وتراجعَ بذلك دور قسد وحتى دعمها الذي كان قائمًا على أساس الحرب ضدّ داعش، واستثمرت قسد الموضوع اليوم لتقول إنها لا تزال بحاجة للدعم، وأنها لا تزال تمثّل صمّام أمان لمقاومة “داعش” في المنطقة”.
يشير الصحفي السوري خلال حديثه لـ”نون بوست”: “ما حصل ويحصل في الحسكة سيثبّت أركان حكم “قسد” فيها وستنال دعمًا مضاعفًا مستقبلًا كونها تظهر الآن بمظهر المقاتل ضد الإرهاب المتمثل بـ”داعش””، ويضيف أنه “قبيل الأحداث وفي نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أقرّت “قسد” قانون بطاقة وافد على جميع العرب من غير سكان الحسكة، يمنعهم من دخولها إلا بكفيل، ولاقى القرار انتقادات عديدة ووُصف بالعنصري لتأتي أحداث الحسكة وتغطي عليه (مؤقتًا)”.
يذكر العكيدي أن “هناك خشية من PYD من تغيير ديموغرافي ناعم يجري في مناطقها، عبر بيع العديد من الكرد والعرب لأملاكهم هناك والهجرة، حيث 90% من المشترين هم عرب دير الزور والرقة، وهذا الأمر برأيي كان الدافع لهكذا قرار إضافةً إلى منع عمليات الاستهداف التي ينفّذها الطيران المسيَّر التركي هناك، ومنعًا من تسلُّل خلايا موالية لتركيا أو “داعش” كذلك”.
قد تفتح أحداث السجن الباب على مصراعَيه لعمليات واسعة ضد سكان أحياء غويران والزهور القريبَين من السجن، حيث تمَّ توثيق اعتقال 3 أشخاص من سكان غويران من قبل قوات “قسد” والتهمة هي “الإرهاب ومساعدة خلايا داعش”.
وفي السياق يقول العكيدي إن هذه الذريعة فضفاضة جدًّا وستكون مفتاحًا لعشرات عمليات الاعتقال بحقّ أبناء من سكان تلك الأحياء، ويمكن للبعض أن يدرجها تحت عنوان تغيير ديموغرافي إن زادت عن حدّها، أما عن قضية تهجير سكان أحياء بأكملها فيرى العكيدي أن “قسد” ليست غبية لتسقط في هذه الهفوة التي باتت وسائل إعلامها تستبعدها وتنفيها، بل ستزداد صلاحياتها ضد سكان تلك الأحياء خصوصًا ومناطقها عمومًا، وستكون الاعتقالات بالجملة ولن تُسأل عنها وستتذرّع أنها لمكافحة الإرهاب.
يُذكر أن القوات الكردية في دير الزور شنَّت حملة أمنية كبيرة طالت أكثر من 10 أشخاص في بلدتَي الزر وأبو النيتل، حيث اعتقلت 6 أشخاص في المدينة الأولى، أما في أبو النيتل الواقعة في ريف البلدة الشمالي تمَّ اعتقال 7 أشخاص من بينهم مدرِّس ومدير مدرسة، والتهمة “شكوك بالانتماء إلى “داعش””، وفقًا لما قاله العكيدي.
بدوره يرى غسان ياسين “أن “قسد” ستحاول استثمار ما حدث من أجل تعزيز سلطتها الأمنية على عموم سكان المناطق هناك من عرب وأكراد، وهنا تجدر الإشارة إلى نقطة مهمة بأن الحسكة لم تكن في يوم من الأيام ذات أغلبية كردية، إنما هي خليط من عدّة أعراق أبرزهم العرب، على خلاف ما يروِّج له أتباع “قسد” وإعلامهم”.
يضيف ياسين أن “كيان “قسد” سيحاول استغلال ما حصل من خلال استباحة السكان المحليين واستسهال اتهامهم بأنهم منتمين إلى تنظيم الدولة، ما يعني أن كل عربي خاضع تحت سيطرة “قسد” سيكون متهمًا بالانتماء إلى تنظيم الدولة حتى يثبت العكس”، مشيرًا إلى أن “القوات الأمنية ستكثِّف عملياتها الأمنية وتزيد وتيرة الاعتقالات”، ويستشهد ياسين بمشاهد تجريف البيوت في محيط السجن بتهمة أن أصحابها ينتمون إلى “داعش”.
يتساءل ياسين أنه في حالة كانت التهم صحيحة، أليس حريًا بمحاكمة المنتمين وسجنهم بدلًا من الممارسات التي تدلُّ على إجراءات التغيير الديموغرافي والتهجير القسري، خاصة أن “قسد” بدأت سياسة ممنهَجة بتهجير سكان قرى وبلدات منذ سيطرت على أول شبر في سوريا؟ ويشير ياسين إلى أنه “للأسف الآن ستبدأ مرحلة جديدة، حيث ستحاول “قسد” الاستثمار بمحيط السجن بمواصلة سياستها باعتقال أهل المنطقة وكل من يخالف رأيها سواء كان عربيًّا أو كرديًّا، بالإضافة إلى استمرار سياستها بالتغيير الديموغرافي وتغيير التركيبة السكانية لمحافظة الحسكة، من أجل إفراغها و تحويلها لاحقًا إلى كانتون كردي خالص، وهذا بطبيعة الحال لن يحدث”.
الحلول بالنسبة إلى العرب في المنطقة ضيقة وتعدّ خيارات مستحيلة في ظلّ قبضة أمنية شديدة من قبل الوحدات الكردية، في ظل دعم غربي واضح وتخلٍّ من الدول العربية، وهنا يرى الصحفي ياسين أن العرب “وضعهم صعب وحتى الأكراد الذين يرفضون سياسة “قسد””.
ويبيّن ياسين أن “هناك خطوات سريعة على العرب القيام بها هي التكتُّل من جديد، وإعادة التموضع والتنسيق العالي بين العشائر، والحلّ الوحيد هو التسلُّح، إذ إنه يجب على العشائر في مناطق سيطرة “قسد” ترتيب صفوفها وشراء السلاح وعدم السماح للوحدات الكردية بالتهجير القسري والانتهاكات وجرائم الحرب”.
ختامًا، يقول الكاتب السياسي السوري مهند الكاطع: “بالطبع ما حدث من عمليات تهجير إثر معركة استمرت ظاهريًّا أسبوعًا، ساهمت في نزوح أكثر من 45 ألف نسمة من حي غويران ومحيطه، وعمليات التجريف التي تعرضت لها مئات العقارات سيكون لها أثر كبير على مستقبل هذه العوائل، ورغم هذا كله لا أظن أن قسد قادرة على أي حال من خلال هذه الحوادث القيام بعملية تغيير ديموغرافي وتهجير واسع على غرار ما حدث في الرقة ودير الزور، فالظروف تغيّرت وتبدّلت اليوم”، مضيفًا: “علينا ألّا ننسى أن العرب يشكّلون أكثر من 70% من سكان المحافظة، ولا تملك قسد القدرة على فرض عواقب معيّنة على العرب، ولا تستطيع القيام بأكثر ممّا قامت به، لكن ربما الأحداث الأخيرة تجعلها تصعّد من عمليات المداهمات أو الاعتقالات تحت ذريعة تمشيط المنطقة من خلايا داعش”.