ترجمة وتحرير: نون بوست
خارج مبنى وزارة الشؤون المدنيّة وسط غزة، تجمّعت حشود من الفلسطينيين احتفالا بالحصول على بطاقات الهويّة. كان بعض أفراد العائلات يعانقون بعضهم البعض ودموع الفرح تنهمر من عيون الكثيرين، بينما قرّر آخرون توزيع الحلوى، وفي الأثناء كانت فرقة فنون شعبية تعزف أنغامها الاحتفالية عبر الشارع حيث يتوقّف المارة لالتقاط الصور والابتسامات تعلو مُحياهم.
صرخ مثنى النجار (34 سنة) وهو محمول على كتفي صديقه ويُلوّح ببطاقة هويته الخضراء قائلًا “لقد وُلدت اليوم. إن شعوري مثل عصفور تحرر من القفص وانطلق في الأفق الرحب”.
في السادس من كانون الثاني/ يناير، كان النجار من ضمن 3400 فلسطيني في غزة الذين حصلوا على بطاقة هوية للمرة الأولى بعد موافقة نادرة من الحكومة الإسرائيلية، التي تسيطر على سجل السكان الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
تأتي هذه الخطوة في أعقاب سلسلة اجتماعات عُقدت بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر، وافق خلالها الجانب الإسرائيلي على تقنين وضع 13.500 من الفلسطينيين والأزواج الأجانب المقيمين في غزة والضفة الغربية.
جاء هذا القرار بعد تجميد تصريح الهوية لمدة 10 سنوات، رفضت خلالها “إسرائيل” تقريبًا جميع طلبات الإقامة في جميع أنحاء الأراضي المحتلة، مما ترك عشرات الآلاف من الفلسطينيين وعائلاتهم دون أوراق ثبوتيّة قانونيّة.
حيال هذا الشأن، قال النجار وهو لا يزال لم يستوعب بعد أن حلمه قد تحقق “لقد انتظرت 26 سنة من أجل هذا اليوم، ولم أتصور أن أشهده”، وتابع “كنت أشعر باليأس، لكن عندما قرأت اسمي في القائمة الأخيرة، صُدمت وعجزت عن الكلام. لا أستطيع أن أشرح شعوري حيال ذلك، أشعر أن حياتي قد بدأت للتو”.
سياسة عنصرية
ينحدر النجار من عائلة فلسطينية لاجئة من يافا، ووالداه وُلدا خارج فلسطين. أما هو وإخوته الثلاثة فقد ولدوا في العراق ثم انتقلت العائلة إلى غزة عندما كان طفلا صغيرا، قبل أكثر من عقد من بدء الحصار الإسرائيلي على القطاع، أي عندما كان العبور أسهل قليلًا.
بعد أن تشكّلت السلطة الفلسطينية، دخلت أسرته غزة سنة 1993 بتأشيرات مؤقتة وافقت عليها حكومة الاحتلال. وعندما تقدموا للحصول على تأشيرات دائمة، رُفضت طلباتهم عدة مرات. وتعتبر عائلة النجار من بين عشرات الآلاف من العائلات الفلسطينية التي تعاني من تعسّف نظام التصاريح والهويّة الإسرائيلي وتعيش لعقود في الأراضي المحتلة دون أن يكون لها وضع قانوني.
خلال حرب 1967، فرّ آلاف الفلسطينيين من منازلهم إلى الدول العربية المجاورة. وبعد ثلاثة أشهر من احتلال إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، أجرت تل أبيب إحصاءً سكانيًا سجلت بموجبه السكان الذين كانوا يعيشون فعليًا في الأراضي المحتلة فقط. وقد أسفرت هذه الخطوة عن حرمان مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين فروا خلال الحرب من أوراق هويتهم مما منعهم من العودة إلى ديارهم.
على امتداد العقود التالية، سمحت إسرائيل لبعض الفلسطينيين بالعودة إلى الوطن عبر منحهم تصاريح زيارة، وقد تجاوز العديد منهم مدة التأشيرة المحددة. وكان الكثيرون، مثل والدي النجار، يأملون أن تؤدي احتمالية التوصل إلى اتفاق سلام نهائي بعد اتفاقيات أوسلو إلى شرعنة وضع إقامتهم.
رغم إقرار قانون 2003 وتعديلاته اللاحقة على أنه قانون مؤقّت، إلا أن الحكومة الإسرائيلية عمدت إلى تجديده على نحو متواصل وتطبيقه على نطاق واسع حتى يسري على الفلسطينيين وعائلاتهم الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
صرّح سمير زقوت، نائب رئيس مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، “لم يكن لدى هؤلاء الأشخاص مكان في العالم يذهبون إليه سوى غزة”.
تم تشديد القيود الإسرائيلية على حقوق الإقامة الفلسطينية خلال الانتفاضة الثانية، عندما سنّت إسرائيل قانون المواطنة والدخول إلى إسرائيل في سنة 2003 الذي يحظر لمّ شمل أسر المواطنين الإسرائيليين المتزوجين من فلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ساهم تعديل هذا القانون في سنة 2007 إلى تشريع حظر لمّ شمل الأسر في الحالات التي يكون فيها أحد الزوجين فلسطينيًا ينحدر من الأراضي الفلسطينية المحتلة ويكون الزوج الآخر أجنبيًا، وفرض هذا التعديل قيودًا أكثر صرامة على الحالات التي يكون فيها أحد الزوجين مقيمًا في “دولة معادية” مثل لبنان أو سوريا أو إيران أو العراق.
ورغم إقرار قانون 2003 وتعديلاته اللاحقة على أنه قانون مؤقّت، إلا أن الحكومة الإسرائيلية عمدت إلى تجديده على نحو متواصل وتطبيقه على نطاق واسع حتى يسري على الفلسطينيين وعائلاتهم الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
قال سمير زقوت “لقد تكبّد الفلسطينيون خسارة إنسانية كبيرة جراء هذا القانون”، مشيرًا إلى تقييده حريّة التنقل وحرية اختيار الشريك للزواج كجزء من الحريات الأساسية. وأضاف “ليس لدينا أدنى فكرة عن عدد العائلات التي تشتت أو عدد الزيجات التي دُمّرت جراء حرمان الفلسطينيين من حقهم الأساسي في الحصول على بطاقات الهوية”.
“لقد ناضلت طيلة 26 عامًا”
مثل استلام بطاقة هوية أمرًا أشبه بالخيال بالنسبة للنجار الذي كان آخر فرد من عائلته ينتظر استلام هذه الوثيقة الثمينة. تلقى إخوته ووالدته بطاقات الهوية الخاصة بهم خلال جولة من الموافقات التي صدرت بين سنتي 2007 و2009. وتوفي والده سنة 2009 قبل أن يحصل على بطاقة الهوية الخاصة به.
يتذكّر النجار ما أحسّ به قائلا “لن أنسى أبدًا ما حدث لوالدي. كان مصابا بالسرطان وبحاجة للسفر إلى مصر بشكل عاجل لتلقي العلاج الذي لم يكن متاحًا في غزة. فعلنا كل ما في وسعنا، لكنه لم يستطع المغادرة بسبب عدم امتلاك بطاقة هوية. ووافته المنية بعد سنة ونصف فقط من تشخيص المرض”.
بعد وفاة والده مرضت والدة النجار، وتطلّبت حالتها إجراء عملية قلب مفتوح في أحد المستشفيات المصرية. وبحلول ذلك الوقت، حصلت بالفعل على بطاقة هويتها، لكن النجار – أكبر إخوته – لم يتمكن من مرافقتها في رحلتها بسبب عدم امتلاك بطاقة هوية.
أخبرت الوزارة موقع “موندوايس” أنه من المحتمل أن يكون هناك العديد من الفلسطينيين من غير المتمتعين بصفة قانونيّة في غزة والذين لم يسبق لهم تقديم مطالب إلى الحكومة الفلسطينية.
قال النجار “على مدى 26 عامًا، كافحت من أجل الحصول على أبسط الحقوق الأساسية، بطاقة هوية وطنية. لهذا احتفلت اليوم أمام كل الكاميرات. أريد أن يعرف الناس أهمية الحصول على هذه الوثيقة، وأردت إيصال صوتي نيابة عن جميع الأشخاص الذين ما زالوا ينتظرون الحصول على بطاقات هويتهم”.
وفقًا للهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية في غزة، لا يزال ما لا يقل عن 6000 طلب إقامة قدمها فلسطينيون من غزة معلقة دون أن ترد عليها السلطات الإسرائيلية أو تحظى بموافقة. حتى أن بعض الطلبات تعود لسنوات التسعينات.
أخبرت الوزارة موقع “موندوايس” أنه من المحتمل أن يكون هناك العديد من الفلسطينيين من غير المتمتعين بصفة قانونيّة في غزة والذين لم يسبق لهم تقديم مطالب إلى الحكومة الفلسطينية.
يجب إنهاء الحظر المفروض على لمّ شمل الأسر
لطالما انتقدت جماعات حقوق الإنسان الفلسطينية إسرائيل بسبب حظرها لمّ شمل العائلات، ووصف البعض هذه السياسة بأنها “أكثر التشريعات عنصريةً” التي تهدف إلى “تقويض حقوق” الفلسطينيين.
تتناقض هذه السياسة بشكل صارخ مع القوانين الإسرائيلية الأخرى التي تسمح بتدفق المهاجرين اليهود إلى “إسرائيل”، وتُمكّن اليهود من جميع أنحاء العالم من الانتقال إلى “إسرائيل” والحصول على الجنسية ناهيك عن أن أزواج اليهود الإسرائيليين مؤهلون تلقائيًا للحصول على الجنسية بعد الزواج.
علق زقوت على ذلك قائلا “تشن إسرائيل حربًا على إنسانية الفلسطينيين. منذ قيام الدولة، سنت إسرائيل قوانين عنصرية ضد الفلسطينيين بسبب انتمائهم العرقي”. وقد استبشر زقوت بالموافقة الأخيرة على بطاقات الهوية واعتبرها خطوة إيجابية مؤكدة لآلاف الفلسطينيين وعائلاتهم، إلا أنها ليست كافية بأي حال من الأحوال. وأضاف: “بالسماح للفلسطينيين بالانخراط في سجل السكان، فإن إسرائيل تعكس أدنى حد من الالتزام بموجب القانون الدولي، فيما يمكن أن يعتبر “بادرة” أو علامة على حسن النية”.
في سياق متصل، أورد زقوت “في الواقع، إن سياسات إسرائيل الصارمة تجاه الفلسطينيين تحت الاحتلال تحرمهم من حقوقهم في المقام الأول – ويبقى الآلاف بلا صفة قانونية ويخضع الملايين لنظام التصاريح”، في النهاية يجب وضع حدّ لسياسة الحظر المفروض على لمّ شمل العائلات.
وأضاف أن “إسرائيل تشعر بالحصانة عندما تنتهك حقوق الفلسطينيين”، مشيرًا إلى أن الحكومة الأمريكية هي أكبر داعم لمعاملة “إسرائيل” العنصرية للفلسطينيين. وهو يعتقد أن “الرأي العام في الولايات المتحدة يمكن أن يغيّر المستقبل. نحن نطالب بحقوق الإنسان الأساسية، ونريد أن يضغط شعب الولايات المتحدة على قادته لدعم حقوق الإنسان في فلسطين، بدلاً من دعم الجانب الذي يواصل انتهاك هذه الحقوق”.
المصدر: موندوايس