يتحرك الشارع المعارض للانقلاب، فيظهر الرئيس غاضبًا يتوعد، عرفنا العادة والتقليد، لعبة تمريرات قصيرة بلا أهداف تسجل في أي مرمى، لذلك نجدها خاليةً من الإبداع لكنها توهم بحركة، والإيهام بالحركة لا يقدم بالبلد، لهذا نسأل بعد أن عقد البرلمان جلسته الافتراضية يوم 27 يناير/كانون الثاني متحديًا التجميد الرئاسي لنشاطه، ماذا يكون بعد الجلسة الافتراضية التي احتفلت بذكرى المصادقة على الدستور المعلق، هل هي خطوة إلى الأمام أم فصل من مناكفة غير منتجة لحل؟
الجلسة الافتراضية أخيرًا
كان هناك سؤال معلق منذ الانقلاب (25 يوليو/تموز) لماذا لا يعقد البرلمان جلساته افتراضيًا (وقد حيل بين النواب ودخول القاعة)؟ فالقانون يسمح له بذلك وقد عقد جلسات مماثلة أيام الحجر الصحي وكانت جلسات قانونية، وبالتدريج عرفنا أن النواب ليسوا على قلب رجل واحد وأن شقًا كبيرًا منهم يقف جهرةً وضمنًا مع الانقلاب رغم أنه جمد رواتب النواب وفيهم من جاع ومرض ولم يجد علاجًا وواصل القبول بوضع التجميد سيرًا مع رغبات الانقلاب في حل البرلمان.
التداول في عقد الجلسة الافتراضية تم خلال إضراب الجوع الذي نظمه مواطنون ضد الانقلاب/المبادرة الديمقراطية، وكانت النية رفع الإضراب أمام جلسة البرلمان افتراضيًا اعتمادًا على أنه سلطة مؤسسة وشرعية وانتهى القرار إلى أن تكون الجلسة احتفالًا بذكرى المصادقة وكانت، فماذا نتج عنها؟
المداولات التي تناقلها العالم عبر الشبكة وعبر قنوات إعلامية أجنبية وتجاهلها الإعلام المحلي كانت حادةً في لهجتها ضد الانقلاب وضد الإجراءات غير الدستورية التي أعلنها المنقلب ويسيّر بها البلد بصفة فردية، لقد زادت في توضيح المواقف وإظهار الفرز الحقيقي داخل البرلمان، فقد تجاوز الحضور النصاب القانوني لجلسة عامة وهي 73 من النواب، ولم يتغيب إلا الموالون للانقلاب والمطاردون.
لكن رغم الحدة والوضوح فإن الجلسة لم تتخذ قرارات حاسمة كان البعض ينتظرها مثل إعلان العودة بقوة إلى مقر البرلمان وفتحه والاعتصام به ومواصلة العمل من داخله كحركة تحد سياسي وقانوني للانقلاب، ولم تعلن الجلسة أنها جلسة مفتوحة وستواصل العمل بالصيغة الافتراضية وهذا ترك انطباعًا أن البرلمان لا يريد الدخول في مواجهة تامة وحاسمة مع الانقلاب، أي أنه أجل الحسم المفضي إلى عزل الرئيس بجريمة الاعتداء على الدستور، فضلًا عن أفعال أخرى قابلة للتوصيف الإجرامي ليس أقلها الخيانة العظمى، وهنا تطرح الأسئلة الجديدة عما بعد الجلسة الاحتفالية المنقطعة عما بعدها.
البحث عن رسالة سياسية في ركام الكلمات الكبيرة
الرسالة الأولى التي يمكن القول إنها أطلقت في الجلسة هي أن الهدف من الجلسة لم يكن الحسم العملي مع الانقلاب والمرور إلى الحلقة الأخيرة المطلوبة أي إسقاط الانقلاب، بل الإعلان عن أن البرلمان لا يزال فاعلًا وأن التعليق ليس إجراءً نافذًا على النواب ولا على المجلس وأن الدستور لا يزال هو المرجع الوحيد المعتمد في تنظيم الحياة السياسية، لذلك تركز تدخل رئيس المجلس على إلغاء الأمر عدد 117 أو الدستور المؤقت الذي يحتكم إليه الرئيس وحزامه.
الرسالة الثانية الممكنة هي أن نصف الموقف يبعث برسالة تجنب الصدام مع الرئيس وحزامه الأمني بالأخص (ويضم كل مكونات القوة الصلبة باسم الحفاظ على الدولة)، وفي نصف الموقف دعوة إلى التفاوض لكن تحت سقف الدستور، وبقدر ما في هذه الرسالة من رغبة في الحل السلمي دون مواجهات في الشارع (باقتحام البرلمان مثلًا)، فإن رد الرئيس الذي جاء سريعًا لا يكشف تفاعلًا إيجابيًا، بل كشف تصعيدًا بلهجة وعيد بما يعني أن الرسالة لم تصل، وهذا يؤدي إلى طرح سؤال آخر: متى تكون الرسالة الثانية؟ وما مضمونها إذا كان المتلقي يصم أذنيه؟
الرسالة الثالثة موجهة من الجلسة في تقديرنا إلى الخارج الذي يراقب الوضع عن كثب ومفادها البرلمان هنا ويملك النصاب القانوني للانعقاد بشكل دائم إذا لم تصل الرسائل إلى مقصدها، أي أن هناك جهةً شرعيةً في البلد يمكن الحديث معها بشأن المستقبل.
هناك حديث يقال سرًا أو همسًا ويصل الجميع وهو أن أمر القوة الصلبة بيد السفارات وهناك من ينتظر أن يلقى إليها أمر بالتخلي عن الانقلاب
كيف ستكون استجابة الخارج؟ هل يتقدم في اتجاه البرلمان ويتعامل معه كسلطة شرعية أم يظل محافظًا على موقفه من المشهد برمته بدعوى الحفاظ على السيادة (التي لا يحافظ عليها أصحابها)؟
ردود فعل السفارات لم تظهر بعد، نقول السفارات النافذة بكل أسف، فقد صار دورها محددًا طبقًا لمصالح دولها ولعل حديث كواليس يجري الآن في اتجاه حلحلة الوضع السياسي تمهيدًا لمعالجة الوضع الاقتصادي الذي ينذر بكارثة يراها الجميع.
هناك حديث يقال سرًا أو همسًا ويصل الجميع وهو أن أمر القوة الصلبة بيد السفارات وهناك من ينتظر أن يلقى إليها أمر بالتخلي عن الانقلاب، لكن في هذا الحديث أمنية العاجزين عن الفعل بأنفسهم، لذلك يتمنون أن يفعل لهم ويغفلون أن الفعل لهم هو فعل بهم في النهاية وأن تلك آخر علامات وجودهم ودورهم وسيادتهم على بلدهم.
قنبلة صوتية أو صرخة في واد
سيفهم هذا الحديث مزايدة من وراء الحاسوب، لا بأس من ذلك، لكن التخاطب عبر القانون (أو المؤسسات) دون شارع متحرك لا يزعج الانقلاب ولا حزامه، بل يزيده طمأنينة خطاب الرئيس المتوعد فيه رسالة واضحة لن تقدروا علي بحديث القانون والمؤسسات فأنا الدولة.
وفيها أيضًا الشارع تحت رقابتي وسلطتي وقد قتلت منكم يوم الرابع عشر ولم تقدروا على شيء إلا صلاة جنازة حزينة، وأنني ماض في مشروعي وقد قدمت لكم أرقامًا عن استشارة بخصوص النظام السياسي المرغوب والأرقام لصالحي، ودعكم من الطعن في مصداقيتها، فالمصداقية تصنعها القوة والقوة معي، باختصار سأحكم على هواي وهاتوا أعلى ما في خيلكم فاركبوه.
لا حوار عن المستقبل مع الرئيس، فهذا الرئيس لا يحاور، والرسائل السلمية لا تجدي، فهل يكون الشارع؟ ينكشف هنا الوجه الآخر للمعضلة التونسية، الشارع الممكن هو شارع حزب النهضة وهو شارع متردد وحذر، فإذا أراد التقدم والتنسيق مع بقية المعارضين للانقلاب طالبوه بثمن مسبق فيما بعده وإن لم يعد بشيء (ولا أراه قادرًا على أي وعد) استنكفوا عن التنسيق، دون أن ينتبهوا إلى أن تخليهم يزيد في عمر الانقلاب ويزيد في تعميق الأزمة التي سيرثها الجميع بعده.
ماذا ستكون نتيجة جلسة البرلمان إذًا؟ حتى الآن هي صرخة في واد سحيق ما لم يعقبها تحرك الشارع بمن حضر وتحمل الكلفة، هناك كلفة أخرى كامنة أن ينفلت الشارع على الجميع وساعتها لن يقدر أحد الكلفة في الأرواح والمؤسسات.