يواجه السوريون في مناطق سيطرة نظام الأسد، تحديات كبيرة خلال فصل الشتاء، جراء جملة من التقنينات الحكومية المجحفة التي طالت معظم المواد والخدمات الرئيسية التي يستخدمها السوريون للتدفئة خلال الشتاء، وعلى رأسها المحروقات والكهرباء، التي باتت تمنح للمواطنين عبر نظام “البطاقة الذكية” التي أصدرتها الحكومة في وقت سابق، بغية القضاء على الطوابير إلا أنها باتت عبارة عن آلية إذلال جديدة للمواطنين.
ولا يختلف هذا الشتاء عن سابقيه إلا بمدى صعوبته جراء انخفاض درجات الحرارة إلى مستوى غير مسبوق في معظم أنحاء البلاد، ما شكل واقعًا شتويًا سوداويًا، في ظل غلاء فاحش بأسعار المواد الأساسية للتدفئة أو ندرتها، فيما تغيب الحلول الحكومية كالعادة.
تقنين الكهرباء.. والأمبيرات بديلًا
حسان الحلو، موظف بأحد معامل مدينة حلب، يحاول التكيف مع الواقع الخدماتي والمعيشي المتردي، إلا أن مصادر الدخل لديه لا تكفي لتغطية مجمل نفقات واحتياجات أسرته، كونها تزداد مع اضطراره إلى تأمين مصاريف التدفئة والإنارة عقب قانون التقنين الجديد الذي يصل إلى 5 ساعات قطع وساعة واحدة وصل بشكل دوري خلال النهار.
ويقول الحلو في حديثه مع “نون بوست” إنه يدفع مبلغ 26 ألف ليرة سورية أسبوعيًا كإيجار لأمبيرين، من مولدة الحي الكهربائية، إذ تصل فترة تشغيله إلى 10 ساعات يوميًا، بسبب اضطراره لإنارة منزله الواقع في حي السكري بمدينة حلب، بعد انقطاع الكهرباء لساعات طويلة تحت ذريعة التقنين الذي يهدف إلى إيصال الكهرباء للمناطق كافة.
ويعود عجز حكومة نظام الأسد عن توفير الكهرباء إلى سببين رئيسيين، أولهما: عجزها عن توفير الغاز لتشغيل الطاقة الكهربائية، نتيجة العجز المالي، إضافة إلى عدم قدرتها على استجرار المحروقات إلا من إيران.
ويضيف الحلو: “كل فترة تظهر تسعيرة جديدة للأمبيرات، بحجة ارتفاع سعر المازوت، وسط تجاهل لجان المراقبة والتفتيش للأسعار، إضافة إلى تخفيض الهرتز الذي يصل للمنزل إلى 180 عوضًا عن 220، ما يؤثر سلبًا على الأدوات الكهربائية المستخدمة في المنزل، ما يعني أنه لا يستخدم إلا للإنارة ولا يمكن استخدامه للتدفئة”، ويؤكد الحلو أنه يضع كامل راتبه الذي يتقاضاه من عمله في معمل بلاستيك، إيجارًا للأمبيرات، إذ يفوق المبلغ الذي يدفعه 100 ألف ليرة سورية.
يدير شبكات الأمبيرات العاملة في مدينة حلب، تجار حرب ومنتفعون يمتلكون سلطةً تنفيذيةً في مناطق وجودهم، ويقدمون خدمة “الكهرباء البديلة” بعد عمليات التقنين التي طالت معظم المحافظات السورية، ويقيم هؤلاء علاقات مع المسؤولين العاملين في القطاع العام.
ويعكس تنوع الأسعار بين المولدات الكهربائية التي تعمل ضمن أحياء حلب، تردي الواقع الخدمي واستغلال مسؤولي الأمبيرات الغياب الحكومي وسيطرة الفساد على القطاع.
شتاء بارد.. والمازوت مقنن
كان الأهالي يعتمدون على الكهرباء بشكل رئيسي في التدفئة خلال فصل الشتاء، إلا أن فرض التقنين دفع الأهالي إلى اللجوء للمحروقات وأبرزهما المازوت والغاز، إلا أنهما كانا هدفًا رئيسيًا للحكومة في برنامج التقنين الذي يمنح كل عائلة مخصصات شهرية من المازوت المدعوم بسعر التكلفة الذي يصل إلى 1700 ليرة سورية للتر الواحد.
تبلغ قيمة الـ50 لترًا التي بدأت توزع في الدفعة الثانية بموجب دفتر العائلة والبطاقة الذكية، 85 ألف ليرة سورية، وهو متوسط قيمة مرتب الموظف الشهري لمعظم العاملين في القطاع العام بمناطق حكومة نظام الأسد، في حين لا تكفي الـ50 لترًا لمدة أسبوعين فقط، بحسب ما أوضح أحمد المصطفى خلال حديثه لـ”نون بوست”.
وقال المصطفى إنه لا يستطيع الحصول على مخصصاته من المحروقات نتيجة الازدحام الشديد في مراكز التوزيع، فقد انتظر نحو 10 ساعات تقريبًا بعدما حصل على الرسالة الخاصة بتعبئة المحروقات المرتبطة بالبطاقة الذكية، فقد اجتمع في مكان التوزيع نحو 600 شخص نصفهم لم يحصلوا على المازوت.
وأضاف: “فعليًا هذه الكمية من المازوت المنزلي لا تكفي لتشغيل مدفئة واحدة لمدة أسبوعين، ما يعني أننا سنضطر لشراء المازوت من الأسواق السوداء حيث يبلغ سعر اللتر الواحد أكثر من 2500 ليرة سورية، بمعنى أن تكلفة الـ50 لترًا ستصل إلى 125 ألف ليرة، في حال استطعت الحصول على المازوت في تلك السوق أصلًا”.
يكابد السوريون ظروفًا قاسيةً على مدار العام، وتزداد معاناتهم في فصل الشتاء إذ يمثل الحصول على مادتي المازوت والغاز تحديًا كبيرًا، في ظل استغلال التجار واحتكارهم للمواد الرئيسية التي يحتاجها الأهالي، وسط عجز حكومي، ساهم في عزوف الكثير من الأسر عن شراء المازوت واللجوء إلى الحطب كحل بديل، من خلال شرائه في حال توافر المال، بسعر 400 ألف ليرة سورية للطن الواحد.
بينما يلجأ البعض إلى قطع الأشجار في المناطق الحراجية لتأمين التدفئة، ومن جهتها تقوم السلطات المحلية المتمثلة بالضابطة بالحد من عمليات قطع الأشجار، رغم اضطرار الأهالي إلى تأمين وسائل التدفئة المناسبة لأسرهم.
وعملت حكومة النظام على تسليم دفعات من المازوت، لكنها عبارة عن فتات لا تغني من جوع، بمعنى أنها لا توفر الدفء للأسرة خلال الفترة بين الدفعتين، ولا تشكل نسبة العائلات التي حصلت على المازوت المدعوم إلا 10%، من العائلات المقيمة في مناطق سيطرة النظام، بحسب ما أوضح الصحفي ممتاز أبو محمد.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يصل راتب الموظف الحكومي في مناطق نظام الأسد إلى 30 دولارًا أمريكيًا، وهو فعليًا لا يمكن أن يغطي المازوت المنزلي والكهرباء ومعظم الاحتياجات، لا سيما بعد إيقاف حكومة النظام دعم البضائع والسلع الأساسية، ما جعل أسعارها مرتفعة جدًا أمام الأجور”.
ويؤكد ممتاز وجود فئة منتفعة من الوضع العام من تجار حرب وقادة ميليشيات، تعمل على احتكار المواد الرئيسية رغم حاجة الأهالي لها، ويرى أن عمليات التقنين تهدف إلى إخضاع الأهالي في مناطق النظام بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى عجز الحكومة عن توفير المحروقات والكهرباء للسكان.
عجز وغياب للحلول
تتحكم الظروف المعيشية والاقتصادية التي يعيشها السوريون في مناطق سيطرة نظام الأسد، بواقعهم في شتى جوانب الحياة، حيث يبحث معظمهم عن أمل للتشبث به وسط حياة مليئة بالتقنينات، وعجز السلطة عن السيطرة على الميليشيات المتنفذة والمتحكمة بالسوق والتجار المنتفعين، أو تآمرها معهم على الناس.
ويقول الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “نقص حوامل الطاقة في مناطق سيطرة النظام يخضع لأسباب متعددة، فالعقوبات الدولية بالفعل تؤثر على إمدادات المحروقات، فغالبية الدول تمتنع عن البيع للنظام بفعل قانون قيصر، فالمصدر الرئيس للمحروقات هي إيران عن طريق الخط الائتماني، وإيران ضعيفة نسبيًا من حيث المتطلبات اللوجستية اللازمة لنقل النفط، لذلك لا تستطيع توفير المحروقات أكثر من المتوافر حاليًّا”.
وأضاف “من جهة أخرى فإن ارتفاع سعر النفط عالميًا لعب دورًا في صعوبة توفير المحروقات في ظل موارد مالية شحيحة للنظام، وفي ذات الوقت يحاول النظام استخدام جزء من واردات المحروقات لترميم المخزون العسكري اللازم للآلة العسكرية”.
ويرى أن النظام بلغ من الضعف السياسي والاقتصادي ما يجعله عاجزًا عن حل أي مشكلة، كما أنه يسعى لتخفيف حدة المعاناة عن فئات محددة متنفذة، كتقليل ساعات التقنين في بعض الأحياء الغنية في العاصمة دمشق التي يقطنها كبار التجار والمتنفذون، مع إهمال تام لباقي فئات الشعب حتى الفئات المؤيدة له.
وتلعب الميليشيات دورًا في شح المحروقات من خلال استحواذها على جزء منها لتشغيل آلياتها، إضافة إلى الفساد المستشري في مؤسسات النظام المسؤولة عن توزيع المحروقات، ما ساهم في توافر المادة في السوق السوداء مقابل ندرتها في السوق المدعوم، وسط ضعف القدرة الشرائية للسوريين التي لا تمكنهم من الشراء من السوق السوداء، التي باتت أسعارها عالية جدًا في ظل انخفاض الأجور، ما جعل السوريين أمام خيارات معقدة إما الموت بردًا وجوعًا وإما الهجرة من البلاد.