ترجمة وتحرير: نون بوست
مع الاحتمال الخطير لنشوب حرب بين روسيا وأوكرانيا؛ فإن وسائل الإعلام الغربية تبقى منقسمة حول مسألة ما يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أوكرانيا، فيجادل البعض بأنه لا يمكن لأحد أن يفهم منطق بوتين ويصر على التركيز على المصالح الموضوعية لروسيا وتكلفة ومزايا سياستها الخارجية، ويواصل آخرون التكهن بشأن نوايا بوتين وأولوياته الحقيقية فيما يتعلق بأوكرانيا والغرب.
وعلى الرغم من تعقيد منطق الكرملين وعدم القدرة على التنبؤ به؛ فإن هناك ثلاثة عوامل على الأقل مفقودة حاليًا من الخطاب الغربي فيما يخص هذه الأزمة.
الأول: هو أنه بغض النظر عن طلب روسيا ضمانات ملزمة قانونًا من الغرب بشأن قضايا مثل إنهاء توسع الناتو، فليس هناك ما يضمن أن هذه الضمانات ستوقف روسيا، وبغض النظر عما يسمى بالضمانات الصارمة التي يمكن أن يقدمها الغرب افتراضيًّا؛ فلن يكون ذلك كافيًا لنظام بوتين.
ففي 21 ديسمبر/كانون الثاني 2021؛ قال بوتين في اجتماع موسع لمجلس وزارة الدفاع الروسية إنه حتى الالتزامات الغربية المكتوبة لا تضمن أي شيء لأن الغرب ينسحب بسهولة من المعاهدات، وهذا يعكس النقاش الداخلي داخل القيادة الروسية حول ما إذا كان يمكن اعتبار الالتزامات المكتوبة ملزمة تقريبًا.
وقد تغيرت طبيعة روسيا تحت حكم بوتين في السنوات القليلة الماضية، سوءا على المستوى الخارجي كصورة عامة أو حتى على المستوة الداخلي بشكل جذري؛ ففي السنوات السابقة، عمل بوتين كزعيم لدولة ضعيفة جيوسياسيًا محاطة بلاعبين أكثر قوة وعداء، ولعبت روسيا دور دولة مضطهدة ومضطهدة تسعى إلى العدالة الجيوسياسية، رهينة الظروف التي خلقتها وتأثرت بالآخرين، وقد تجرؤ أحيانًا على اغتنام الميزة عندما يبقى الغرب بعيدًا عن شؤونه، كما هو الحال عندما تم ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، لكنها تعتمد على منطق دفاعي صريح في تحركاتها.
لكن في عام 2018، تغير كل هذا؛ فقد تسبب نشوة النجاح العسكري الروسي في سوريا، ودورها الفريد في آسيا الوسطى، وزيادة تواجدها في إفريقيا؛ وقبل كل شيء “أسلحتها الرائعة” المطورة حديثًا؛ تسبب كل ذلك في تحول بوتين من الشعور وكأنه لاعب مضطهد إلى شخص يمكنه المضي قدمًا وبعيدًأ عن النفوذ التقليدي لروسيا؛ فلم يعد الطلب الحالي، على حد تعبير نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف وهو “الضمانات الصارمة والمقاومة لكل شيء والملزمة قانونًا” نابعة من الضعف الجيوسياسي، بل من على العكس، فإنها أصبحت تنبع من الإيمان بحق روسيا الكامل والمبرر تاريخيًا في إعادة كتابة القواعد؛ مع الغرب أو بدونه.
إن هناك رسائل رسمية وغير رسمية مستمرة من موسكو مفادها أن العالم قد تغير، وأن الوضع الراهن لم يعد شرعيًا، والمؤسسات والقواعد الدولية قد أصبحت خرابًا، والدبلوماسية بمعناها التقليدي لم تعد موجودة، وأن الجميع يتكيف قدر الإمكان، وانهارت قيمة البيانات والمواقف العامة.
وقد بدأت روسيا نفسها في تجاوز الخطوط الحمراء للآخرين – عبر الهجمات الإلكترونية، والسياسات الإعلامية العدوانية، والغارات الجيوسياسية، والتدخلات العسكرية – بغض النظر عن التحذيرات بشأن الضرر الناتج، وأصبحت السياسة الخارجية الروسية اليوم لا تتعلق بالغرب فحسب، بل تتعلق أيضًا بمصالحها الجيوسياسية الخاصة، والتي غالبًا ما لا تكون لها علاقة مباشرة بالغرب على الإطلاق. ولا توجد ضمانات أمنية يمكن أن تغير ذلك.
يبدو أن العقوبات الصارمة جنبًا إلى جنب مع التفاعلات المتقطعة ولكن المثمرة في مجالات الاهتمام الثنائي هي الحالة الأكثر راحة لهذه المجموعة من النخبة الروسية التي تعتبر الأكثر هيمنة اليوم.
بعبارة أخرى؛ حتى مع افتراض أنه يمكن التوصل إلى اتفاق؛ فإن روسيا لا تستطيع ولن تضمن للغرب أنها ستمتنع عن استراتيجتها التوسعية.
ولذلك؛ انتقلت روسيا من السياسة الدفاعية إلى السياسة الخارجية الهجومية؛ وهو نهج جديد أثبت فعاليته بالنسبة لبوتين، وسيتم استخدامه على نطاق أوسع؛ فقد قال في نوفمبر/تشرين الثاني 2021: “تحذيراتنا الأخيرة كان لها تأثير معين”، كما أنه طلب من وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إبقاء الدول الغربية في حالة توتر “لأطول فترة ممكنة، حتى لا يخطر ببالهم أن يقيموا نوعًا من الصراع على حدودنا الغربية، وهو ما لا نحتاجه”، ولهذا فإنه بعد أن وجدت موسكو صدى لهذه الاستراتيجية الهجومية، فستكون مترددة في التخلي عن الجهود التي أثرت على الشؤون الدولية بشكل ملحوظ أكثر من أي تحركات دفاعية.
ليس هذا هو كل شيء، ولكن هناك الـ”سيلوفيكي”، أو الوكالات الأمنية (أو الحرس القديم)، والتي بدأت تدريجيًّا تلعب دورًا أكثر أهمية في صنع القرار منذ عام 2014، سواء في الشؤون الداخلية أو الخارجية.
إن هناك عدة اختلافات أيديولوجية مهمة في كيفية ينظر الدبلوماسيون والسيلوفيكي إلى طريقة التعامل مع العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة؛ فبينما يرى الدبلوماسيون أن الولايات المتحدة وروسيا قوتان عظميان لهما مسؤوليات تاريخية، فإن السيلوفيكي يعتبرون كلا البلدين مقامرَيْن وينتهكون القانون الدولي بانتظام ويتصرفون خارج القواعد، وبالنسبة لهم فإن القوة دائمًا على حق، وهذا هو السبب في أن المواجهة المتصاعدة والجزاءات لا تخيف السيلوفيكي، بل على العكس من ذلك، تتيح لهم المزيد من الفرص.
ويظل السيلوفيكي المصدر الرئيسي لانعدام ثقة بوتين في الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، لكنهم يقنعون الرئيس أيضًا بأن السيناريو الأسوأ قد يكون إجبار الغرب على التعامل مع روسيا بشكل أكثر براغماتية، من خلال تطوير علاقات أوثق بين الأجهزة الأمنية وجعل العلاقات أكثر اتزانًا وأقل أيديولوجية (بمعنى عدم إلقاء المزيد من المحاضرات حول الديمقراطية).
وبالإضافة إلى ذلك، وبالنظر إلى أهمية الأمن السيبراني لإدارة بايدن؛ فإن موسكو تعتقد أن لديها الآن الحجة التي ستجبر واشنطن على التعاون.
ويبدو أن العقوبات الصارمة جنبًا إلى جنب مع التفاعلات المتقطعة ولكن المثمرة في مجالات الاهتمام الثنائي هي الحالة الأكثر راحة لهذه المجموعة من النخبة الروسية التي تعتبر الأكثر هيمنة اليوم.
والقضية الثانية – التي يتم التغاضي عنها حاليًا – هي أنه في حالة حدوث عملية عسكرية ضد أوكرانيا وتصاعد المواجهة مع الغرب؛ فإن النظام الروسي سيصبح أكثر توطدًا بينما يزيد قمع المجتمع أكثر من أي وقت مضى؛ فلن تثير الحرب احتجاجات أو تخلق المزيد من المعارضة أو تضعف النظام؛ على الأقل على المدى المتوسط.
هناك، تقريبًا، مجموعتان رئيسيتان داخل النخبة الروسية؛ الأول يتكون من صانعي القرار المحافظين، بما في ذلك السيلوفيكي، الذين هم على استعداد لتحمل أي تكاليف للمواجهة الجديدة، بل وسيستفيدون منها، ويهيمنون على جدول الأعمال، ويؤججون مخاوف بوتين، ويثيرون التوتر ويصعدونه.
العقوبات، التي ستزيد بشكل كبير من تكلفة العملية العسكرية، قد لا يكون لها سوى أثر بعيد المنال على الساحة السياسية، حتى لو أدت بشكل غير مباشر إلى تفاقم الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
وتتكون المجموعة الثانية من التكنوقراط الذين يهيمنون على الحكومة ولكن ليس لديهم صلاحية للتدخل في الأمور الأمنية أو إثارة مخاوف بشأن الجغرافيا السياسية، كما أنهم مكلفون بتكييف الاقتصاد والنظام المالي مع أي صدمات جيوسياسية.
وهناك أيضًا النخبة التجارية (باستثناء أصدقاء بوتين المقربين، الذين غالبًا ما يكونون أكثر تشددًا من الناحية الأيديولوجية من السيلوفيكي)، والذين أطيح بهم من صنع القرار السياسي منذ سنوات عديدة وهم الآن محرومون من الحق في التحدث عن الجغرافيا السياسية مع السلطات، وأفضل إستراتيجية يمكن أن يتبعوها، في حالة حدث التصعيد؛ هي الاختفاء التام والصمت لتجنب أي اشتباكات مع السلطات يمكن أن تثير الشكوك حول ولائهم أو وطنيتهم.
أما بالنسبة للمجتمع؛ فإن الشعب الروسي الذي يركز في الغالب على المشاكل الاجتماعية وقد أظهر أنه سئم من الجغرافيا السياسية؛ فإنه لن يحتج إذا اندلعت الحرب؛ ففي استطلاع حديث للرأي اعتبر 50 بالمائة من الروس أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي هم الملومين في التصعيد الحادث على الحدود الروسية الأوكرانية، بينما قال أربعة بالمائة فقط إن المسؤولية تقع على عاتق بلادهم.
إن المجتمع الروسي مكتئب سياسيًا، ولا تزال احتمالية الاحتجاج منخفضة نسبيًا، فلقد تم إنهاء أي معارضة كان من الممكن أن تؤدي إلى استياء محتمل، وتم تدمير الخوف من الحرب بشكل روتيني.
بالإضافة إلى ذلك؛ أصبح النظام نفسه أكثر قمعًا وتعصبًا، والتصعيد الجيوسياسي لا يمكن إلا أن يزيد من تفاقم هذا القمع؛ ففي أسوأ السيناريوهات، سيضيق الكرملين الخناق أكثر، ويزيد من السيطرة السياسية، ويقمع المعارضة، حتى تلك التي توجد داخل النظام، خاصة وأن لدي جميع الموارد والأدوات للقيام بذلك ولا يواجه أي مقاومة داخلية.
إن العقوبات، التي ستزيد بشكل كبير من تكلفة العملية العسكرية، قد لا يكون لها سوى أثر بعيد المنال على الساحة السياسية، حتى لو أدت بشكل غير مباشر إلى تفاقم الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
عندما ينظر العالم إلى صورة روسيا الأسوأ على الإطلاق، فإن الحوار المستمر يعني أن هناك فرصة على الأقلأ فيما يتعلق بالتصعيد الجديد؛ أنه روسيا ستكون أكثر عدم تماسكً وثقة بالنفس من اليوم
العامل الثالث والأخير هو أنه بدون إعادة تشكيل جذرية لهيكل الأمن العالمي (والذي لا يبدو أنه سيحدث في الأفق)؛ ترى روسيا أوكرانيا كأرض يجب إعادتها إلى الإشراف الجيوسياسي لموسكو بأي ثمن، وفي الوقت الحالي يهدف الكرملين إلى منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو، لكن هذا الطلب لا يعالج المشكلة الأساسية لنوايا روسيا تجاه أوكرانيا: تشكيل مستقبلها السياسي وتهميش جميع اللاعبين الأوكرانيين باستثناء هؤلاء المقبولين لدى الكرملين.
تخلق صورة النخبة الحاكمة الروسية الراسحة بعمق والصورة المقابلة عن النخب المفلسة، والدولة الفاشلة، والعجز الجيوسياسي في أوكرانيا، توقعًا بحدوث اضطرابات حتمية فيما بينها وهي المرتبطة بخطر الانهيار الإقليمي والمناوشات الداخلية.
فقبل التصعيد الحالي بوقت طويل؛ كانت موسكو تستعد لفشل أوكرانيا كدولة، وكان بعض المحافظين الروس حريصون على مساعدة هذه العملية، ولهذا؛ سواء حدث هجوم عسكري أم لا، فإن الكرملين يتصور حدوث فوضى داخلية في غضون بضع سنوات من شأنها أن تفتح الباب أمام روسيا للتدخل المباشر في الأراضي الأوكرانية، فهذه مجرد مسألة وقت، ولا يمكن لأي ضمانات أمنية أن توقف ذلك.
لا يعني أي من هذا أن الحوار محكوم عليه بالفشل في منع روسيا من تنفيذ استراتيجية الغزو، بل قد يكسب الوقت (الذي من شأنه أن يكون ضد نظام بوتين)، ويبطئ نواياه المتشددة، وبالتالي يمنح المجتمع مزيدًا من الوقت للاستيقاظ، كما أنه سيجعل السياسة المتشددة أكثر تشككًا وانقسامًا وأقل واقعية، فحتى لو كانت مسألة وقت فقط، عندما ينظر العالم إلى صورة روسيا الأسوأ على الإطلاق، فإن الحوار المستمر يعني أن هناك فرصة على الأقلأ فيما يتعلق بالتصعيد الجديد؛ أنه روسيا ستكون أكثر عدم تماسكً وثقة بالنفس من اليوم.
المصدر: فورين بوليسي