“قررت إعلان العام 2022 عامًا للمجتمع المدني بحيث تقوم إدارة المنتدى والجهات والمؤسسات المعنية بالدولة بإنشاء منصة حوار فاعلة بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية”، بهذه الكلمات التي قاطعها تصفيق حاد أكثر من مرة، أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال حفل ختام منتدى شباب العالم 2022 بمدينة شرم الشيخ اسمًا جديدًا على آخر سنوات حكمه على غرار عام 2016 الذي حمل اسم عام الشباب، وعام المرأة 2017 وعام ذوي الاحتياجات الخاصة 2018.
المفارقة أن إعلان السيسي هذا ترافق مع إعلان آخر يحمل بين طياته واقعًا غير مبشر للمجتمع المدني في مصر، فقد أعلنت إحدى أكثر منظمات المجتمع المدني نشاطًا في الدفاع عن حرية التعبير وأصحاب الرأي والصحفيين في مصر والعالم العربي، وقف نشاطها بعد 18 عامًا من العمل، في ضربة كبيرة تلقاها المجتمع الحقوقي في مصر.
“الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان” التي خاضت معارك عنيفة ضد السلطة وأجهزتها الأمنية، برَّرت في بيان لها على موقعها هذه الخطوة المفاجئة بـ”غياب الحد الأدنى من سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، واستمرار الملاحقات والمضايقات والتهديدات من قبل الأجهزة الأمنية”.
تضمَّنت ملابسات قرار الشبكة غير الحكومية التي يديرها الحقوقي جمال عيد منذ عام 2004 “تزايد الاستهانة بسيادة القانون، التي لم تستثن المؤسسات والمدافعين المستقلين عن حقوق الإنسان، وتزايد الملاحقات البوليسية سواء المغلفة بغطاء قانوني أم قضائي أم ملاحقات مباشرة”.
عيد كشف محاولات الأجهزة الأمنية لتوظيف بعض أعضاء المؤسسة بالقوة، للعمل كمخبرين وجواسيس ضد الشبكة، فضلًا عن تسلمه رسالة غير رسمية من الأمن تشترط تغيير اسم المؤسسة التي يديرها حتى يتسنى له تسجيلها كجمعية أهلية بوزارة التضامن، وتأمره بالتوقف عن رصد أوضاع السجون والدفاع عن حرية الرأي والتعبير.
يبدو التناقض جليًا بين ما يقوله السيسي كل عام وما يحدث على أرض الواقع، فخطابه الأخير الذي أعلن فيه عن إستراتيجية وطنية لاحترام حقوق الإنسان، يصطدم مع واقع يتزايد فيه التضييق على المنظمات الحقوقية عبر ترسانة من القوانين التي تلاحق العاملين في مجال حقوق الإنسان، فكيف نتوقع أن يشهد هذا العام ازدهارًا لمنظمات المجتمع المدني في ظل حكومة مسيطرة لديها القدرة على تقليص أنشطتها وتجفيف مصادر تمويلها؟
“جزاء سنمار”.. واقع المجتمع المدني بعد الثورة
على مدى 30 عامًا من أجواء القمع والاختناق السياسي كانت منظمات المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية الملاذ الآمن لحرية التعبير حيث قدمت مساعدات مجتمعية وخيرية، فضلًا عن مساعدة المعتقلين السياسيين وفضح سياسات التعذيب الممنهج، إضافة إلى نشر ثقافة الديمقراطية.
انعكست حالة الارتباك التي سيطرت على المشهد المصري برمته بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني على أداء بعض المنظمات التي فقدت بوصلتها خلال سعيها للبحث عن دور جديد إثر اصطدامها بما أسمته “حملات تشويه” من القائمين على إدارة شؤون البلاد، وصلت حد التشكيك في وطنية ناشطي هذه المنظمات.
الأسوأ في رأي البعض أن القانون يقضي بإنشاء هيئة تضم ممثلين عن الأجهزة الأمنية والجيش للنظر في طلبات الحصول على أي تمويل أجنبي، سواء كانت النتيجة بالموافقة أم الرفض.
عقب أحداث العنف التي شهدتها منطقة العباسية بالقاهرة في العام التالي للثورة، اتهم المجلس العسكري حركة “6 أبريل” بتلقي أموال من الخارج، وهي اتهامات عددتها تصريحات أمريكية بضخ ما يزيد على مئة مليون دولار لدعم هذه المنظمات التي تُقدَّر ببضعة آلاف، التي نفى أعضاؤها بشدة تلقيهم أي دعم أجنبي.
تغير النظام ولم تتغير الاتهامات الموجهة إلى منظمات المجتمع المدني التي ظلت عصية على محاولات الترويض بعد تهميش دور الأحزاب من ناحية، ونشوب الخلافات بين التيارات والقوى السياسية من ناحية أخرى، لتجد هذه المنظمات نفسها في مفترق طرق بعد أن ساهمت بنصيب وافر في قيام الثورة.
المجتمع المدني في مواجهة ترسانة قوانين السيسي
على مدى السنوات الماضية، سعى السيسي والأجهزة الأمنية التي يسيطر عليها إلى القضاء على المجتمع المدني بهجوم من القوانين القمعية والممارسات غير القانونية، في محاولة لمنع تكوين وتشغيل الجمعيات المستقلة، وقد أدت بشكل أساسي إلى شل المجتمع المدني المستقل داخل البلاد.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وافق البرلمان المصري على القانون رقم 70/2017 لتنظيم عمل المنظمات غير الحكومية، الذي أنهى أنشطتها عمليًا، ويشمل هذا المنظمات الحقوقية التي تُعنى بحقوق الإنسان أيضًا، ويقضى بتغليظ العقوبات على كل من يخالفه بغرامة مالية وبالسجن مدته قد تصل إلى 5 سنوات.
هذا القانون يحظر على أي جمعية أو منظمة غير حكومية إجراء أي دراسة أو استطلاع أو نشر نتائجهما دون موافقة السلطات، ومنعها من التعاون بأي شكل من الأشكال مع الهيئات الدولية دون الموافقة اللازمة، لكن الأسوأ في رأي البعض أن القانون يقضي بإنشاء هيئة تضم ممثلين عن الأجهزة الأمنية والجيش للنظر في طلبات الحصول على أي تمويل أجنبي، سواء كانت النتيجة بالموافقة أم الرفض.
بعد نحو 6 أشهر من إقرار هذا القانون، وفي مايو/أيار عام 2017، وجّه السيسي ضربة بالغة القسوة لمؤسسات المجتمع المدني، فقد صادق على القانون الجديد الذي ينظم عملها أو يقيده وفقًا لمعارضيه، وهو ما يعني مزيد من عسكرة المجتمع والدولة معًا، ومواصلة ما يقول كثيرون إنها حرب بدأت عام 2011 على منظمات المجتمع المدني، ومُنع بسببها كثير من العاملين في هذه المؤسسات من السفر، وُجمدت أموالهم، بل وتعرض بعضهم للاعتقال.
كانت الناشطة آية حجازي، وهي أمريكية من أصل مصري أنشأت جمعية تعني بأطفال الشوارع، واحدة من ضحايا هذا القانون، فقد اُعتقلت بدعوى استغلال الأطفال لا رعايتهم، لكن أُفرج عنها بعد ضغوط مارسها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على نظيره المصري.
وحسب ناشطين مصريين، فإن هذا القانون هو الأسوأ في تاريخ البلاد، ويمثل ردةً حتى عن تلك القوانين التي كان معمولًا بها في عهد مبارك، ويلحق ضررًا بالغًا بالمجتمع المصري الذي يعاني من موجة غلاء غير مسبوقة.
ومن شأن تنفيذ هذا القانون، بحسب منظمة العفو الدولية، حرمان الشرائح المستفيدة من عمل المنظمات غير الحكومية من المساعدات، منها الغذاء لمن لا يجد قوت يومه، والملابس والرعاية الصحية والتعليم لمئات آلاف المصريين.
تسعى قوانين مثل هذه إلى الضغط على المنظمات غير الحكومية لقبول تمويل الدولة وتقليل الشفافية التنظيمية، علاوة على ذلك، هناك قوانين تسمح للسلطات بحل هذه المنظمات غير الحكومية والتحقيق في أنشطتها، فضلًا عن الحكم على موظفيها بالسجن.
حتى قبل أن تُصدر الحكومة المصرية قانونها لعام 2017، قلصت المساحة المحدودة المتبقية لمنظمات المجتمع المدني، ورصدت منظمة هيومان رايتس واتش تجميد السلطات أصول 7 منظمات حقوقية رائدة وإغلاق أخرى، كما حلّت أكثر من ألفي جمعية خيرية وصادرت ممتلكاتها، بتهم متصلة بصلاتها بجماعة الإخوان المسلمين المحظورة.
لن يلغي القانون الجديد – الذي من المنتظر أن يدخل حيز التنفيذ هذه السنة – مستقبل العمل الأهلي في مصر فقط، بل اعتبره كثيرون مذبحةً للجمعيات القائمة بالفعل
بحسب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، واجه أكثر من 31 من المدافعين الحقوقيين البارزين انتقامًا حكوميًا من خلال حظر السفر وتجميد الأصول، وهم معرضون لخطر أحكام بالسجن تصل إلى خمسين عامًا بسبب تهم ملفقة في القضية رقم 173 لسنة 2011، المعروفة باسم قضية التمويل الأجنبي.
تبييض وجه النظام
في يوليو/تموز عام 2019، تجدد الجدل بشأن مناخ العمل المدني، فقد وافق البرلمان على تعديلات بشأن قانون تنظيم العمل الأهلي، قيل إنها جاءت استجابة لضغوط غربية، وإن تمريرها في هذا الوقت دون تأخير كان استباقًا لقمة السبع الكبار في باريس الشهر التالي، التي حضرها السيسي.
التعديلات المقرَّة تمس القانون رقم 70 لعام 2017، واشتملت بالفعل على تخفيف بعض القيود في القانون القديم كإلغاء عقوبات الحبس وإلغاء الجهاز القومي لتنظم عمل المنظمات الأجنبية الذي كان سَيُشكَّل من مندوبين من “الجهات السيادية” في مصر، في إشارة للمخابرات والداخلية والدفاع وغيرهم، واُستبدلت به وحدة تتبع الوزير المختص، فضلًا عن إعفاءات مالية عديدة وتخفيضات لعدد من الغرامات في القانون القديم.
بعض نوَّاب ما توصف بالأقلية انتقدوا هذه التعديلات، معتبرين أنها نتاج ضغوط أجنبية، وليست تلبيةً لاحتياجات داخلية، لكن التعديلات الجديدة أوردت مصطلحات فضفاضة اعتاد النظام المصري إطلاقها في نهجه المطرد لسد الأفق السياسي والمجتمعي كما يقول منتقدوه.
في التعديل الأخير للقانون، أُلزمت الجمعيات بعدم إخلال نظامها الأساسي بالأمن القومي أو النظام العام دون تعريفات حصرية لهذه المصطلحات، كما حُظر أيضًا ممارسة أنشطة تتطلب ترخيصًا من جهة حكومية دون توضيح واضح لهذا، كما حُظر أيضًا إجراء استطلاعات الرأي او الأبحاث الميدانية دون موافقة حكومية.
اتساع دائرة المحظورات دفع منظمات كالعفو الدولية إلى اعتبار هذه التعديلات الجديدة مكرسة لقمع المدافعين عن حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني المستقلة، وتُضاف إلى التهديد الوجودي الذي يواجه المجتمع المدني المستقل في البلاد، واصفةً ما أُقر في القانون الجديد من تخفيفٍ بـ”التغييرات التجميلية الرمزية”.
لن يلغي القانون الجديد – الذي من المنتظر أن يدخل حيز التنفيذ هذه السنة – مستقبل العمل الأهلي في مصر فقط، بل اعتبره كثيرون مذبحةً للجمعيات القائمة بالفعل، إذ يفرض عليها توفيق أوضاعها وفق مواده المثيرة للجدل، وإلا سيتم حل هذه الجمعيات عبر حكم قضائي، وهو ما يفسر قرار الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان وقف نشاطها الحقوقي في اليوم الأخير من الأجل الذي حددته السلطات المصرية للمنظمات غير للحكومية، وقبل أيام قليلة من إحياء الذكرى الـ11 لثورة يناير.
في محاولة أخرى لـ”تبييض” صورة النظام أمام المجتمع الدولي، سعت مصر لعقد حلقة نقاش عبر الإنترنت مع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في 4 مايو/أيار الماضي لمناقشة إطارها القانوني الوطني المتعلق بالمجتمع المدني، بما في ذلك القانون رقم 149 لسنة 2019 بشأن الجمعيات المدنية ولوائحه التنفيذية.
قبل أيام من ذلك، أعربت 6 منظمات حقوقية مصرية مستقلة عن قلقها من أن هذا الحدث يبدو منظمًا بطريقة تخفي الواقع الذي يواجهه المجتمع المدني المستقل في مصر، ومحاولات الحكومة المستمرة والمنهجية للقضاء على المنظمات غير الحكومية المستقلة داخل البلاد.
تأتي هذه المحاولات – التي لن تكون الأخيرة – من الحكومة المصرية لتسليط الضوء على “التحسينات” في قانون المنظمات غير الحكومية بعد انتقادات شديدة لسجل مصر في مجال حقوق الإنسان في إعلان دولي مشترك وقعته 32 دولة وسلمته فنلندا في الدورة 46 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مارس/آذار 2021.
جميع المنظمات والأفراد تقريبًا الذين يحاولون كشف أو ضمان المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر يتعرضون للسجن والتعذيب أو بأي شكل آخر يتعرضون لمجموعة واسعة من التهديدات والاعتداءات.
لم يعد القضاء المصري، من خلال التدخل المباشر وغير المباشر من السلطة التنفيذية للحكومة، قادرًا على ممارسة الاستقلال في هذا المجال والعديد من المجالات الأخرى
يُنظر إلى قانون المنظمات غير الحكومية الحاليّ باعتباره قانونًا مكملًا للدستور المصري، رغم أن الطعن الأكبر الموجَّه له هو تعارضه مع الدستور الذي ينص على إنشاء الجمعيات الأهلية بمجر الإخطار، وأن تعمل دون تدخل الجهات الإدارية، ولا يحلها حكم قضائي، وهو ما عصفت به مواد القانون الذي جعلت مرد كل شيء للموافقات الحكومية، حتى إنها عاقبت بالسجن رؤساء الجمعيات الذين يغيرون مقار جمعياتهم دون موافقة.
في الواقع ، ليس دستور مصر ولا التزاماتها الدولية هي التي تحكم البلاد ومجتمعها المدني، وبدلاً من ذلك، فإن الإرادة الأحادية للرئيس ورؤساء الأجهزة الأمنية تلغي دائمًا وتبطل سيادة القانون مع الإفلات من العقاب، فلم يعد القضاء المصري، من خلال التدخل المباشر وغير المباشر من السلطة التنفيذية للحكومة، قادرًا على ممارسة الاستقلال في هذا المجال والعديد من المجالات الأخرى.
قمع المجتمع المدني.. غيض من فيض
يلاحق النظام المصري بلا هوادة عشرات المنظمات غير الحكومية الرائدة في البلاد، ويتهمها عادة بتلقي تمويلات أجنبية، والحقيقة أن جميع المنظمات والأفراد تقريبًا الذين يحاولون كشف أو ضمان المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر يتعرضون للسجن والتعذيب أو بأي شكل آخر يتعرضون لمجموعة واسعة من التهديدات والاعتداءات.
على سبيل المثال، قُبض على المحامي الحقوقي إبراهيم متولي، مؤسس ومنسق رابطة أسر المختفين، عام 2017 في أثناء سفره إلى جنيف لحضور اجتماع فريق الأمم المتحدة العامل المعني بالاختفاء القسري، ولم يتم القبض على متولي لانتهاكه قانون المنظمات غير الحكومية، لكن لانخراطه في نشاط حقوقي مشروع ترى الحكومة المصرية أنه ينتقد جرائمها في مجال حقوق الإنسان، فلم يكن لاعتقال متولي أي أساس شرعي في القانون، ولا يزال مسجونًا بشكل تعسفي.
محامي حقوق الإنسان محمد الباقر، مدير مركز عدالة للحقوق والحريات، معتقل منذ سبتمبر/أيلول 2020، فقد تم اعتقاله في أثناء تأدية واجباته المهنية كمحامي دفاع – حضور جلسة تحقيق مع موكله، المدافع عن حقوق الإنسان علاء عبد الفتاح -.
في تجاهل تام لأي قانون، تعرَّض إبراهيم عز الدين، الباحث بالمفوضية المصرية للحقوق والحريات، للاختطاف والإخفاء القسري لأكثر من 165 يومًا وتعذيبه بالصدمات الكهربائية في أثناء استجواب أمن الدولة له بشأن أنشطته الحقوقية.
كذلك تعرض المدافع عن حقوق الإنسان جمال عيد، المدير التنفيذي للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، للاعتداء الجنائي في الشارع، وسُرقت سيارته، بينما تعرض زميل آخر لعيد في الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان للسرقة والتخريب، كجزء من حملة ترهيب وبلطجة خارج نطاق القانون وخالية من أي اعتبار لسيادة القانون.
وفقًا لقانون رقم 149 لعام 2019، تخضع المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تمويلًا دون موافقة حكومية مسبقة لعقوبة السجن لمدة تتراوح بين عام واحد وخمس سنوات وغرامة تتراوح من 50 ألف إلى مليون جنيه مصري
يواجه العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان وأعضاء المجتمع المدني تهم “الانضمام إلى جماعة إرهابية” و”نشر أخبار كاذبة”، تلك التهم التي لا تخضع لقانون المنظمات غير الحكومية، فعلى سبيل المثال، يواجه بهي الدين حسن، مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ومدافع عن حقوق الإنسان، حكمًا بالسجن 15 عامًا صادر عن إحدى محاكم دائرة الإرهاب، حسن غير متهم بانتهاك قانون المنظمات غير الحكومية، لكنه متهم بنشر أخبار كاذبة عبر حسابه على تويتر تتعلق بمواقفه الحقوقية، إلى جانب مشاركة مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان مع الأمم المتحدة.
التهم الموجهة ضد أعضاء هذه المنظمات، التي تتضمن أقصى العقوبات هي تلك المخالفة للمادة 78 من قانون العقوبات، التي عدلها الرئيس السيسي في سبتمبر/أيلول 2014، التي تعاقب على التمويل سواء كان محليًا أم أجنبيًا بالسجن المؤبد.
التمويل الخارجي.. قيود على العمل المدني
لا يزال التمويل الدولي يمثل مصدر قلق كبير لنظام السيسي الذي يراقب عن كثب العلاقة بين المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، وتسعى الحكومة للحصول على حق الموافقة أو رفض الشراكات الرسمية بين المنظمات غير الحكومية المحلية ونظيراتها الدولية.
وبالتالي، فإن القوانين المنظمة لعمل المنظمات غير الحكومية تحظر تلقيها لأي تمويل أجنبي دون موافقة الحكومة، وإلا فقد يحكم على الموظفين العاملين في هذه المنظمات بالسجن أو الغرامات، إلى جانب إمكانية حل المنظمات المذكورة.
منتقدو هذه القوانين يرون أن واضعيه أخذوا أكثر من 40 ألف جمعية أهلية في عموم مصر في شبهة لا تُثار إلا حول عشرات أو مئات الجمعيات فقط، وهو ما يُخشي معه شل العمل الأهلي الذي يبذل مجهودات ضخمة في مجالات الرعاية الصحية والاجتماعية لمن تضيق عنهم ميزانية الدولة.
الهجوم المستمر على المنظمات غير الحكومية وموظفيها قلّص بشدة المجال العام لما كان يومًا مسرحًا لمجتمع مدني نشط
وفي حين تعتمد حكومة السيسي بشكل كبير على المساعدات الخارجية من العديد من الحكومات بما فيها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والسعودية والإمارات، تجعل القوانين القديمة والجديدة من المستحيل تقريبًا على المنظمات غير الحكومية الحصول على تمويل أجنبي وإلا تعرض موظفوها للملاحقة القضائية التي قد تؤدي إلى السجن مدى الحياة.
بينما تُحرم جماعات حقوق المرأة المستقلة من فرص الحوار والتأثير في السياسات، توجد منظمات الحكومة غير الحكومية كثيرًا في تلك الأماكن من أجل “ضمان” مشاركة أصحاب المصلحة وإضفاء الشرعية على روايات بديلة.
وفقًا لقانون رقم 149 لعام 2019، تخضع المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تمويلًا دون موافقة حكومية مسبقة لعقوبة السجن لمدة تتراوح بين عام واحد وخمس سنوات وغرامة تتراوح من 50 ألف إلى مليون جنيه مصري (ما يقرب من 2800 إلى 56000 دولار أمريكي).
هذا الهجوم المستمر على المنظمات غير الحكومية وموظفيها قلّص بشدة المجال العام لما كان يومًا مسرحًا لمجتمع مدني نشط، حتى في خلال عقود رئاسة حسني مبارك الاستبدادية بحسب وصف منظمة هيومان رايتس واتش الحقوقية التي حجبت السلطات المصرية موقعها على الإنترنت عقب نشرها تقريرًا عن التعذيب الممنهج داخل السجون المصرية.
المنظمات الحكومية.. بديل النظام الجاهز
ساهم هذا المحو الحكومي للمنظمات غير الحكومية في ظهور نوع فريد من المنظمات يُعرف باسم المنظمات غير الحكومية التي تنظمها الحكومة “GONGOs”، هذه المنظمات المدعومة من النظام وتشرف السلطات على توظيفها وعملياتها، تشكل تهديدًا متزايدًا للمجتمع المدني، وتكمل ترسانة القوانين المقيدة والممارسات التعسفية التي وضعتها الحكومة لتقليص المساحة المتاحة للمجتمع المدني للتنظيم والدفاع عن حقوق الإنسان.
بحسب الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان، فإن إنشاء مثل هذه المنظمات وتمويلها يمثّل أداةً أخرى لقمع المجتمع المدني المستقل، ويضيِّق المجال لسماع صوت المنظمات غير الحكومية الشرعية، ويوفر شرعية حقوق الإنسان على المستوى الدولي للحكومة المستبدة التي تدعمها وتمولها، ويخلق صورةً زائفةً بأن تتشاور الحكومة مع المنظمات التي تمثل مواطنيها.
على سبيل المثال، بينما تُحرم جماعات حقوق المرأة المستقلة من فرص الحوار والتأثير في السياسات، توجد منظمات الحكومة غير الحكومية كثيرًا في تلك الأماكن من أجل “ضمان” مشاركة أصحاب المصلحة وإضفاء الشرعية على روايات بديلة، تنكر في الواقع أو لا تتناول قضايا حقوق الإنسان على أرض الواقع مثل المجلس القومي للمرأة الذي يتحمل هذا الواجب للدفاع عن سياسات الحكومة في المحافل الوطنية والدولية.
من الواضح أن هذه المنظمات لا تزال مسألة شكلية غير فعالة، وغالبًا ما تتجنب قضايا الحقوق الكبرى التي يكون فيها النظام الجاني الأساسي، وتُفرض عليها رقابة ذاتية لإرضاء السلطات، لذلك، ما يهم المجتمع المدني ليس عدد المنظمات غير الحكومية المسجلة والشرعية، لكن اعتراف الحكومة بسلطة المجتمع المدني – سواء كانت رسمية أم غير رسمية-.
يصادر السيسي بذلك الفضاء العام ويعسكره ويجيِّره لصالح فئة دون أخرى، ويتزامن هذا مع حجب مئات المواقع الإلكترونية، بعضها تابع لصحف ورقية مرخصة، بينما ثمة منصات أخرى لا يُعرف سبب حجبها، وهذا يعني بالنسبة لكثيرين أن هناك ما هو أخطر وأسوأ ربما يُخطط له، ويُراد له أن يُمرر كما تُدبَّر أمور في الليل.