لاقى شكسبير حتفه إثر حمى تيفية، حضره الموت مرةً واحدةً، وقتل مسرحه آلاف المرات، على كل لون وفي كل اتجاه، نقلًا وإلهامًا واقتباسًا، وفي كل مرة جديدة، تعرف يدٌ عصرية طريقها لاستنطاق شكسبير طازج، تعيد إحياءه في كل ألوان الإبداع، بشتى الطرق الممكنة، وفي مستويات مختلفة لا تتعلق في أغلب الأحيان بنص شكسبير المقروء وشخصياته المعروفة، إنما ما يقع حول تلك الشخصيات، من ناحية الجو العام للحكي واللغة البصرية والمزاج اللوني وغيرها من الأسس التي تسبق توظيف النص الأدبي داخل إطار عملية إبداعية مختلفة كالسينما.
هذه العملية تتعاطى مع النص، وتنتج ما يشبه بعثًا شكسبيريًا، من خلال إيجاد مساحات جديدة لنصوصه، بيد أن النصوص على الناحية الأخرى، مستنزفة إلى حدٍ كبير، ومستهلكة أشد الاستهلاك، ولعل الشيء الإعجازي هو استكشاف معاني مختلفة وأشكال جديد للنصوص، وهذا يتوقف على الصانع نفسه ومدى شجاعته في التعامل مع النص الأدبي.
لهذه الأسباب أيضًا، يعد اقتباس نص شكسبيري للسينما شيئًا في غاية الصعوبة، لأن النص قتل بحثًا واستعادته السينما في مئات المعالجات، منها رديء لا يذكر، ومنها الاستثنائي الذي أضاف للنص وجهًا جديدًا، وإذا تحدثنا عن “مكبث” مثلًا، فهناك المعالجة الرهيبة للنص في فيلم “عرش الدماء Throne Of Blood” للمخرج الياباني العبقري أكيرا كوروساوا الذي أضاف للقصة عن طريق دمج الخطوط الرئيسية مع الثقافة اليابانية والإقطاع، فأخرج شيئًا يحمل بصمته على المستوى القصصي والحكائي، وفيلم “Macbeth” للمخرج الكبير رومان بولانسكى، ونسخة أورسن ويلز المهمة، حتى نسخة المخرج چوستين كورزيل منذ سنوات ليست بالبعيدة.
والآن، من خلال هذا المنتج البصري، يمنح المخرج المتميز جول كوين – في تجربة إخراج منفردة – لنفسه المساحة الكافية لاستكشاف مكبث آخر، يرسخ لوجوده في عالمه الخاص من خلال المحافظة على النص الأصلي، بيد أنه يضيف شيئًا أعظم من حقيقة ممارسة النص الشكسبيري على المسارح، كنص مقدس في الأدب الإنجليزي.
طريقة تعرض جول للمسرحية الأصلية لا تسمح له المساس بالنص، بيد أنه يتعاطى مع النص في إطاره الخارجي، ويحيطه بحدودٍ متفردة، مطوقًا إياه بتجربة لم تحقق على شاشة السينما من قبل، وهذا ما يمنح النص شكلًا سينمائيًا مختلفًا تمامًا، شكلًا يجمع بين البنية المسرحية والهيكل السينمائي الذي يغلف القصة الأصلية كإطار ظاهري، ويقدمه بلغة بصرية استثنائية، خصوصًا على مستوى تصميم الإنتاج الذي وهب النص شعورًا تجريديًا لم نره من قبل في تجارب سابقة تعرضت لنصوص شكسبير بحرفية، ليمنح النص روحًا جديدةً ويقدمها كتجربة جديرة بالمشاهدة والتحليل.
من خلال مشاهدة فيلم “مأساة ماكبث” للمخرج جول كوين، نلاحظ عدة أشياء مهمة، الأولى هي المحافظة على النص، لذلك لا يمكننا الحديث عن كتابة الفيلم الأدبية، فجول لم يضف كثيرًا إلى النص الأصلي، وفضل الإبقاء على روحه الأساسية، إلا أننا سنلاحظ الجهد المبذول في الحكي البصري، الذي ينقل النص من الحيز المسرحي إلى الوسيط السينمائي، وفي تلك العملية استخدم جول بعض الثيمات البصرية التي ساهمت في تكوين الفيلم كمنتج بصري متكامل، له رؤية خاصة تطبع جوه العام ومزاجه اللوني، لها علاقة بتصميم الإنتاج والإخراج التقني أكثر من حرفة الكتابة الأدبية السينمائية.
يؤسس جول لرؤيته من خلال مزاج لوني تجريدي ولغة بصرية تعتمد في متنها على الأسلوب الفني لا على الطبيعة التضاريسية للعالم، لذلك صور الفيلم في الأستوديو، بإضاءة مسرحية مع استخدام هائل للمؤثرات البصرية في عدد كبير من المشاهد، وهذا لم يكن منهجًا للتعامل مع شكسبير من قبل، بيد أن رؤيته لمسرحية مكبث حملت في داخلها صورًا خاصة لعالمٍ يخدم تلك الرؤية من الناحية البصرية.
رسخ جول لمكبث كشخص محتجز تحت ثقل مصيره المحتوم عن طريق استخدام أبعاد Aspect ratio 1.37:1، وظل يغذي تلك الأبعاد بلقطات قريبة Close Up تملأ الشاشة، وترصد تأثير سلطوية الرغبة في الارتقاء على حياة مكبث وزوجته.
ألوان الفيلم
فضل جول أن يصنع نسخته بالأبيض والأسود، ليحيلنا إلى إسقاط درجتي اللون على شخوص القصة، ويفتح من خلال ذلك مجالًا لفهم السردية، فاللونان الأبيض والأسود يدعمان مبدأ التناقض، أي يمثلان ثنائية قيمية تهيمن على حبكة شكسبير الكلاسيكية، الخير كله أو الشر كله، الشياطين مكبث وزوجته، والملائكة مكدف ومالكوم والملك دنكن، لا وجود للمنطقة الرمادية الملتبسة التي تبيح النقيض والضد، وتسمح بجموحٍ انفعالي وهبوطٍ ملائكي، لذلك فالأبيض والأسود هي الصيغة التجريدية المناسبة لتعرية الشخوص والكشف عما هو أكثر من النية المعلنة، رؤية مكبث (الممثل دنزل واشنطن) غارق في الظلام، بعد أن أصابته لوثة القوة وهوس الاستبداد، فأضحى منساقًا خلف رغبته في السمو، ومكدف (الممثل كوري هوكينز) المحمل بنبلٍ وجسارة فرسان القرون الوسطى، الذي يختبر عناء الفقد، ويتجشم معاناة القضاء على الشر المطلق، حتى شخصية روس (الممثل اليكس هاسيل) لم يخرج عن سياق الخير المبطن في لعبة الامتثال والمجاراة لسيده.
وظف جول كوين هذه الموتيفات في إطار هيكلة سينمائية متفردة من حيث الشكل والمضمون، وساعده على ذلك مصمم الإنتاج ستيفان ديشانت ومدير التصوير برونو ديلبونيل، لينجح في جذب عين المشاهد للتكوين المرئي، ويوضح مدى انخراط ذلك البناء الخارجي في عملية الحكي، ومن خلال تلك البنية الخارجية يستكشف الفيلم منطقة مختلفة في النص، خصوصًا مع استخدام المؤثرات البصرية لخلق نمط معين من العمارة انطلق من كونه تجريديًا، يعتمد في بنائه على شكلٍ هندسي يجزء المشهد طبيعيًا إلى مناطق ظل ومناطق نور، وهذا ما ساهم في إزاحة الفيلم عن التنميط والقولبة التي يسقط فيها أغلب المخرجين في معالجاتهم لشكسبير.
رسم جول واقعه الخاص، صنع بيئة مثالية لنسخته، بيئة مثيرة ومستفزة لمكبث ذاته، يظهر فيها وحيدًا ومنعزلًا ومستقلًا عن واقعه، مكتفيًا بتخيلاته ونبوءاته وشطحاته الفكرية، وعليه، تم تصميم قلعة مكبث بطريقة تعبيرية، تجمع بين النمطين العصري والكلاسيكي، تراعي في بنيانها مقاييس تنافي القصور والقلاع في الحقبة الأصلية للقصة، لأنها صنعت لغرضٍ معين، لغرض البوح، المكاشفة، فالقلعة بالنسبة لمكبث هي كالزجاج، ملجأ لأفكاره الأكثر جموحًا، مختبر لهلوساته وحصن لوسواسه، فهي القيمة الموازية لعقله والتجسد البصري لأخيلته ونبوءاته.
بالنظر للعمارة داخل الفيلم، لم يصمم جول وفريقه القلعة بناءً على احتياجات الإنسان، فالعلاقة بين العمارة كحيز مؤلف من طبقات، والأفراد داخل ذلك الحيز ليست علاقة نفعية في باطنها، ولا يمكن إقامتها على ذلك الأساس الذي يضمن للفرد احتياجاته المادية والمعنوية، فمكبث لا يحتمي بحوائط القلعة بقدر ما تعمل تلك الحوائط كوعاء حافظ لتمرده، كمرآة يرى فيها ردة فعلٍ لانتفاضاته، يمارس فيها وجوده بعصيان وجموح، يحدثها وتحدثه، تقف وراءه بهيمنة وحشية، تفرض نفسها على وجوده المصغر أمامها، أي أنه يرى فيها نفسه، في الحوائط الشامخة والقيعان الرنانة والممرات الطويلة، يتجسد هو فوق العالم، على تلٍ يسمو في علوه، ويطئ كل المنافسين.
شكل جول وفريقه عمارةً وحشيةً، تمتد لمساحة هائلة من المكان داخل الجدران، وتطغي على وجود الأفراد ككائنات فردية تقف ضد كتل هائلة من الخرسانة، ليتبدى كتصميم حداثي يناقض الخواص والأنماط المعمارية التي كانت تزدهر بزخرفات وقيمة جمالية عالية في تلك الحقبة من الزمان، بيد أنه فضل أن يجرد العمارة من قيمتها الجمالية ويلعب في منطقة جمالية أخرى تخص الضوء والظلام، وهذا ما يجعل رؤية جول متفردة بالنسبة لخصوصية مكبث داخل روايته للقصة.
غموض الزمن
الإحساس بالفراغ الداخلي للعمارة والمجسمات الضخمة للحوائط، يدفع للوحشة والانزواء، والاختلاء بالنسبة لمكبث خطيئة كبرى، لأنه ينصرف إلى نفسه ويغذي رؤاه المنغمسة في طموحٍ مضللٍ، لتتبدى أمامه القلعة كمغارة ملبدة بضباب حاجب، يعرف مفاداتها وعطفاتها جيدًا، وهي تعرفه، بيد أنه في النهاية يجد ذاته وحيدًا، يقارع شعورًا بالاستحقاق، ويفطن لنفسه كشخص مراقب، ينتظر حدوث نبوءة أو يدفع لرؤية مستقبلٍ لا يتمناه، لذلك كانت القلعة المكان المناسب لتجسيد الرؤى وظهور الساحرات، فهي مهيأة لحمل الضلالات وإبرازها لمخيلة صاحبها في شكل محسوس.
اعتمد الفيلم في تكوينه للمشاهد على توليف النور والظل، وتأسست العمارة على هذا المضمون الذي يخدم الشكل الخارجي للفيلم، من الوهلة الأولى في المكان، يتكشف للمشاهد أن التصميم لم يخلق ليستنير بضوءٍ طبيعي، أي أنهم لو يعولوا على الإضاءة الطبيعية منذ البداية، بل على إضاءة صناعية تم تنسيقها بمقاييس ونسب معينة لتشمل الموجودات بأشكال هندسية حادة وظلال جافة وغليظة، وهذا يبرر شكل العمارة التي تأسست بناءً على توظيف النور والظل داخل المشهد.
ليضعنا الفيلم في حالة ملتبسة، فنحن لا نرى إلا تشكيلات للنور والظلام، لا نقف عند زمن معين، لا نعرف إذا كان هذا المشهد يقع في النهار أم في الليل، سيولة الزمن تمنح شعورًا بالارتباك داخل القلعة، لتتبدى القلعة كالمحبس بالنسبة للمشاهد، لا يستطيع تحديد قيمة محددة للزمن ولا أن يدرك معرفة واضحة لماهية العالم، بجانب ترسيخ حالة من الغموض.
استخدام تلك السمات الأسلوبية لخلق حالةٍ شعورية، يشير إلى مظهر مرئي مستلهم من مدرسة التعبيرية الألمانية، فالظلال الحادة والإضاءة المسرحية والإشكال المتكونة من النور داخل إطار من الظلام هي من سمات التعبيرية الألمانية، بجانب الأقاصيص التي تتماس مع الجنون والخبل والخوف، ودمج ذلك النوع من الإضاءة مع الكتل الخرسانية الهائلة والفراغ الداخلي للممرات والغرف، وحتى الصوت، أدى إلى تعزيز الشعور بالمشهد.
ورغم محاولة جول صنع إنتاج سينمائي على المستوى التقني، لم يتخل عن روح القصة المسرحية في أساسها، لهذا يبدو العمل كأفلمة مسرحية، في الشكل وحتى الأداء التمثيلي الذي جمع بين المدرسة الكلاسيكية والمعاصرة، بخبرة عظيمة لدنزل واشنطن في دور مكبث والممثلة فرانسيس مكدورماند في دور الزوجة، والتجانس بينهما.
لم يحاول جول توجيه النص أو الأفلمة إلى إحالات سياسية، وهذا ما يعطي هذه الأفلمة بالذات قيمتها الفنية، إنها متجردة إلى حدٍ كبير، تتعاطى مع النص من الناحية الجمالية والأدبية، ولا تحاول التعرض لأغراض أخرى كان من الممكن أن يتم تضمينها داخل النص.
الشيء الأخير الذي يستوجب التحدث عنه، هو الساحرات الثلاثة، التي تؤدي دورهن امرأة متفردة وممثلة أكاديمية موهوبة هي كاثرين هنتر التي لعبت على تنويعات جسدية وأصوات وتكوينات رفعت من خلالها نسق الفيلم، وطورت السرد من الناحية البصرية، لأن مشاهدها كانت ذات تكوين بصري متفرد، بجانب دورها المؤثر في النص الأدبي على مستوى سير الأحداث.
مرونة جسدها الاستثنائية تخولها تشكيل أنماط جسدية مخيفة تليق بشخصيتها، بجانب خشونة صوتها، وتمرسها الكلاسيكي من خلال التعليم أو العروض التي تقيمها على المسرح، لتقدم الدور بشكل ممتاز.
فضل جول أن تكون نسخته من مكبث كبيرة السن، بين الشباب والكهولة، ولم ينجم عن ذلك الاختيار أي من التأثير الخارجي على سير القصة، بيد أنه ينقلها إلى حيز آخر، طبقة زمانية مختلفة، فالبطل قبل أي شيء يجب أن ينتصر على الزمن، يتصدى لتراكماته، وعلى الناحية الأخرى، تمنح تلك النقطة مبررًا لأفعال مكبث، كبطلٍ قبض الريح، إذا لم يتحرك الآن لن يتحرك أبدًا، ولهذا ينزلق مكبث وزوجته دون أن يشعرا، في الكراهية والخوف من المجهول والاستبداد بالقوة، ويصبح مكبث مع الوقت أشد عنفًا، لكنه بالضرورة معلق بخيط رفيع، يتحكمن فيه أولئك الساحرات كرموزٍ وشواهد على المصير الذي لا يمكن مجانبته ولا اتقاءه، يتلاعبن به يمينًا ويسارًا ليبدو في بعض الأوقات ضحيةً، بيد أنه يصر على ارتكاب حماقة الانحباس والاستقلال بأفكاره عن العالم، وهذا ما يهيئ له دائمًا، أنه الأقوى.