ظهر المفكر والشيخ السوري جودت سعيد في ميادين المظاهرات منذ انطلقت الثورة السورية، فكان مناصرًا لها داعيًا للتغيير الذي تحتاجه البلاد دون التخلي عن فكرة السلمية والنضال اللاعنفي، لم تكن الثورة السورية هي البداية لدى سعيد، فللرجل باع طويل في إنكار انتهاكات النظام السوري وكذا له باع طويل في الدعوة السلمية واللاعنف حتى أصبح رائد الفكرة في العالم العربي والإسلامي ولعل البعض يناديه بغاندي العرب.
توفي جودت سعيد اليوم الأحد 30 يناير/كانون الثاني في مدينة إسطنبول التركية عن عمر ناهز 91 عامًا، بعيدًا عن سوريا التي أحبها، لم ير سعيد بزوغ فجر سوريا التي أراد، إنما بالعكس ترسخ حكم الأسد والظلم والقمع وكبت الحريات بالحديد والنار، كما أن الثورة السورية التي دعا لبقائها سلمية لم توافق أفكاره بعد الشهور الأولى، فلم تفد دعواته ونداءاته، فتفجر النضال المسلح ضد طغمة الأسد الذي لا يبدو أنه يفهم غير لغة السلاح فيما كان يحسب الثوار السوريون.
مشى جودت سعيد طريقًا قلّ سالكوه، فكانت أفكاره تتعرض للنقد الدائم، خاصة تلك المتعلقة بأمور الجهاد والقتال، خاصة أنه طرح أفكاره في وقت كانت الحروب تلتهم المنطقة في فلسطين والعراق والخليج وليس آخرها ما حصل في دول الربيع العربي مثل سوريا واليمن وليبيا، ولعلنا في هذه السطور نعرّف عن الراحل جودت سعيد في يوم وفاته.
النشأة
ينحدر جودت سعيد من أصول شركسية، ولد بقرية بئر عجم التابعة للجولان المحتل عام 1931، ويعتبر سعيد من مدرسة مالك بن نبي ومحمد إقبال، بدأ الدراسة الابتدائية في مدينة القنيطرة، ثم تابع الدراسة في الأزهر الشريف بمصر عام 1946، وبعد إتمامه الثانوية درس اللغة العربية وحصل على الإجازة فيها، وهناك بدأت قراءاته تتوسع لمالك بن نبي وقد أعجب بكتاب شروط النهضة لبن نبي، ومن ثم واتته الفرصة للقاء بن نبي والتعرف عليه قبل أن يسافر للسعودية ويجلس بها قرابة العام قبل أن يعود لسوريا لتأدية خدمته الإلزامية العسكرية.
كانت بداية حياته في النضال السلمي حينما رفض المشاركة في أي تحرك عسكري يوم الانقلاب على الوحدة بين سوريا ومصر، ورغم التزمه بالتعليمات، فإن الضباط وضعوه قيد الإقامة الجبرية مدة من الزمن، وحينما أنهى خدمته العسكرية بدأ التدريس في ثانويات دمشق مدرسًا للغة العربية، وهنا بدأت حياته مع الاعتقال من أجل نشاطه الفكري وبعد ذلك تم اتخاذ قرار بصرفه من عمله في نهاية الستينيات.
عاد جودت سعيد إلى قريته بئر عجم بعد استرجاعها من الاحتلال الإسرائيلي بحرب تشرين عام 1973، فبدأ حياة الاستقرار هناك ومزاولة أعماله في الزراعة وتربية النحل وممارسة نشاطه الفكري والثقافي وتفرغ للتأليف والنشر بعدة كتب سنتحدث عنها لاحقًا.
سلفي لا عنفي
وفقًا للدكتور عبد الرحمن الحاج الباحث السوري والمتخصص في الجماعات الدينية فإن جودت سعيد من “الفرع السلفي العلمي” الذي انحدر من الأقلية القوقازية الشركسية، يقول الحاج: “برز تحول جديد نحو سلفية جديدة، لم يتبلور حتى مطلع الثمانينيات، وبقي محدود الانتشار في إطار جماعة قد لا يزيد عددها على أصابع اليدين، هو السلفية اللاعنفية، وربما لم يشهد الفكر الإسلامي حتى هذا التاريخ حركة إسلامية فضلًا عن السلفية تعتبر العنف أيًا كان، حتى لو دفاعًا عن النفس، عملًا غير مشروع، ويتزعم هذا التوجه الشيخ جودت سعيد (1931) الذي ينتمي إلى الأقلية الشركسية، الذي كان قد بدأ يعمل منذ مطلع الثمانينيات على نشر فلسفته الإسلامية عن اللاعنف، وقد سبق أن خبر معنى الاعتقال السياسي الذي تكرر معه مرات عدة”.
على الرغم من معارضته الشديدة لنظام الأسد والبعث، فإن أفكار سعيد لم تكن متسقة مع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، ولا هم أعاروه اهتمامًا، ومن أجل ذلك نشر سعيد عام 1966 كتابه “مذهب ابن آدم الأول: مشكلة العنف في العالم الإسلامي”، الذي جاء ردًا على اتجاه الإخوان المسلمين نحو ممارسة العنف السياسي.
يقول الدكتور الحاج: “أهمية هذا الكتاب تكمن في أنه أول محاولة لصياغة مفهوم لاعنفي إسلامي في التاريخ المعاصر، وفي أنه أول رد مباشر على كتابات سيد قطب (توفي عام 1966) التي شكّلت الأساس الفكري لحركات العنف الإسلامي”.
لاقت فكرة جودت سعيد نقدًا من مدارس إسلامية متعددة خاصة في سوريا، ذلك بأنه “كان من المعجبين بالحضارة الغربية ومن المثنين على النظرية الماركسية ومن المنتقصين لصحابة النبي محمد، حيث زعم أنهم ما عرفوا تفسير القرآن ولا فهموا قوانين الله في الأنفس والأفاق” والكلام هنا نقلناه عن الشيخ السوري الدكتور أحمد محمد نجيب، وفي تعليق الكاتب عادل التل على إعجاب جودت سعيد بالماركسية يقول: “نبدأ من خلال إشادته بالمنهج المادي الماركسي، فعندما تعرض لشرح آية ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ))[الرعد:11] قال: الفكر الماركسي لبه ومبتداه ومنتهاه في إدراك محتوى هذه الآية، حيث لمحوا قدرة الإنسان على صنع التاريخ، والقيام بعملية التغيير، فهذا الضجيج الذي أحدثه الفكر الماركسي خلال أكثر من مئة عام، إنما كان تبنّيهم لهذه الفكرة وإدراكهم لها”.
وفي سياق نقد الفكرة اللاعنفية التي جاء بها جودت سعيد يقول الكاتب عبد العزيز الكحيل: “من يقرأ كتابات جودت وخالص يجدها تبشّر بعالم ليس فيه عنف ولا قتال، يسوده سلام شامل بفضل نبذ المسلمين لوسائل العنف وتجنّبهم الصدام في جميع الأحوال واعتمادهم التنازل من جانب واحد أمام الأعداء والخصوم كثقافة ومنهج حياة يبدأ منذ الصغر في العلاقة مع الزملاء والجيران، ويجنح دائمًا إلى الحوار والمسالمة، ويتنازل من جانب واحد عن حقّ الدفاع عن النفس، وهذا ما ينبغي أن تأخذ به الأمة كلّها لتفادي ما ينغص حياتها من عنف وإرهاب”.
فكرة الاتحاد الأوروبي
يرى الكحيل أن “اللاعنف وصفة جميلة” لكنه يشير إلى أنها “خيالية طوباوية تمامًا مثل جمهورية أفلاطون”، ويذكر أن هذه الوصفة استهوت ببساطتها جودت سعيد فأصابتها آفة المبالغة حتى تخطّى المنهج الموضوعي وغاص في القراءة الانتقائية للقرآن والسنة وفي تجاهل الأسئلة البديهية الكبرى التي تهدم القضية من أساسها، والمبالغة تؤدّي حتمًا إلى التأويلات الغريبة”.
وفقًا للدكتور الحاج فإن جودت سعيد لم يستطع تشكيل جماعة تؤمن بأفكاره إلا في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، حيث استطاع سعيد أن “يملأ بعض الفراغ الرمزي الذي خلَّفته حقبة الثمانينيات، إلا أن الجماعة ما لبثت أن بدأت تتفكك وتنحسر في نهاية التسعينيات تحت تأثير تصاعد الأحداث المحيطة بسوريا التي كانت تدفع نحو التطرف والتشدد”.
وعلى قلتهم فقد برز من طلاب جودت سعيد في سوريا مجموعة مؤمنة بأفكاره ومنهم تلميذته حنان اللحام التي أصبحت زعيمة لجماعة نسائية خاصة بها، كما كان من تلامذته خالص جلبي وهو صهره إضافة إلى مجموعة من الناشطين الملتفين حول الشيخ عبد الأكرم السقا في مدينة داريا.
بعد حرب العراق بدأ جودت سعيد بالمناداة بتطبيق فكرة الاتحاد الأوروبي، حيث كانت الفكرة قائمة على تبادل المنفعة والمصالح بدلًا من الصراع والعنف، وفي إطار المسيرة السياسية وقع سعيد على “إعلان دمشق للتغيير السلمي الديمقراطي”، وهو إعلان جمع المعارضة السياسية الحزبية والمستقلة.
ويقول عبد الرحمن الحاج في هذا السياق: “أكمل عدد من تلامذة جودت سعيد السير نحو المعارضة العلنية للنظام، وعندما انطلقت الثورة السلمية في منتصف مارس/آذار 2011، بدأ نجم الشيخ جودت يبرز بقوة، فقد وجدت قطاعات لا بأس بها من الشباب في السلفية اللاعنفية فكرًا إسلاميًا جاهزًا يمكنها أن تستند إليه، وصار مألوفًا ظهور رمز الجماعة (الشيخ جودت) وكلماته في لافتات المظاهرات السلمية، فكان هذا ذروة العهد الذهبي للسلفية اللاعنفية التي تراجعت بعد أشهر مع اشتداد القمع ثم تحول الاحتجاج السلمي إلى ثورة مسلحة فلم تعد أفكار السلفية اللاعنفية تحظى بالاهتمام ذاته”.
الرصيد الفكري
لم تبق أفكار جودت سعيد في مخه بل نشرها بكتب عديدة طرح من خلالها نظرته للأمور الشرعية والسياسية وكيفية تطبيقها، كما أنه خرج عن الإطار العام حتى بات ينظر إليه على أنه المخالف خاصة في طريقة عرضه للأمور الشرعية والعقدية بعيدًا عن الأفكار السياسية، لذلك تجد اليوم بأن الكثير ممن ينعونه ويرثونه يقولون “مع اختلافنا بعدد كثير من أفكار”، وفي الآتي نظرة على أهم كتبه:
كتاب مذهب ابن آدم الأول وفيه طرح جودت سعيد في كتابه هذا فكرة التفريق بين الجهاد والخروج، ويقول الكاتب: “الخروج هو استخدام القوة والعنف للوصول إلى الحكم” و”الجهاد هو استخدام القوة بعد الوصول إلى الحكم برضا الناس، لمنع الإكراه في الدين”، ويقول: “شرع القتال حتى لا يكون إكراه في الدين (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة)”، وبالتالي نجد أنه يطرح شرطين أساسيين لتحقيق الجهاد بالقتال أحدهما في المجاهِد والآخر في المجاهَد ضده، بحيث إذا توافر هذان الشرطان جاز الجهاد أو وجب، وإلا فلا.
بالإضافة إلى كتاب “حتى يغيروا ما بأنفسهم” وكتاب “فقدان التوازن الاجتماعي”، إضافة إلى كتاب “العمل قدرة وإرادة” كما صنف كتاب “الإنسان حين يكون كلًا وحين يكون عدلًا” و كتاب “اقرأ وربك الأكرم” و”رياح التغيير”.
لا يمكن للتكثيف فيما سبق من هذا التقرير أن يتحدث عن الراحل جودت سعيد، لكنه نظرة على أهم مراحل حياة مفكر اللاعنف وكيف تم نقد مذهبه، ولعل قراءة كتبه والردود عليها تعطي تصورًا كاملًا وأكبر عن شخصيته وأفكاره التي كانت تعتبر جديدةً في إطار التفكير في وقت حرج، وهنا لا بد من الإشارة إلى إصرار جودت سعيد على أفكاره ونضاله في سبيلها حتى موته ثائرًا ضد الأنظمة والطغاة.
ولعلنا هنا نتذكر أن كثيرًا من المفكرين والعلماء والناس ماتوا بعيدًا عن وطنهم بانتظار زوال الأسد إلا أنهم لم يستطيعوا رؤية ذلك، لكن تظل الأفكار المناهضة للظلم والطغاة باقية في سبيل تحرير الأرض والإنسان حربًا أو سلمًا.