يواصل أهالي ولاية شمال السودان تصعيدهم الاحتجاجي الشعبي المستمر منذ مطلع الأسبوع الماضي من أجل الضغط على السلطة الانتقالية لتلبية مطالبهم التي من أبرزها إلغاء القفزات الجنونية في أسعار الكهرباء التي بلغت نسبتها في بعض القطاعات 1000%.
وأغلق المحتجون طريق “شريان الشمال” الذي يربط بين السودان ومصر، ما أدى إلى شلل شبه تام في حركة التجارة عبر المعابر البرية التي تربط البلدين، كما احتجزوا، مئات الشاحنات المصرية والسودانية التي تمر عبر هذا الطريق الذي يعد من أكبر الطرق القارية.
يأتي هذا التطور مع التصعيد الذي يقوم به المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة في شرق البلاد، منذ عدة أشهر، والتلويح بغلق الإقليم بصورة شبه كاملة، إذا لم يُلغَ مسار الشرق في اتفاقية جوبا للسلام الموقعة بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وهو الغلق الذي يفصل الخرطوم عن منفذها الوحيد على البحر، ما يفقدها شريانها التجاري الأبرز.
يتزامن ذلك مع استمرار الحراك الثوري الذي تقوده القوى المدنية للمطالبة بإسقاط انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتسليم السلطة للمدنيين، وما رافقه من ضغط شعبي تمثل في عصيان مدني وإضراب جزئي، ما يزيد من تأزم الحالة المعيشية للبلد الذي يعاني من وضعية اقتصادية متدهورة.
الشمال.. طعنة جديدة
وخلال اجتماع لمزارعي الولاية الشمالية، ضم كل ممثلي لجان المناطق والقرى، تقدموا بجملة من المطالب لوالي المنطقة ومجلس السيادة، أبرزها إلغاء زيادة أسعار الكهرباء الجديدة وإعفاء المشاريع الزراعية من الكهرباء تعويضًا لخسائر الموسم الحاليّ وإعطاء الولاية الشمالية نصيبها من كهرباء سد مروي ومن عائدات التعدين، بحسب البيان الصادر عنهم.
البيان شدد على وضع تعامل واحد متفق عليه ملزم لدخول الشاحنات لحدود السودان ومصر، حيث تمنع الأخيرة دخول الشاحنات السودانية إلى أراضيها بينما تنقل شاحناتها البضائع من كل مناطق السودان، كذلك تطبيق معايير السلامة لشاحنات البضائع بإنشاء نقاط موازين على الطريق القومي، داعيًا إلى إصدار قرار يمنع تصدير أي خام سوداني إلا بعد إدخاله في صناعات تحويلية، وإنشاء منطقة تجارية حرة، والبدء في صيانة طريق “شريان الشمال” الذي تعرض للتهالك جراء الحركة الكبيرة لشاحنات النقل الكبيرة التي تنقل البضائع بين البلدين.
التطورات المتلاحقة وتلكؤ السلطة الانتقالية في الاستجابة المبكرة لمطالب المزارعين دفعهم للتصعيد، فقد تجاوز الأمر مسألة زيادة أسعار الكهرباء إلى المطالبة باستقلال الإقليم والحصول على الحكم الذاتي
وكانت لجان المقاومة والمواطنون قد نصبوا عشرات الحواجز على طول طريق الشمال الذي يقطع الولاية قادمًا من الخرطوم ومتجهًا إلى وادي حلفا، في أقصى الشمال، ومن ثم يخترق الحدود ليربط السودان بمصر، وقد تأرجحت الحواجز بين الرفع والنصب، حتى كوّن مجلس السيادة لجنة برئاسة عضو المجلس أبو القاسم برطم، للنظر في المشكلة، التي أسفرت عن إلغاء قرار رفع زيادة أسعار الكهرباء والعودة للتعريفة السابقة، لكن سرعان ما عادت الحكومة للعمل بقرار الزيادة مرة أخرى.
وتعود الأزمة إلى بداية الأسبوع الماضي حين قرر وزير المالية جبريل إبراهيم، زيادة أسعار الكهرباء المخصصة للقطاع الزراعي، وهو القرار الذي يقع ضرره على آلاف المزارعين في الولاية الشمالية، ورغم تراجعه عن القرار في وقت سابق فإنه عاد وطبق الزيادات رسميًا.
الأزمة أكبر من الكهرباء
التطورات المتلاحقة وتلكؤ السلطة الانتقالية في الاستجابة المبكرة لمطالب المزارعين دفعهم للتصعيد، حيث تجاوز الأمر مسألة زيادة أسعار الكهرباء إلى المطالبة باستقلال الإقليم والحصول على الحكم الذاتي، فضلًا عن المطالبة بحق سكان الولاية في الموارد التي تنتجها منطقتهم التي تذهب في معظمها إلى العاصمة.
رئيس رابطة منطقة “أبدوم قشابي”، محجوب محمد محجوب، يرى أن اعتراض السكان على زيادة الكهرباء يرجع لتأثير ذلك على الزراعة، إذ يعتمد الشماليون على الري عبر المضخات من نهر النيل والآبار التي تعمل بالكهرباء، لافتًا إلى مطالبة أبناء الولاية بوقف الصادرات لمصر، التي لا تعود على البلاد بفوائد من العملة الأجنبية، بحسب تصريحاته لـ”الجزيرة“.
يمثل الطريق الشمالي منفذ السودانيين الأبرز لتصدير سلعهم ومحاصيلهم لمصر التي تعد السوق الأكبر للصادرات السودانية بين دول الكوميسا “السوق المشتركة لشرق إفريقيا وجنوبها”
وتجنبًا للتصعيد وضع مزارعو الشمال قائمةً من الشروط للسلطة الانتقالية على رأسها منح الولاية نصيبها من كهرباء سد مروي، البالغ 5%، إلى جانب تحديد نصيب الولاية من عائدات التعدين، ومناهضة زيادات تعرفة الكهرباء الأخيرة، وإنشاء ترعتي سد مروي، بجانب تقنين دخول الشاحنات المصرية والتعامل بالمثل في دخول السائقين لكلا البلدين وإنشاء موازين على طريق شريان الشمال، منوهين أن نصب الحواجز يهدف في المقام الأول إلى منع استنزاف موارد السودان وإيقاف تصدير ثروات البلاد دون عائد مجزٍ.
شلل اقتصادي
الطريق الشمالي يعد شريان الاقتصاد الأبرز للبلاد بعد ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، فهو البديل الأمن لحركة التجارة بعد غلق الممر البحري الوحيد، وعليه ارتفع عدد المركبات المحملة بالمنتجات والسلع القادمة من مصر إلى 85 بدلًا عن 40 شاحنة يوميًا.
ويمثل هذا الطريق منفذ السودانيين الأبرز لتصدير سلعهم ومحاصيلهم لمصر التي تعد السوق الأكبر للصادرات السودانية بين دول الكوميسا “السوق المشتركة لشرق إفريقيا وجنوبها”، فمن خلاله يصدرون السمسم والموز والخضراوات واللحوم المذبوحة والحية والقطن، ومنه أيضًا يستوردون معدات ومدخلات الإنتاج والسيراميك والأواني المنزلية والمواد الغذائية والأثاث.
وتشير الإحصاءات إلى أن حجم الصادرات السودانية لمصر بلغت خلال عام 2020/2021 أكثر من 346 مليون دولار، في حين بلغت واردات السودان من مصر أكثر من 606 مليون دولار، كما نقل المحلل المالي والاقتصادي بابكر إلياس عن آخر إحصائية للتجارة الخارجية أصدرها البنك المركزي، لافتًا إلى أن الواردات تشمل مستلزمات صناعية بنسبة 35% من جملة الواردات، في حين تبلغ نسبة واردات المواد الاستهلاكية 65%.
وعليه يحذر الخبير الاقتصادي السوداني من أن غلق هذا الطريق سيكون له تداعيات سلبية على اقتصاد البلدين، منوهًا أن ذلك سيؤدي بالتبعية إلى تآكل القيمة المضافة المحلية الوطنية في سلسلة قيمة الإنتاج، وعليه ستتوقف العديد من روافد الصناعة الوطنية التي تعتمد في المقام الأول في مدخلات تصنيعها على المواد المستوردة من الخارج، وهو ما سيكون له تأثير على العملة المحلية التي من المتوقع أن تواصل انهيارها أمام العملات الأجنبية.
الأمور تتعقد أكثر مع استمرار التوتر في الولايات الشرقية، حيث إغلاق الطريق الرابط بين الموانئ وبقية الولايات، الذي شمل 3 نقاط في ولاية البحر الأحمر، منها محطة “العقبة” المؤدية لموانئ البلاد في بورتسودان وسواكن على البحر الأحمر، ومحطة أوسيف على الطريق القاري مع مصر، بجانب أربع مناطق أخرى بعدة ولايات، حتى باتت العاصمة الخرطوم شبه معزولة تمامًا، وهو الإقليم الذي يتحكم في أكثر من 70% من حركة التجارة الخارجية للبلاد.
وبينما كان الشعب الذي خرج في 18 ديسمبر/كانون الأول 2018 يؤمل نفسه بتحسن نسبي في أحواله المعيشية، عقب سقوط نظام عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، إذ به يجد نفسه داخل مفرمة الحياة المعيشية الصعبة في ظل لعبة “شد الحبل” بين العسكر المتشبثين بالسلطة والقوى المدنية الراغبة في دمقرطة الحكم رغم ما تعانيه من انقسامات حادة، ليبقى السواد الأعظم من السودانيين في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع فيما تبقى من المرحلة الانتقالية.