ترجمة وتحرير: نون بوست
يفتتح المؤرخ ماركوس ريديكر كتابه “سفينة العبيد: تاريخ بشري” بإعادة بناء مروعة لرحلة أسير من الشاطئ إلى السفينة؛ فيقول:
“نمت السفينة أكبر وصارت أكثر رعبًا مع كل ضربة قوية من المجاديف، وازدادت الروائح قوة وأصبحت الأصوات أعلى؛ فالبكاء والنحيب من جانب والغناء المنخفض الحزين من جانب آخر، والضجيج الفوضوي للأطفال الذين يضربون بأيديهم بصوت منخفض على الخشن كأنهم يقرعون الطبول، مع الكلمتين الغريبتين والمفهومتين أيضًا: شخص يطلب “ميني” أي ماء، وآخر يلقي لعنة ويناشد “ميابيكا”، أي الأرواح”.
وعاش ما يقدر بنحو 12.5 مليون شخص نسخة من هذه الرحلة؛ حيث تم أسرهم وشحنهم بشكل أساسي من الساحل الغربي لأفريقيا إلى نصف الكرة الغربي خلال أربعة قرون من تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، ومن هذا العدد؛ نجا حوالي 10.7 ملايين شخص ووصلوا إلى شواطئ ما يسمى بالعالم الجديد.
وبفضل عقود من العمل الشاق والمضني، نعرف الكثير عن حجم الاتجار بالبشر عبر المحيط الأطلسي وعن الأشخاص على متن كل سفينة، فالكثير من هذا البحث متاح للجمهور في شكل قاعدة بيانات “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)”، وهي مؤسسة تعرض بشكل مفصل المعلومات عن السفن والرحلات الفردية وحتى الأفراد، وهي أداة رائدة للعلماء الباحثين في الرق وتجارة الرقيق وعالم المحيط الأطلسي؛ حيث تستمر المعلومات في النمو، ففي العام الماضي؛ قدم الفريق الذي يقف وراء “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)” مجموعة بيانات جديدة تحتوي على معلومات حول تجارة الرقيق المحلية داخل الولايات المتحدة، بعنوان “محيطات كينفولك”.
ويعود الجهد المنهجي لتحديد حجم تجارة الرقيق إلى القرن التاسع عشر على الأقل؛ فعلى سبيل المثال، في طبعة 1888 من المجلد الثاني من كتابه “تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية: من اكتشاف القارة الأمريكية”، يقدر المؤرخ جورج بانكروفت “عدد الزنوج” الذين استوردهم “الإنجليز إلى جزر الهند الغربية الإسبانية والفرنسية والإنجليزية، والمستعمرات القارية الإنجليزية، بثلاثة ملايين شخص غير ربع مليون آخرين تم شراؤهم من أفريقيا وماتوا وألقوا في المحيط الأطلسي أثناء نقلهم”، مضيفًا: “بعد كل استنتاج يتضح أن هذه التجارة تأخذ طبيعة الجريمة بشكل ضخم”.
وفي عام 1958؛ قام المؤرخان الاقتصاديان ألفريد إتش كونراد وجون آر ماير بإعادة تشكيل دراسة العبودية – كتاريخ اقتصادي على نطاق أوسع – وذلك بنشر “اقتصاديات العبودية في أنتي بيلوم الجنوبية”؛ حيث أحدثت أساليبهم التي تعتمد على البيانات الإحصائية والتحليل الرياضي، ثورة في المجال.
وتكمن أصول “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)” الآن على وجه التحديد، في عمل مجموعة من العلماء الذين بدأوا، بعد عقد من الزمان، في جمع البيانات حول رحلات تجارة العبيد وترميزها لاستخدامها باستخدام كمبيوتر مركزي.
وأخبرني ديفيد إلتيس، أستاذ التاريخ الفخري في إيموري والمحرر المشارك السابق لقاعدة بيانات “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)”: “يعود الأمر إلى أواخر الستينيات وعمل فيليب كيرتن”، مضيفًا: “لقد ألف الكتاب المسمى “تجارة الرقيق الأطلسية: تعداد سكاني”، والذي تضمن جزءًا منه حوسبة – والتي كانت خطوة دراماتيكية في تلك الأيام – لقائمة برحلات العبيد في القرن التاسع عشر. وأرسل لي، ردًا على مكالمة جرت بدون ترتيب سابق، صندوقًا من 2313 بطاقة IBM؛ حيث كان هناك بطاقة واحدة لكل رحلة، وكانت هذه نقطة البداية”.
على الرغم من أنه وصل عدد لا يحصى من الأفارقة المستعبدين إلى الموانئ صعودًا وهبوطًا على ساحل الولايات المتحدة، ولكن تم إرسال الحصة الأكبر إلى نيو أورلينز
وعلى مدى العقدين التاليين، ومن خلال العمل بشكل مستقل وتعاوني؛ سيحول المؤرخون في الولايات المتحدة وحول العالم هذه المعلومات الأرشيفية حول التجارة عبر المحيط الأطلسي إلى مجموعات بيانات تمثل أكثر من 11000 رحلة فردية، وهو ما يعتبر إنجازًا هامًّا حتى لو كان لا يمثل سوى جزء بسيط من التجارة في الأرواح البشرية التي بدأت في القرن الخامس عشر وحتى نهايتها في القرن التاسع عشر.
وفي وقت لاحق، وبدءًا من التسعينيات، بدأ هؤلاء العلماء في دمج هذه البيانات – التي شملت تجارة الرقيق البريطانية والهولندية والفرنسية والبرتغالية – في مجموعة بيانات واحدة، وبحلول نهاية العقد تم إصدار أول قاعدة بيانات “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)” للجمهور كمجموعة أقراص مدمجة (باهظة الثمن) بما في ذلك تفاصيل من أكثر من 27000 رحلة.
ومن الصعب المبالغة في أهمية هذا العمل بالنسبة لمؤرخي العبودية وتجارة الرقيق؛ حيث يحكي قصة الوصول إلى الميناء ومغادرته، وبالتالي تعتبر معرفة متى وأين وعدد المرات التي نزلت فيها السفينة هو مزيد من المعرفة عن طبيعة التبادل المحدد وكذلك تجارة الرقيق ككل، وكل جزء من المعلومات الجديدة يملأ فراغات وقت انقضى منذ فترة طويلة من الذاكرة الحية.
وبعد ما يقرب من 10 سنوات من تقديمها كوسائل إعلام مادية؛ تم تقديم “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)” للجمهور كموقع ويب في عام 2008 ثم أعيد إطلاقه في عام 2019 بواجهة جديدة ومزيد من التفاصيل، واليوم يحتوي الموقع، الممول بشكل أساسي من المنح، على مجموعات بيانات حول مختلف جوانب تجارة الرقيق: منها قاعدة بيانات عن هذه التجارة عبر المحيط الأطلسي بأكثر من 36000 مدخلًا، ومنها قاعدة بيانات تتضمن إدخالات عن الرحلات التي جرت داخل الأمريكتين، وقاعدة بيانات ثالثة تتضمن التفاصيل الشخصية لأكثر من 95000 أفريقي مستعبد عٌثر عليها على متن هذه السفن.
وأحدث إضافة إلى “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)” هي مجموعة بيانات توثق حركة المرور «الساحلية» إلى نيو أورلينز خلال سنوات ما قبل الحرب من 1820 إلى 1860، عندما كانت أكبر سوق لتجارة الرقيق في البلاد، وذلك بعدما طلب قانون 1807، الذي يحظر استيراد الأفارقة المستعبدين إلى الولايات المتحدة، من أي قبطان لسفينة ساحلية على متنها أشخاص مستعبدون تقديم بيان، عند المغادرة وعند الوصول، يسرد هؤلاء الأفراد بالاسم.
وعلى الرغم من أنه وصل عدد لا يحصى من الأفارقة المستعبدين إلى الموانئ صعودًا وهبوطًا على ساحل الولايات المتحدة، ولكن تم إرسال الحصة الأكبر إلى نيو أورلينز؛ حيث تستمد مجموعة البيانات الجديدة هذه من ما يقرب من 4000 “بيان عبيد” لتوثيق حركة المرور إلى ذلك الميناء، وتسرد هذه البيانات معلومات عن أكثر من 63000 أسير، بما في ذلك الأسماء والأوصاف المادية، بالإضافة إلى معلومات عن مالك الفرد ومعلومات عن السفينة وقبطانها.
ونظرًا لخصوصيتها فيما يتعلق بالأشخاص المستعبدين، فإن هذه المعلومات الجديدة رائدة بالنسبة للباحثين العاديين وعلماء الأنساب كما هي بالنسبة للعلماء والمؤرخين. إنها أيضًا، بالنسبة لي، فرصة للتفكير في الأسئلة الأخلاقية الصعبة التي تحيط بهذا العمل: ما مدى نتعامل بالضبط مع البيانات التي تسمح لشخص ما – أي شخص – بتحديد شخص معين على أنه مستعبد؟ وكيف نستخدم هذه الأدوات القوية للتحليل الكمي بدون أن نستبعد البعد البشري بعيدًا عن القصة ؟ وماذا يعني أن تدرس شيئًا شريرًا ووحشيًا مثل تجارة الرقيق باستخدام بعض أدوات التجارة نفسها؟.
وقبل أن نذهب إلى أبعد من ذلك؛ يجدر بنا قضاء المزيد من الوقت في تاريخ تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، على الأقل فيما يتعلق بالولايات المتحدة.
تم بيع الغالبية العظمى من الأشخاص المأخوذين من إفريقيا إلى المستعْبِدِينَ في أمريكا الجنوبية أو منطقة البحر الكاريبي؛ فقد جلب التجار البريطانيون والهولنديون والفرنسيون والإسبان والبرتغاليون أسراهم، من بين أماكن أخرى، إلى جامايكا وبربادوس وكوبا وبورتوريكو والبرازيل وهايتي، بالإضافة إلى الأرجنتين وأنتيغوا وجزر البهاما.
ووصل ما يزيد قليلاً عن 3.5 بالمائة من المجموع، أي حوالي 389000 شخص، إلى شواطئ أمريكا الشمالية البريطانية وساحل الخليج خلال تلك القرون عندما تمكنت سفن العبيد من العثور على ميناء.
وفي العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، غذى النشاط الأخلاقي والديني جهدًا لقمع المشاركة البريطانية في تجارة الرقيق الأفريقية؛ ففي عام 1774 تبنى الكونجرس القاري للولايات الأمريكية الثائرة ضد بريطانيا سياسة عامة مؤقتة لوقف الاستيراد ضد بريطانيا وممتلكاتها، وتم وقف تجارة الرقيق بشكل فعال.
وعلى الرغم من أن هذه السياسة توقفت في ظل الكونجرس الاتحادي بعد حرب الاستقلال؛ إلا أنه بحلول عام 1787 حظرت معظم ولايات الولايات المتحدة المستقلة حديثًا استيراد العبيد، مع أن العبودية نفسها استمرت في الازدهار في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد.
ومن عام 1787 إلى عام 1788؛ كان الأمريكيون يكتبون ويصدقون على دستور جديد، وفي تنازل للمزارعين في الجنوب الأدنى الذين طالبوا بالوصول إلى التجارة عبر المحيط الأطلسي؛ تم وقف حظر تجارة الرقيق الخارجية لمدة 20 عامًا على الأقل، لكن الكونجرس كان بإمكانه منع السفن الأمريكية من المشاركة وهو ما طبقه فعلًا في عام 1794.
وفي عام 1807، وفي الموعد المحدد تمامًا، أقر الكونجرس إجراءً – صدق عليه الرئيس توماس جيفرسون، وهو من سكان فيرجينيا المالكين للعبيد – لإلغاء استيراد الأفارقة المستعبدين إلى الولايات المتحدة، وذلك اعتبارًا من 1 يناير/كانون الثاني 1808.
لكن نهاية التدخل الأمريكي في تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي (أو على الأقل النهاية الرسمية، بالنظر إلى التجارة غير القانونية التي لن تنتهي حتى بداية الحرب الأهلية) لم تكن تعني نهاية تجارة الرقيق تمامًا؛ حيث ظلت العبودية تجارة كبيرة ومزدهرة، مدفوعة بالطلب على التبغ والأرز ونبات الإنديجو (النيلي)، وبشكل أكبر على القطن الذي كان بالفعل في طريقه إلى الهيمنة باعتباره المحصول النقدي الرئيسي لأصحاب العبيد في الجنوب.
من الصعب تحديد الحجم الإجمالي للمبيعات في تجارة الرقيق المحلية، لكن العلماء يقدرون أنه في فترة الأربعين عامًا بين تسوية ميسوري وأزمة الانفصال، تم إرسال ما لا يقل عن 875000 شخصًا إلى الجنوب والجنوب غربًا من الجنوب الأعلى، ومعظمهم نتيجة للمعاملات التجارية، والباقي نتيجة لهجرة المزارعين.
ففي غضون عقد من اختراع محلج القطن في عام 1793، زاد إنتاج القطن السنوي عشرين ضعفًا إلى 35 مليون جنيه في عام 1800، وبحلول عام 1810، ارتفع الإنتاج إلى ما يقرب من 85 مليون جنيه إسترليني سنويًا، وهو ما يمثل أكثر من 20 بالمائة من عائدات الصادرات في البلاد، وبحلول عام 1820، كانت الولايات المتحدة تملك أراض تنتج ما مجموعه 160 مليون رطل من القطن سنويًّا.
وقد غذى هذا النمو التوسع السريع للأراضي الأمريكية، والذي ساهمت فيه الأحداث في الخارج؛ ففي أغسطس 1791 بدأت الثورة الهايتية بتمرد المستعبدين، وفي عام 1803 هزم ثوار هاييتي بعثة الجيش الفرنسي الأخيرة التي أرسلت لتهدئة المستعمرة بعد سنوات من الصراع الدموي، ولدفع ثمن هذا المستنقع الباهظ الثمن – ولإبقاء الإقليم بعيدًا عن أيدي البريطانيين – باع نابليون بونابرت الذي – سيصبح بعد ذلك بقليل الإمبراطور – ما تبقى من أمريكا الشمالية الفرنسية إلى الولايات المتحدة بسعر محروق.
وضاعف الإقليم الجديد حجم البلاد تقريبًا، مما فتح أرضًا جديدة للاستيطان والزراعة التجارية، ومع توسع الأمة الأمريكية أكثر في الجنوب الشرقي، توسع نظام العبيد لديها أيضًا؛ فقد انتقل المزارعون من الشرق إلى الغرب، وجلب البعض العبيد واحتاج آخرون لشرائهم، ولطالما كانت هناك سوق داخلية للعمالة المستعبدة، لكن نهاية التجارة الدولية جعلتها أكبر وأكثر ربحًا.
ومن الصعب تحديد الحجم الإجمالي للمبيعات في تجارة الرقيق المحلية، لكن العلماء يقدرون أنه في فترة الأربعين عامًا بين تسوية ميسوري وأزمة الانفصال، تم إرسال ما لا يقل عن 875000 شخصًا إلى الجنوب والجنوب غربًا من الجنوب الأعلى، ومعظمهم نتيجة للمعاملات التجارية، والباقي نتيجة لهجرة المزارعين.
وستساعد البيانات الجديدة الأكثر دقة حول الرحلات والهجرات والمبيعات العلماء على التعمق أكثر من أي وقت مضى في طبيعة العبودية في الولايات المتحدة، وفي تفاصيل التجارة وفي الطرق التي شكلت بها الاقتصاد السياسي للجمهورية الأمريكية.
لكن لا توجد مجموعة بيانات، مهما كانت دقيقة، كاملة؛ فهناك أشياء يمكن أن يحجبها القياس الكمي، وهناك، مرة أخرى، أسئلة أخلاقية يجب طرحها والإجابة عليها عند التعامل مع الدراسة الكمية للفظائع البشرية، وهو ما نفعله في النهاية عندما نجلب الأساليب الإحصائية والرياضية لدراسة العبودية.
إن التفكير في تجارة الرقيق من حيث السفن والرحلات – للنظر إليها على أنها أعمدة في جدول بيانات أو كنقاط في رسوم متحركة عبر الإنترنت – يعني الانخراط في فعل تجريدي، وليس أمام المؤرخين خيار سوى الاعتماد، كما كتب ماركوس ريديكر، على “الدفاتر والتقويم والميزانيات العمومية والرسوم البيانية والجداول”، لكنها تحمل تكلفة باهظة، وتجردها من حقيقتها الإنسانية، والتي “يجب فهمها بشكل ملموس لأسباب أخلاقية وسياسية”، كما كتب ريديكر.
ضع في اعتبارك أيضًا مدى القيود المفروضة على أدوات التجريد نفسها في تاريخ تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، فكما لاحظت المؤرخة جينيفر إل مورغان في كتابها “الحساب مع العبودية: الجنس والقرابة والرأسمالية في أوائل المحيط الأطلسي الأسود”، كان آباء الديموغرافيا الحديثة، الكتاب والرياضيين الإنجليز في القرن السابع عشر ويليام بيتي وجون جرانت، “يفكرون في مشاكل السكان والتنقل”، وكانت أسئلتهم تأتي من وجهة نظر فن الحكم السياسي، مثل: كيف يمكن لإنجلترا زيادة ثروتها؟ وكيف يمكنها التعامل مع فائض سكانها؟ وماذا ستفعل بـ”الزيادة السكانية التي لم ينم استهلاكها” في السوق الرسمية؟؛ حيث كان بيتي مهتمًا بإيرلندا – وهي تعتبر بشكل ما أول مستعمرة بريطانية – والإيرلنديين، وكان يعتقد أنه إذا كان من الممكن نقلهم قسراً إلى إنجلترا، فيمكنهم، على حد تعبير مورغان، أن يصبحوا “شيئًا ذا قيمة بسبب قدرتهم على زيادة عدد السكان والقوة العمالية للإنجليز”.
قام التجار والمستعبدون والمسؤولون وغيرهم بتوثيق تجارة الرقيق في سياق العلاقات القانونية والتجارية؛ حيث كان العبيد بالنسبة لهم مجرد أشياء يتم شراؤها وبيعها من أجل الربح والثروة والمكانة.
وأخبرتني مورغان – في مقابلة – أن هذا الاكتشاف المفاهيمي لا يمكن فصله عن تجارة الرقيق؛ حيث قالت إن الإنجليز “أصبحوا ينظرون للناس على أنهم “قابلون للتجريد” من خلال مشاهدة ما فعله الإسبان والبرتغاليون على امتداد 200 عام، وأيضا من خلال فعل ذلك بأنفسهم، قائلين إنه بمقدورهم نقل الأفارقة أينما أرادوا، ثمّ استخدامهم لأهدافهم الخاصة”.
ويمثّل تجسيد الحياة البشرية جزءًا لا يتجزأ من هذا المشروع المبكر للتقدير الكمي؛ حيث كتبت مورغان في كتابها أن جرونت “قام بما يتفق المؤرخون وعلماء السياسة على أنه أول استخدام منهجي للأدلة الديموغرافية لفهم مشكلة اجتماعية سياسية معاصرة”، ومما يزيد هذه المشكلات تعقيدًا هو مدى اعتمادنا على الوثائق التي كتبها مالكوا العبيد للتعرف على المستعبدين.
فقد ذكرت المؤرخة ماريسا ج. فوينتيس في كتابها بعنوان “أرواح المحرومين: النساء المستعبدات والعنف والأرشيف” أن النساء المستعبدات في بربادوس “يظهرن كما لو أنهن مواضيع تاريخية من خلال شكل ومحتوى الوثائق الأرشيفية التي توثق الطريقة التي عشن بها؛ حيث تعرّضن للانتهاك بشكل فادح والتحيّز والاستغلال الجنسي وتم إسكاتهن وجعلهن يشعرن بأنهن غير مفيدات، ويظهر لنا هذا العنف المسلط على أجسادهن المستعبدة من خلال الوثائق التي تحصيهُنَّ وتُدِينُهُنَّ وتقيِّمْهُنَّ”.
وتتابع فوينتيس قائلة: “ينشأ العنف المبني على المعرفة من المعلومات التي يتم تجميعها عن النساء المستعبدات من قبل الرجال والنساء البيض في هذا المجتمع، وهذه المعرفة هي الي بقيت محفوظة في شكل أرشيف”.
وقام التجار والمستعبدون والمسؤولون وغيرهم بتوثيق تجارة الرقيق في سياق العلاقات القانونية والتجارية؛ حيث كان العبيد بالنسبة لهم مجرد أشياء يتم شراؤها وبيعها من أجل الربح والثروة والمكانة.
وإذا كانت الحياة “التاريخية” للفرد تتشكل من خلال الوثائق والصور التي يتركها وراءه، فكما تكتب فوينتيس؛ يعيش معظم النساء والرجال والأطفال المستعبدين حياتهم التاريخية على أنهم مجرد “أرقام في سجل العقارات أو دفتر سلع السفن”، وبهذا الشكل يتم تشكيلهم على أنهم “سلع إضافية” متاحة للاستخدام دون تقديم أي دليل على أنهم كانوا في يوم ما على قيد الحياة.
وقالت جينيفر مورغان إن “البيانات التي لدينا عن تلك السفن هي أيضا نوعا ما عالقة في قبضة قباطنة السفن الذين يهتمون لبعض الأشياء ولا يهتمون لأشياء أخرى”، لكننا نعلم ما هو المهم بالنسبة لهم.
في الواقع؛ تتمثّل مهمة المؤرخ في جمع موارد أخرى لإضافتها لهذه المعرفة، وبالتالي تسليط الضوء على ما قد تحجبه الوثائق والبيانات، فقد قالت فوينتيس: “من خلال تحديد المقاييس التي كان تجار الرقيق يعتمدونها، فأنت لا تزودنا في الواقع بمعلومات عن البشر الذين تحملوا بالفعل وطأة هذا العنف، رغم أن ذلك مهم فعلًا لأنه إضفاء الطابع الإنساني على هذا التاريخ مهم للتأكيد على أن البشر الأفارقة قد عاشوا كل هذه الصعوبات”.
ويستقطب موضوع “العلوم الإنسانية الرقمية” جمهورًا كبيرًا يبحث عن المنح الدراسية والاستفسارات، وضمن هذا السياق؛ فإن جزءًا مهمًّا من احترام إنسانية المستعبدين يتمثّل في التفكير في أحفادهم.
وفي هذا الشأن؛ قالت جيسيكا ماري جونسون، أستاذة التاريخ المساعدة في جامعة جونز هوبكنز ومؤلفة كتاب “الجلد الشرير: النساء السود والحميمية والحرية في العالم الأطلسي”: “إذا كنت تعمل على مشروع العلوم الإنسانية الرقمية، فهو موضوع موجود حول العالم، وبين عامة الناس خارج الأكاديمية وخارج وادي السيليكون. وهذا يعني أنه يجب أن تكون هناك أسئلة معينة أخرى يجب طرحها، ونوع مختلف من أخلاقيات الرعاية ومبادئ أخرى نقدمها”.
لدي بعض الخبرة الشخصية حول هذا الموضوع؛ فقد عملت – منذ سنوات – مع زملائي في مجلة “سلايت” على رسم بياني يوضح حجم تجارة الرقيق والمدة التي تستغرقها لعبور المحيط الأطلسي، وذلك باستخدام بيانات من موقع “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)”؛ حيث اعتمد هذا الرسم على خريطة المحيط الأطلسي، فتم تحديد السفن بنقاط، حيث تنتقل من نقطة انطلاقها على الساحل الأفريقي إلى نقطة وصولها في الأمريكتين، ومع مرور الوقت تزايد عدد هذه السفن بشكل ساحق.
ما لم أقدره في ذلك الوقت هو كيف فقدنا، نحن المبدعون، السيطرة على إبداعنا؛ حيث تم استعماله في المدارس والمتاحف والمشاريع الشخصية والمعارض. ومن المتوقع أن يتصل بنا بعض هؤلاء الأشخاص من أجل معرفة المزيد عن السفن والرحلات والناس، لكننا لن نتمكن من الإجابة على أسئلتهم.
من الواضح أن تجار الرقيق الذين وثّقوا حمولتهم للسلطات الفيدرالية – وهي البيانات التي كانت أساس عمل ويليامز – لم يهتموا بحياة وتجارب أَسْرَاهم، بل كانوا يعتبرونهم مجرد بضائع، ولم يكن لديهم نية الحفاظ على هوياتهم كأشخاص
عندما أفكر في هذا الرسم البياني، أتساءل عما إذا كنا قد تعاملنا مع البيانات بالعناية المطلوبة؟ وما إذا كنا قد تمكنا من خلال هذا التجريد، من إعادة تمثيل بعض الطرق التي تُحول بها تجارة الرقيق الأشخاص إلى مجرد أشياء؟
من بين طرق معالجة هذه المشكلة هي التأكد من أن الناس يفهمون السياق، فقد قال جونسون متحدثًا عن “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)” وغيرها من الأعمال حول موضوع العبودية: “أريد أن أتأكد من أن الأشخاص ذوي البشرة السوداء اليوم لا يشعرون أنهم يتعرضون للاعتداء مرة أخرى من خلال المعلومات الواردة في المشروع أو من خلال الأساليب المعتمدة لبناء المشروع أو أي من ذلك. وفي حال تقرّر أنه لا يجب أن يشعر أي من الناس بأنهم عرضة للاعتداء، فسيتحتم حينها تعديل كل شيء بدءًا من ألوان موقع الويب وحتى البيانات الوصفية نفسها، لأنه لا يجب أن يشعر أي أحد بأنه يتعرّض للهجوم خلال اطلاعهم على هذا المشروع أو على هذا الموقع”.
في الواقع؛ خضعت قاعدة بيانات “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)” الجديدة والتي تأتي بعنوان “محيطات كينفولك”؛ إلى بعض التعديلات مع أخذ هذه الأسئلة والاهتمامات بعين الاعتبار؛ حيث قالت جيني ويليامز، التي جمعت البيانات عندما كانت طالبة دكتوراه في جامعة جونز هوبكنز، ثم ساعدت في دمجها في قاعدة البيانات عندما أصبحت زميلة في أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، وهي أيضًا إحدى أصدقائي وقد ناقشت معها هذا العمل لسنوات: “يمكنك استخدام المنهجيات الكمية للتعرف على الأشخاص المستعبدين، والتعرف على تجاربهم”.
ومن الواضح أن تجار الرقيق الذين وثّقوا حمولتهم للسلطات الفيدرالية – وهي البيانات التي كانت أساس عمل ويليامز – لم يهتموا بحياة وتجارب أَسْرَاهم، بل كانوا يعتبرونهم مجرد بضائع، ولم يكن لديهم نية الحفاظ على هوياتهم كأشخاص، حيث قالت ويليامز إنه على الرغم من هذه اللامبالاة، فإن هذا ما حدث بالفعل.
وأوضحت ويليامز أن هذه السجلات فريدة من نوعها، فقالت: “إذا نظرت إلى فواتير البيع فستجد أنه لا يتم تحديد معظم الأشخاص بالاسم الأخير، وإذا نظرت إلى الإعلانات التي تبلغ عن الفارين من المستعبدين، والتي قمت بالبحث في 11 ألف إعلان منه، وبمقارنتها مع البيانات، فإن معظم الأشخاص غير مدرجين بالاسم الأخير. وذلك لأن مالكي العبيد لم يقروا بأسمائهم الأخيرة. ورغم معرفتهم بأسماء عائلاتهم، إلا أنهم لم يهتموا بذلك”.
لكنها تابعت قائلة: “إذا سألت شخصا مستعبدًا عن اسمه، يجيب بالاسم الأول والأخير بشكل أكثر شيوعا مما قد تراه في السجلات الأخرى. وهكذا، تحتوي البيانات، مقارنة بجميع سجلات العبيد الأخرى التي رأيتها، على نسبة أعلى بكثير من الأسماء الأخيرة فيها”.
وتجعل هذه الحقيقة من البيانات ذات أهمية لعلماء الأنساب وغيرهم من المهتمين بتاريخ عائلاتهم، فقد قالت ويليامز: “إذا كانت العائلات السوداء قادرة على الوصول أو تتبع علم نسبهم إلى القرن التاسع عشر، فمن النادر جدًّا أن يتجاوزوا سنة 1870″، وهي السنة التي وقع فيها أول إحصاء فيدرالي بعد العبودية، مضيفة: “إنها ليست قاعدة بيانات للجميع، ولكن إذا تمكنت من جعل الناس يعرفون عنها، فمن المحتمل أن تكون مفيدة لملايين الأشخاص نظرا لأن 63 ألف شخص لديهم ملايين الأحفاد”.
مع وجود تاريخ العبودية، يجب أن يكون هناك تكامل بين الكمية والنوعية، ومن المهم معرفة حجم ونطاق تجارة الرق، وطريقة توحيدها وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، والطريقة التي شكلت بها تاريخ العالم الأطلسي بأكمله.
ويوافق ديفيد إلتيس قائلًا: “من النادر جدًّا وجود هذا الكيان الضخم أو ذاكرة التخزين المؤقت الكبيرة لأسماء المستعبدين في الولايات المتحدة؛ حيث يمكن لأي شخص العودة والعثور على شيء ما من أوائل القرن التاسع عشر، والعثور على شخص لديه ارتباط محتمل، وهو ما يُعد غير ممكن للعابرين عبر الأطلسي؛ فلا يمكنك العودة إلى أفريقيا”.
وإذا كان الحفاظ على إنسانية المستعبدين – على الرغم من طبيعة المصادر – جزءًا من المهمة الأخلاقية لباحثي الكم المتخصصين في الرق، فإن ربط هذه البيانات بعلماء الأنساب السود تعد إحدى الطرق المؤيدة لحقيقة وجودهم ووجود موروثاتهم.
وقال كارلتون هيوستن، المنحدر من إحدى سلالات الـ63 ألف أسير الذين اُدرجت أسماؤهم كجزء من التجارة الساحلية لنيو أورلينز، متحدثًا عن أول مرة شاهد فيها الوثيقة التي تذكر سلفه سيمون ويلسون، وهو شاب تم بيعه من أجل “تهذيب” أشخاص آخرين: “بالكاد استطعت النوم في الليلة الأولى. كان من المقنع للغاية رؤية ذلك. ها هو البيان وها هو الاسم، ما يجعلك تتخيل صورة هؤلاء الشباب، مقيدين على متن قارب، ولا يعرفون إلى أين يتجهون”.
وأضاف هيوستن: ” كما تعلمون لم يكن هناك الكثير الذي يتطلع هو إليه، سوى هذا العالم المزري الذي عاشوا فيه. ومع ذلك؛ فقد نجوا ولم يستسلموا”.
وبالنسبة للمصادر نفسها؛ قد يكون من الممكن استخدام طبيعتها المادية- حقيقة الدفاتر، وسندات البيع وإعلانات عن العبيد الفارين هي أشياء حقيقية وملموسة – لسرد قصص عن البشر المتورطين في هذا الكابوس الذي دام قرونًا، واستخدام وسائل موضوعية أخرى لتقويض الشيء نفسه.
وقال والتر جونسون، أستاذ التاريخ والدراسات الأفريقية والأمريكية من أصل أفريقي بجامعة هارفارد: “هناك طريقة غريبة تساعدك فيها الحياة اليومية للوثيقة على فهم الاختلال الاستثنائي للقوة والخطأ، وهي إذا ما قام شخص من خلال بعض لطخات الحبر في الدفتر، فعليك أن تتخيل شخصًا ما يكتب ذلك، وبمجرد أن تتخيل ذلك فإنك تتخيل القوة الخارقة التي تؤثر بها تلك الكلمات المكتوبة على الصفحة على حياة شخص ما. في الواقع؛ حياة هذا الشخص ونسبه تتحول بشكل جذري من خلال ضربة القلم الضالة التي تأخذك فيما بعد إلى لحظة تتخيل فيها هؤلاء الأشخاص وكيف عاشوا”.
قد لا يكون لدينا العديد من تماثيل المُسْتَعْبَدِيِنْ وقد لا يكون لدينا في أي مكان ما يكفي من الحروف والصور والسجلات الشخصية للملايين الذين عاشوا وماتوا في العبودية؛ لكنهم كانوا أفرادًا حقيقيين يعيشون ويتنفسون مثل الرجال والنساء صنعنا لهم التماثيل
في الواقع؛ يمكن أن تساعدنا هذه المادة في فهم كيفية بقاء هذا النظام وازدهاره لفترة طويلة، فقد أخبرتني جينيفر مورغان: “أنا لست مؤرخة للعبودية لكي أقضي وقتي في فهم اللحظات الهائلة من العنف الرهيب الذي حدث، بل أريد أن أفهم لحظات صغيرة من العنف الذي أراه يضيف نوعًا من التخدر الموجود؛ تخدر في التعاطف، وتخدر في الترابط البشري”.
وهو ما يعني أنه مع وجود تاريخ العبودية، يجب أن يكون هناك تكامل بين الكمية والنوعية، ومن المهم معرفة حجم ونطاق تجارة الرق، وطريقة توحيدها وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، والطريقة التي شكلت بها تاريخ العالم الأطلسي بأكمله.
ولكن كما أكد كل مؤرخ سبق وأن تحدثت معه من أجل هذه القصة؛ من الضروري أيضًا أن يكون لدينا فهم عميق للأشخاص الذين كانوا جزءًا منها وتحديدًا أولئك الذين اُجبروا على ذلك؛ فلسبب وجيه أطلق دو بويز على تجارة الرق عبر المحيط الأطلسي اسم “أعظم دراما في السنوات الأخيرة من تاريخ البشرية”؛ وهي مأساة شملت “نقل 10 ملايين إنسان من قراهم الأصلية إلى منطقة إلدورادو الغربية المكتشفة حديثًا حيث “نزلوا إلى الجحيم””، وهي توازي “الاضطرابات الإنسانية مثل الإصلاح والثورة الفرنسية”.
وسيتضمن مستقبل “رحلات الرقيق (SlaveVoyages)” مزيدًا من المعلومات حول الأشخاص المتورطين في تجارة الرق والمستعبدين والعبيد على حد سواء، فقد قال ديفيد إلتيس: “نود أن نضيف قاعدة بيانات لتجارة الرق بين البلدان الأفريقية نظرًا لوجود الكثير من حركة العبيد على الجانب الشرقي من المحيط الأطلسي”، وأخبرني أيضا أنه يمكن أن يتخيل اندماجًا مع علماء يوثقون تجارة الرق عبر المحيط الهندي، والتي تعود جذورها إلى العصور القديمة والتي كان شكلها الأكثر حداثة متزامنًا مع التجارة عبر المحيط الأطلسي، قائلًا: “نحن نميل حقًّا إلى منطقة لم يكن من الممكن تصورها في سنة 1969”.
قد لا يكون لدينا العديد من تماثيل المُسْتَعْبَدِيِنْ وقد لا يكون لدينا في أي مكان ما يكفي من الحروف والصور والسجلات الشخصية للملايين الذين عاشوا وماتوا في العبودية؛ لكنهم كانوا أفرادًا حقيقيين يعيشون ويتنفسون مثل الرجال والنساء الذين صنعنا لهم التماثيل وبينما نتعلم من البيانات الجديدة والأساليب الجديدة؛ فمن الأهمية بمكان أن نُبقي حقيقة إنسانيتهم الأساسية في طليعة جهودنا، يجب أن يكون لدينا الوعي والرعاية والاحترام لكي لا نختزل موضوع تجسيد تجارة الرقيق نفسها؛ فمن الممكن، بعد كل شيء، تعكير صفو القبر دون لمس التربة.
المصدر: نيويورك تايمز