ترجمة وتحرير: نون بوست
يستعد المواطنون الأوكرانيون للحرب، بينما تحتشد القوات الروسية على حدود أوكرانيا. “مجموعة الطوارئ” هي عبارة باتت تستخدم أكثر فأكثر بين أصدقائي ومعارفي في جميع أنحاء البلاد، والسؤال الذي يدور في أذهان الجميع، هو احتمالية أن يكون هناك هجوم بالفعل. طُرح عليّ هذا السؤال مرات عديدة خلال الأسابيع القليلة الماضية، ولا يمكنني تقديم إجابة مرضية. الشيء الوحيد المتأكد منه، هو أن أي دعم معنوي وسياسي وعسكري تحصل عليه أوكرانيا من أصدقائها وحلفائها يقلل من احتمالات الغزو.
اندلعت الأزمة في 17 كانون الأول/ ديسمبر عندما وجهت روسيا إنذارًا غير متوقع للغرب. تضمنت قائمة مطالبها تقديم التزام كتابي بوقف أي توسع إضافي للناتو باتجاه الشرق، وإخراج قوات الناتو متعددة الجنسيات من بولندا ودول البلطيق، وسحب الأسلحة النووية الأمريكية من أوروبا. كان المطلب الأكثر أهمية هو عدم السماح لأوكرانيا أبدًا بالانضمام إلى الحلف.
اعتبرت واشنطن أن المطالب غير مقبولة، ولم يقبلها جميع أعضاء الناتو. النتيجة أننا نجد أنفسنا الآن في خضم أعنف مواجهة دبلوماسية بين الشرق والغرب منذ نهاية الحرب الباردة.
يوجد اختلافات كبيرة بين هذه الأزمة والأزمة السابقة. الأهم من ذلك هو ظهور الصين كشريك فعال فيما ظهر على أنه تحالف صيني سوفياتي، مصحوبًا بانحسار الاتحاد السوفيتي السابق إلى أراضي روسيا حالياً – وهي دولة لا يصنف اقتصادها في قائمة العشرة الأوائل في العالم.
تعتبر دراسة هذه التغييرات أمرا محوريا لفهم السياسة الخارجية لروسيا اليوم. يمكن اعتبار عدوانها على أوكرانيا جزءًا من محاولتها لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، تحديدا إلى حقبة العهد السوفياتي، وإعادة السيطرة الروسية على مناطق النفوذ السوفياتي السابق، أو على الأقل الحد من النفوذ الغربي على ما كان يُعد إمبراطورية موسكو في أوروبا الشرقية.
مجال التاريخ أو حقائقه على الأقل تكشف عن جوهر النزاع
فهل يريد فلاديمير بوتين إعادة إحياء الاتحاد السوفياتي، كما يُطرح اليوم في بعض المناسبات؟ ليس تماماً. فهدفه هو إعادة سيطرة الكرملين على مناطق النفوذ السوفياتي السابق والحفاظ عليه بشكل أكثر فعالية من خلال تأسيس أقاليم تابعة، والتي يفضل أن يحكمها المستبدون، بدلاً من الجمهوريات السوفيتية السابقة، تحت سلطة إمبريالية يكون هو على رأس هرمها.
لا يمكن للتاريخ إخبارنا بما قد يحدث أو لا يحدث غدًا. لكن بإمكانه تقديم فهم أفضل لكيفية وصولنا إلى الوضع الذي نحن فيه اليوم، وما نحن بصدده خاصة في مثل هذه الحالة، هو أن مجال التاريخ أو حقائقه على الأقل تكشف عن جوهر النزاع.
تُذكّرنا الأزمة الحالية أن تفكك الاتحاد السوفياتي – المرتبط ارتباطًا وثيقًا في أذهان الناس باستقالة ميخائيل غورباتشوف كرئيس لبلد غير موجود فعلياً في يوم عيد رأس السنة، سنة 1991 – لم تكن مسرحية من فصل واحد، بل كانت ملحمة مستمرة ذات فصول متعددة.
نشر بوتين مقالاً مطولاً في تموز/ يوليو الماضي تناول فيه على وجه التحديد تاريخ العلاقات الروسية الأوكرانية. تمت صياغة الفكرة الرئيسية للمقال “حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين”، في الفقرة الأولى. وفي معرض إشارته إلى المؤتمر الصحفي الأخير، قال بوتين: “عندما سُئلت عن العلاقات الروسية الأوكرانية، أجبتُ أن الروس والأوكرانيين هم شعب واحد – وكيان واحد. ولم يكن دافع هذه الكلمات بعض الاعتبارات قصيرة المدى أو نتيجة السياق السياسي الحالي”.
ما أشار إليه المقال هو أنه لم يكن هناك شيء اسمه أمة أوكرانية مستقلة. وقد اعتبر الكثيرون أن تجاهل الاختلافات في اللغة والتاريخ والثقافة – وخاصة الثقافة السياسية- بين الروس والأوكرانيين، إنكار لحق أوكرانيا في إقامة دولة. لكن الادعاء بأن الروس والأوكرانيين يشكلون شعبًا واحدًا ليس جديدًا، سواء من خلال تصريحات بوتين أو في تاريخ الفكر السياسي الروسي.
يرجع أصل هذا الادعاء إلى منتصف القرن التاسع عشر على أقل تقدير، عندما شكّل المفكرون الإمبراطوريون الروس، في محاولة منهم لاستيعاب الحركة الوطنية الأوكرانية الصاعدة، مفهومًا للأمة الروسية الثلاثية المكونة من الروس العظماء (أو الروس في الفهم الحالي للكلمة) والروس الصغار ( الأوكرانيين)، والروس البيض (البيلاروسيين).
منعت السلطات الإمبراطورية في ذلك الوقت تقريبا المطبوعات باللغة الأوكرانية في الإمبراطورية، كل ذلك لإيقاف تطور الحركة السياسية والثقافية الأوكرانية.
تلك السياسة لها حدودها. لقد أبطأت تطوير مشروع وطني أوكراني حديث، لكن لم توقفه بشكل كامل. أنشأ الأوكرانيون دولتهم الخاصة في كانون الثاني/ يناير سنة 1918 وأعلنوا الاستقلال عندما سقطت الإمبراطورية بنيران الثورة الروسية. أعلن الأوكرانيون الاستقلال باسم جمهورية أوكرانيا الغربية انطلاقا من الإمبراطورية النمساوية المجرية المجاورة. تبين أن هذا الاستقلال كان قصير الأمد، لكنه رسم المسار لأجيال من القادة الأوكرانيين.
اكتسبت فكرة الاستقلال شعبية بين الجماهير الأوكرانية بحلول الوقت الذي سيطر فيه البلاشفة على معظم ما كان يُعرف بأوكرانيا الروسية سنة 1920، ولم يكن بالإمكان إلغاؤها ببساطة من قبل السلطات الجديدة – لقد أُجبر البلاشفة على الاعتراف بأوكرانيا كدولة منفصلة ومنح استقلال شكلي للجمهورية السوفياتية الأوكرانية. في واقع الأمر، تأسس الاتحاد السوفيتي سنة 1922-1923 كدولة اتحادية شكلية، أكثر من كونها دولة وحدوية، وبالأخص لغرض استيعاب أوكرانيا وجورجيا، الجمهوريتين الأكثر ميلاً إلى الاستقلال، واللتين رفض قادتها الشيوعيون ببساطة فكرة الانضمام إلى الاتحاد الروسي.
لعبت أوكرانيا باعتبارها الجمهورية الأكثر سكانا بعد الاتحاد الروسي، دوراً رئيسياً ليس فقط في إنشاء الاتحاد السوفياتي، ولكن أيضًا في تفكيكه. جرى استفتاء انفصال أوكرانيا في الأول من كانون الأول/ ديسمبر سنة 1991، وصوت أكثر من 90 بالمئة لصالح مغادرة الاتحاد السوفياتي، وأدى ذلك إلى نهاية القوة العظمى.
كان الأوكرانيون قد أجابوا عن السؤال حول الرغبة في الاستقلال، وليس السؤال حول رغبتهم في حل الاتحاد السوفياتي. لكن الاتحاد السوفياتي انهار خلال أسبوع، عندما وافق البرلمان الروسي على اتفاقية تفاوض عليها بوريس يلتسين مع نظيريه الأوكراني والبيلاروسي، ليونيد كرافتشوك وستانيسلاف شوشكيفيتش، والتي عُقدت في منزل ريفي في فيسكولي غرب بيلاروسيا.
أدت هذه الاتفاقية إلى حل الاتحاد السوفياتي، واعترفت باستقلال الجمهوريات السوفياتية السابقة، وأقامت رابطة الدول المستقلة (CIS) بدلاً من الاتحاد السوفيتي البائد.
لقد تم تعليل ذلك أكثر من مرة من قبل الرئيس يلتسين خلال محادثاته مع الرئيس جورج بوش الأب: لولا أوكرانيا لكانت جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة تتفوق بالعدد على روسيا ضمن اتحاد غورباتشوف.
من المؤكد أن العوامل الديموغرافية والثقافية قد برزت في تلك الحسابات، وكذلك الاقتصاد. لم تكن روسيا مستعدة لتحمل عبء الاتحاد دون اقتصاد أوكرانيا، ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد. لذلك كان على الاتحاد القديم أن يضمحل.
صرح يلتسين أمام البرلمان الروسي في 12 كانون الأول/ ديسمبر سنة 1991، أن تشكيل رابطة الدول المستقلة كان السبيل الوحيد “لضمان الحفاظ على النفوذ السياسي والقانوني والاقتصادي الذي تم بناؤه على مدى قرون، لكنه ضاع الآن”. لم يرغب يلتسين باتحاد غورباتشوف المعدل، بل كانت الكونفدرالية نموذجه السياسي المفضل، أي ليس استقلالاً كاملاً للجمهوريات. أصبحت الرابطة، التي كان إنشاؤها تسوية فرضتها أوكرانيا على يلتسين، أمراً محورياً في محاولة روسيا إعادة فرض سيطرتها على فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، ومكانتها كقوة عالمية.
يبدو أن قادة الجمهوريات السوفياتية، والروس على وجه التحديد، قد تمكنوا من تجنب الارتدادات العنيفة المعتادة لتفكك الإمبراطوريات، ولم يقتصر ذلك على نزع فتيل حرب نووية كان يُخشى منها على نطاق واسع بين القوى النووية الوليدة في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان، ولكنهم تجنبوا أيضًا حرباً تقليدية بين الدول الوريثة للاتحاد السوفياتي. وجدت روسيا نفسها متورطة في صراعات مع دول ما بعد الاتحاد السوفياتي خلال السنوات اللاحقة، بعرضها الدعم للحركات الانفصالية، واستخدامها قواتها العسكرية خارج حدودها. كان من الصعب تصور هذا السيناريو في حالة النشوة المبكرة التي سادت سنوات ما بعد الحرب الباردة، نظرًا لانتصار القوى الديمقراطية في روسيا وبعض الجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى.
لقد غاب الاتحاد السوفياتي عن الوجود بطريقة تذكر بالإمبراطوريات القارية الأخرى، بما في ذلك جيرانها، كالدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية، بعد تفككها على أسس عرقية.
لم تتضمن نهاية المنافسة بين موسكو وواشنطن أبداً أي تسوية سياسية تتعلق بنفوذ ما بعد الاتحاد السوفياتي. لقد عملت الولايات المتحدة ما بوسعها لمنع تفكك الاتحاد السوفياتي لأطول فترة ممكنة، لكنها قررت في النهاية الاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفياتية السابقة ودعمها. لم تقبل روسيا من جانبها أي شيء سوى الاستقلال المشروط للجمهوريات السابقة، المبني على التحالف مع موسكو والبقاء ضمن دائرة النفوذ الروسي.
على الرغم من تأسيس رابطة الدول المستقلة لغرض محدد وهو استيعاب أوكرانيا، إلا أن القيادة الأوكرانية لم تكن مهتمة بأي شكل من أشكال التعاون مع روسيا، لدرجة أنها رفضت رسميًا الانضمام إلى الرابطة الذي ساعدت في إنشائها.
كان إصرار كييف على عدم التخلي عن الأسلحة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي (تعد ثالث أكبر ترسانة أسلحة نووية بعد الولايات المتحدة وروسيا)، نتيجة مخاوفها من عدوان روسي محتمل. أصر الأوكرانيون عند موافقتهم في النهاية بالتخلي عن الأسلحة النووية سنة 1994 على ضمان وحدة أراضيهم وسيادتهم. كانت النتيجة هي مذكرة بودابست التي قدمت لأوكرانيا تأكيدات بدلاً من ضمانات. كانت روسيا أحد “الضامنين” إضافة للولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.
حاولت روسيا في عهد يلتسين إبقاء أوكرانيا في دائرة نفوذها من خلال العلاقات الاقتصادية، وخاصة بسبب اعتماد أوكرانيا على الغاز الروسي. حاولت روسيا في عهد بوتين أن تحذو حذوها، ولكن مع استمرار أوكرانيا في الابتعاد عن روسيا نحو الاتحاد الأوروبي، حاولت روسيا رشوة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش بقرض قيمته 15 مليار دولار لمنعه من توقيع اتفاقية ارتباط مع بروكسل. أدت انتفاضة شعبية إلى طرد يانوكوفيتش من البلاد عندما رفض في نهاية المطاف التوقيع على الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، رغم أنه وعد الناخبين الأوكرانيين بأنه سيفعل ذلك.
احتضنت روسيا الرئيس الهارب، واتهمت الولايات المتحدة وأوروبا بإثارة ودعم التمرد الشعبي، وضمت شبه جزيرة القرم. بدأت موسكو بعد ذلك بزعزعة استقرار حوض دونيتس (إقليم دونباس)، في أقصى شرق أوكرانيا المتاخم لروسيا. لا تزال تلك الحرب مستمرة، ويتوقع الكثيرون أن تكون دونباس بؤرة صراع جديدة في حالة حدوث غزو روسي. كما يخشى البعض من أن الصراع قد يعصف بدول أوروبية أخرى ويتحول إلى صراع عالمي.
كيف يتكيف الناتو مع هذه الأوضاع؟
غزت الجيوش السوفياتية أوروبا الشرقية واحتلتها لفترة جيلين، وذلك عند اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية. تأسس حلف الناتو سنة 1949 كتحالف دفاعي لمنع المزيد من الاختراق السوفياتي غربًا.
لم يكن غريبا انضمام دول شرق أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى الناتو من أجل منع تكرار خضوعها السياسي والاقتصادي، وهو أمرٌ تقوم روسيا بتشويهه حاليا، وتصوّره على أنه “توسع عدواني من قبل حلف الناتو بقيادة واشنطن و بروكسل باتجاه الشرق”.
تقدم بولندا على وجه الخصوص مثالاً صارخًا على إصرار دول أوروبا الشرقية على الانضمام إلى الناتو، فقد هدد البولنديون واشنطن بتطوير قدراتهم النووية إذا لم تُقبل عضويتهم.
أصبح الغزو الروسي سنة 2014 بمثابة القوة الدافعة وراء إصرار أوكرانيا على الانضمام إلى الحلف. أعلنت القيادة الأوكرانية الجديدة مباشرة بعد سقوط حكومة فيكتور يانوكوفيتش في شباط/ فبراير من تلك السنة أنه ليس لديها خطط للانضمام إلى الناتو. لكن ضم شبه جزيرة القرم والحرب في دونباس دفعت غالبية الأوكرانيين تجاه المعسكر الموالي لحلف الناتو. إذا كان أقل من 20 بالمئة ممن شملتهم استطلاعات الرأي كانوا يؤيدون الانضمام إلى الناتو سنة 2013، فإن 60 بالمئة تقريباً يؤيدون ذلك اليوم. رغم هذا التغيير في الموقف، يواصل الناتو حرمان أوكرانيا من بدء إجراءات الحصول على العضوية. لكن مطلب روسيا الحالي بمنع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو بشكل قاطع قد يأتي بنتائج عكسية.
تعطي روسيا الآن انطباعًا بأنها تتحرك بشكل أسرع من أي وقت مضى لإعادة بسط سيطرتها على مناطق نفوذ ما بعد الاتحاد السوفياتي. ساهم دعم الكرملين لرئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو في قمع الاحتجاجات السلمية ضد حكمه الفاسد. كما ساعد التدخل العسكري الروسي في كازاخستان هذا الشهر الرئيس قاسم جومارت توكاييف على وضع حد للاحتجاجات العنيفة المناهضة لحكومته.
لكن روسيا تدفع الآن ثمن دعمها للأنظمة الاستبدادية في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي. توقفت المعارضة البيلاروسية عن اعتبار روسيا حليفة لها، وهو ما كانت تفعله سابقاً، وتتطلع الآن أكثر من أي وقت مضى نحو التقارب مع الغرب. يبقى أن نرى كيف سيتمكن توكاييف قريبًا من جبر الضرر الذي لحق بسمعته في أعين النخب الكازاخستانية والمواطنين بعد استقدامه قوات أجنبية إلى بلاده.
تسير روسيا اليوم على خطى القوى الإمبريالية السابقة، من العثمانيين إلى الفرنسيين الذين خسروا رأس مالهم السياسي والمالي والثقافي كلما تشبثوا أكثر بممتلكاتهم الإمبراطورية. إن محاولات إنعاش إمبراطورية فاشلة تُنفِّر الجيران – وحتى الحلفاء المحتملين – تؤدي في النهاية إلى العزلة. إذا أطلعنا التاريخ على شيء واحد، فهو حتمية سقوط جميع الإمبراطوريات في نهاية المطاف.
المصدر: فاينانشال تايمز