ترجمة وتحرير: نون بوست
باتت شركة الأمن الخاصة فاغنر التي يديرها شريك مقرب من فلاديمير بوتين، الأداة الرئيسية لإعادة بسط نفوذ موسكو في القارة الأفريقية، في ظل التنافس والعلاقة المتوترة مع الدول الغربية. وفي هذا التقرير جرد لخمس سنوات من التقدم الروسي في إفريقيا.
هل يمكن الحديث عن بداية تحول استراتيجي في النفوذ الروسي في أفريقيا يدعم النفوذ الصيني في القارة السمراء في إطار مؤامرة معادية للغرب؟ أم أن الخيال الإعلامي هو الذي يضفي بعدًا دراميًا على الاختراقات الدقيقة والانتهازية وفي كثير من الأحيان الهشة؟
أثار وصول المدربين والقوات شبه العسكرية الروسية التابعة لشركة الأمن الخاصة “فاغنر” المقربة من الكرملين إلى مالي في نهاية سنة 2021 تساؤلات الأوروبيين والأمريكيين بشأن مخططات موسكو في إفريقيا.
بفضل تعدد اتفاقيات الدفاع وتوسع أعمال مجموعة “فاغنر”، تمكّنت روسيا من إيجاد موطئ قدم لها في العديد من البلدان الأفريقية مثل مالي وليبيا والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق. وكان التقدم الروسي في القارة السمراء في بعض الأحيان غير منتظم أو مثيرا للجدل وأحيانا أخرى مخادعًا، وقد تمكنت صحيفة “لوموند” من تتبع كيفية تطوّره خلال خمس سنوات تقريبًا.
إن الاضطراب الناجم عن نشر هؤلاء “المرتزقة” – الحقيقي أو المفترض – لا يثير استياء موسكو بل تستثمره دعائيًا لتُظهر مدى نفوذها في أفريقيا. ومن جهتها، تتكفل الآلة الدعائية التي يسيطر عليها يفغيني بريغوجين، رجل الأعمال المقرب من بوتين والمعروف بكونه مؤسس “فاغنر”، باختلاق أو تضخيم الشائعات حول وجود المليشيات الروسية في القارة الأفريقية.
وخير مثال على ذلك، انقلاب 24 كانون الثاني/ يناير في بوركينا فاسو. فرغم عدم ثبوت تورط الكرملين في هذا الانقلاب، أشاد بريغوجين على الفور بالانقلاب معتبرا أنه وقع في “حقبة جديدة من إنهاء الاستعمار”؛ بينما عرض ألكسندر إيفانوف – أحد المقربين منه – ما وصفه بخدمات “المدربين الروس” للجيش البوركينابي الذي قاد الانقلاب.
بعد مرور 30 سنة من فك الارتباط مع أفريقيا في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي، بدأت منذ سنة 2017 “الملحمة الكبرى” لعودة روسيا إلى القارة السمراء انطلاقا من السودان: حين قرّر الدكتاتور عمر البشير، الذي استُهدف بمذكرتي توقيف لارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية من قبل المحكمة الجنائية الدولية في 2010 وحكم بلدا على حافة الهاوية بينما كان منبوذًا من المجتمع الدولي، الاستنجاد بموسكو.
مشروع القاعدة العسكرية في السودان
في البداية، كان التعاون الروسي السوداني ذا طبيعة أمنية من خلال تزويد الجيش بالأسلحة وتدريب القوات السودانية، لكن سرعان ما أضيفت له امتيازات التنقيب عن الذهب التي منحتها الخرطوم لشركة “إم إينفست” – وهي شركة مرتبطة ببريغوجين قائد مرتزقة “فاغنر” تعتمد على فرع محلي لها في السودان اسمه “ميرو غولد”. كان رئيس الدولة عمر البشير شخصيًا في خدمة سياسة موسكو في الشرق الأوسط. ويعتبر البشير أول زعيم عربي يقوم بزيارة رسمية لدمشق في كانون الأول/ ديسمبر 2018 بعد أن أدان ممارسات نظام الأسد الذي نجا من الهزيمة بفضل تدخل القوات الجوية الروسية سنة 2015.
لم تكن هذه القوة كافية لمنع سقوط النظام العسكري السوداني في نيسان/ أبريل سنة 2019، بعد انتفاضة شعبية أشعلت النار في البلاد. لكن التغيير في النظام السياسي لم يؤد إلى قطيعة مع موسكو بل على العكس تمامًا. على رأس مجلس السيادة السوداني المكوّن نصفه من مدنيين والمسؤول عن تنظيم المرحلة الانتقالية، تمنى اللواء عبد الفتاح البرهان الحفاظ على هذه الشراكة. وبعد مرور شهر من تسلّم البرهان السلطة، وقّعت موسكو والخرطوم اتفاقيتين عسكريتين جديدتين تهدف إحداهما إلى تعزيز التعاون في المجال البحري.
بعد ذلك، أعطى الكرملين الضوء الأخضر لبناء قاعدة بحرية شمال مدينة بورتسودان على شواطئ البحر الأحمر. وإذا انتهى هذا المشروع، ستكون هناك أول قاعدة عسكرية روسية في إفريقيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، تقع عند مضيق باب المندب الاستراتيجي للغاية الذي يمر عبره ما لا يقل عن 10 بالمئة من حركة نقل البضائع. ويمكن لهذه القاعدة أن تستقبل في وقت واحد ما يصل إلى أربع سفن حربية، بما في ذلك القوارب التي تعمل بالطاقة النووية وحامية عسكرية مكونة من 300 رجل.
ولو عُلِّق الاتفاق في نيسان/ أبريل سنة 2021 عندما كانت السلطات المدنية لا تزال قائمة، لا كان من الممكن إعادته إلى الطاولة منذ الإطاحة بها في الانقلاب العسكري في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وذلك حسب عدة مصادر. وبعد ثلاثة أسابيع من التخلص من شركائه السابقين، قال اللواء البرهان إن المحادثات مستمرة مع موسكو. وفي الواقع، من غير المستغرب أن تكون روسيا واحدة من القوى القليلة جدًا التي لا تدين الجنرالات الانقلابيين. يحافظ الكرملين على علاقات وثيقة مع جنرالات السودان، ولا سيما محمد حمدان دقلو المعروف باسم “حميدتي”، الرجل الثاني في المجلس العسكري والمهندس الرئيسي للقمع الدموي للمظاهرات المؤيدة للديمقراطية، وزعيم قوات الدعم السريع السودانية التي تستفيد من الدعم المباشر من مجموعة فاغنر.
أسلحة لرئيس جمهورية أفريقيا الوسطى
في ظل تقدم المرتزقة الروس في إفريقيا، سهّل تزايد التعاون مع السودان توسع امتداد النفوذ الروسي نحو جمهورية أفريقيا الوسطى. دخلت موسكو هذه الجمهورية عبر الخرطوم على متن طائرة نقل عسكرية من طراز “إليوشن 76” في 26 كانون الثاني/ يناير 2018. وكان على متن هذه الطائرة التي حطت على مدرج مطار بانغي واستقبلها عدد محدود من العملاء الروس – لم يكترث لهم أحد في ذلك الوقت – أسلحة خفيفة موجهة لكتيبتين في جيش أفريقيا الوسطى. وكانت هذه الطائرة تُقل أيضًا مدربين روس تمركزوا في مكان غير بعيد عن العاصمة بانغي في قصر بيرينغو، القصر المهجور لإمبراطور أفريقيا الوسطى الراحل بوكاسا الأول.
قبل ذلك بأسابيع قليلة، استخدمت روسيا “الفيتو” ضد الطلب الفرنسي برفع جزئي لحظر الأسلحة المفروض من قبل الأمم المتحدة على هذا البلد منذ سنة 2013. اقترحت باريس، التي رفضت تسليم 1500 بندقية كلاشينكوف تمت مصادرتها من القراصنة الصوماليين كجزء من عملية “أتالانتا”، على رئيس إفريقيا الوسطى فوستين أرشانج تواديرا التفاوض على إعفاء مع موسكو.
مستغلا الفراغ الأمني الذي خلفه الانسحاب المتسرع للجنود الفرنسيين في عملية “سانغاريس” التي امتدت بين سنتي 2013 و2016، فسح تواديرا المجال أمام موسكو حتى لو كان ذلك يعني بيع الموارد المعدنية الكبيرة لبلاده لصالح مجموعة “فاغنر”.
هذه المرة، تحصلت شركة تدعى “لوباي إنفست” تتلقى خدمات أمنية من قبل مجموعة “سيوا سكيوريتي”، وكلاهما تابع لريغوجين، على تراخيص التعدين. منذ ذلك الحين، أفسحت شركة “لوباي إنفست” بشكل واضح المجال لشركة “ميداس ريسورسز” المشهورة بأنها قريبة جدًا من الميليشيا الروسية. وحسب أحد المراقبين، فإن شركة فاغنر موجودة في كل مكان وبكامل قوتها”، وهو يقدر قوة فاغنر العاملة في جمهورية إفريقيا الوسطى بين ألفين و2500 شخص من روسيا، مشيرا إلى أن نفوذ هذه الشركة يمتد إلى سوريا وليبيا.
لا يبدو أن هناك أي شيء قادر على إعاقة تقدم روسيا، لا تحذيرات باريس التي علّقت دعم الميزانية والتعاون العسكري في بانغي في حزيران/ يونيو 2021 على أمل التخفيف من الحملات الضارية المناهضة للفرنسيين التي تقودها موسكو، ولا إحراج بروكسل التي جمدت مؤقتا تشكيلاتها العسكرية لتجنب أي تواطؤ مع الفصائل شبه العسكرية. وعلى مدى الأشهر الماضية، استمرت المجموعة الروسية في تعزيز تأثيرها في مختلف المجالات في جمهورية أفريقيا الوسطى.
يتدخل الجانب الروسي بانتظام في العملية التشريعية لضمان تماشي النصوص المعتمدة مع مصالحه بينما تتعارض أحيانا مع متطلبات المانحين الدوليين. وقد وجدت جمهورية إفريقيا الوسطى نفسها في وضع حساس في مواجهة صعبة مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وبالنظر إلى تأثيرها على أعلى مستوى في الدولة، تبدو موسكو حسب العديد من المراقبين عازمة على لعب “مقاربة عالمية” من خلال ممارسة الضغط من أجل إبرام اتفاق سلام في الخرطوم بين جمهورية إفريقيا الوسطى والجماعات المتمردة، وأيضًا من خلال تنظيم بطولات كرة القدم وفعاليات أخرى مثل مسابقات الجمال.
كان رحيل فاليري زاخاروف، وهو عضو سابق في جهاز أمن الدولة الروسي ورئيس مجموعة “فاغنر” في إفريقيا الوسطى ومستشار أمني للرئيس تواديرا، في نهاية ربيع العام الماضي مرفوقًا بجملة من الإصلاحات التي أجراها النظام الروسي في عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى بانغي.
اضطلع ديميتري سيتي، الذي عيّن مترجمًا بتأمين الاتصالات بين وحدات فاغنر في إفريقيا الوسطى، بينما الفرنكوفوني فيتالي بيرفيليف الذي انضم في البداية إلى الفيلق الأجنبي الفرنسي وينسق عملياته العسكرية فقد أوكلت إليه المهام التي كانت موكلة لزاخاروف.
تتجلى قوة اختراق الشبكات الروسية لجهاز الدولة في اجتماع بيرفيليف بشكل شبه يومي مع وزير الدفاع رامو كلود بيرو، وكذلك مع الجنرال ونائب رئيس الأركان المسؤول عن العمليات فريدي جونسون ساكاما. والهدف من ذلك الحرص على عدم تشويه تقارير الأوضاع الأمنية الموجهة لرئيس الدولة صورة الجماعات شبه العسكرية. في حال إشارة التقارير إلى وجود توترات بين القوات المسلحة لأفريقيا الوسطى ومقاتلي وحدات فاغنر، لا يتردد بيرفيليف عن التدخل.
وتعكس الزيارات التي أداها رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين إلى بانغي في نهاية تموز/ يوليو وبداية تشرين الأول/ أكتوبر ولقائه مع الرئيس فوستان آركانج تواديرا الأهمية الاستراتيجية لجمهورية إفريقيا الوسطى بالنسبة للكرملين. من جانبه، قضى المقدم السابق للقوات الخاصة الروسية وهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية ومؤسس شركة فاغنر العسكرية الخاصة ديمتري أوتكين شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من السنة الماضية في جمهورية أفريقيا الوسطى.
وتعليقا على هذه الزيارة، يقول مصدر مطلع: “كان الغرض من الزيارة هو تقييم الوضع العسكري وتعزيز النموذج الاقتصادي. وبعد حرمانه من الرقابة على الرسوم الجمركية بسبب ضغوط الجهات المانحة، يحاول مؤسس فاغنر تعويض خسائره عن طريق الضغط على الرئاسة لتكليفه بإدارة الضرائب”.
عملية جذب في سوتشي سنة 2019
إن السلطة الفعلية التي تمارسها القوات شبه العسكرية الروسية على أرض الواقع في جمهورية أفريقيا الوسطى ومدى فعاليتها موضع نقاش. وعلى الرغم من كتساب القوات شبه العسكرية الروسية صفة عسكرية تميزها على الفصائل المتمردة، غير أنها غير قادرة على تأمين المناطق المستعادة وتقتصر مهامها على السيطرة على المحاور الرئيسية، بما في ذلك الطريق الذي يربط بانغي بالكاميرون والبلدات الرئيسية. ومثل الجنود الفرنسيين من قبلهم، تقاتل القوات شبه العسكرية الروسية ضد جماعة “العودة والاسترداد والتأهيل” التي تنتهج استراتيجية التجنب وإعادة السيطرة على المناطق التي تخلى عنها الروس في أسرع وقت.
بغض النظر عن الاعتقاد السائد بشأن أهمية الوسائل الروسية، هناك نقطة تحول ملحوظة في سياسة موسكو الخارجية تتمثل في جعل إفريقيا نصب عينيها مرة أخرى. باتت رغبة روسيا في العودة إلى إفريقيا جلية للعيان بعد تنظيم القمة الروسية الأفريقية الأولى في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وشارك فيها حوالي خمسين ممثلاً عن دول القارة. خلال هذه القمة، حاولت موسكو إظهار نفسها كحامية للدول ذات السيادة من المستعمر الجديد وكدرع واقي ضد زعزعة الاستقرار والثورات الملونة وغيرها من التوترات.
باستخدام هذا النوع من الخطابات، تحاول موسكو الحصول على مركز متميز مقارنة بالغرب وإضفاء غطاء سياسي للتعاون الأمني الذي تقترحه على دول القارة. وفي ظل تصاعد التوتر مع أوروبا والولايات المتحدة، يضمن تغلغل روسيا في إفريقيا استعادتها مكانتها كقوة عالمية بارزة.
كتب الباحثان إيغور ديلانوي ونور حجازي في العدد الأخير لمجلة “هيرودوت”، الصادر في الربع الثالث من السنة الماضية بعنوان “ليبيا، الجغرافيا السياسية للفوضى”، أنه “في إطار العقوبات الأوروبية الأطلسية التي أثقلت كاهل روسيا منذ الأزمة الأوكرانية، تعد إفريقيا مجالا مناسبًا لقيام المؤسسات العملاقة الروسية ببعض الأنشطة في مجال الصناعات الاستخراجية”.
من الصعب على روسيا تحقيق تقارب مع فرنسا في منطقة التأثير الفرنسي التاريخي، التي تشمل جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي. ومن جانبه، يقول المتحدث باسم حكومة الرئيس الإيفواري السابق لوران غباغبو، أهوا دون ميلو: “لا تخدم هذه المنافسة مصالح فرنسا بسبب تاريخها الاستعماري وتدخلاتها الأخيرة في ساحل العاج وليبيا، الأمر الذي أعاد أحداث الماضي إلى الأذهان”. وقال أحد المهندسين الذين عُينوا من طرف رجل أعمال روسي في أيلول/ سبتمبر من السنة الماضية كمستشار في القضايا الأفريقية إن “التاريخ الروسي يبعث الأمل، نحن نرى روسيا دولة محررة”.
ساهمت سياسة القوة الناعمة التي تعتمدها روسيا من خلال استقطاب الجامعات الروسية ما بين سبع آلاف وتسع آلاف طالب بشكل سنوي من إفريقيا جنوب الصحراء، وهو رقم مماثل للأرقام المسجلة في الثمانينيات، جنبًا إلى جنب مع الشعبية التي يتمتع بها فلاديمير بوتين في القارة في تلميع صورة روسيا. وعلى المستوى الإعلامي، يُهيمن المحتوى الذي يقدمه الممثلان الرئيسيان للقطاع السمعي البصري الخارجي العام لروسيا وهما وكالة “سبوتنيك” و”روسيا اليوم” الناطقتين باللغة الفرنسية على الشبكات الرقمية الأفريقية. ووفقًا لدراسة أجراها معهد البحوث الاستراتيجية في المدرسة العسكرية استندت إلى النظام البيئي المعلوماتي المحلي، نُشرت في تموز/ يوليو الماضي، تشن المواقع الإلكترونية التي صُممت من طرف موسكو حملات معادية ضد الغرب.
في أيار/ مايو 2019، كشف “مركز الملفات” وهو هيكل تحقيقات أسسه ميخائيل خودوركوفسكي، أحد أشرس المعارضين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن المشاريع التي تستهدف السودان وجنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وجمهورية إفريقيا الديمقراطية والكونغو وإثيوبيا ومدغشقر، إلى جانب عمليات الترحيل غير المتوقعة في بعض الأحيان بما في ذلك ترحيل الناقد السياسي المعادي للسامية والناشط الفرنسي كيمي سيبا.
سياسة التنازلات
من المقرر احتضان روسيا قمة روسية أفريقية ثانية هذا العام لم يحدد تاريخها بعد. وقد ناهزت قيمة الاتفاقيات المبرمة بين روسيا والدول الأفريقية المشاركة في قمة 2019 مبلغ 11.2 مليار دولار. في المقابل، تجاوزت قيمة المبادلات التجارية بين روسيا وإفريقيا السنة الماضية 20 مليار دولار، وهو ما يعادل حجم المبادلات التجارية التي تجمع إفريقيا مع تركيا والبرازيل. في المقابل، تصل قيمة المبادلات التجارية بين الصين وإفريقيا إلى حدود 185 مليار دولار.
الاستثمار الروسي في إفريقيا في حالة ركود ولا يتعدى حجمه 1 بالمئة من إجمالي الاستثمار الأجنبي في إفريقيا. كما أن تطوير اللقاح الروسي المضاد لفيروس كورونا المستجد “سبوتنيك في” الذي فتح المجال لتكثيف التواصل مع البلدان النامية لم يحقق النجاح المتوقع في إفريقيا، حيث وافقت 11 دولة فقط على تطعيمه لمواطنيها. كما أن الجرعات التي تلقتها هذه الدول أقلّ بكثير من الكمية التي وعدت روسيا بتقديمها.
تؤكد جميع هذه العوامل أن روسيا لا تزال لاعبًا ثانويًا يعتمد إلى حد كبير على التعاون في الثنائي في مجال الأمن والطاقة. ومن جانبها، لا تنظر الدول الأفريقية إلى روسيا كسوق محتملة الأمر الذي يحد من رغبتها في تحقيق التقارب السياسي معها. يقتصر تعاون روسيا بالأساس على الدول التي يعتبر فيها النفوذ الروسي قويا، على غرار الجزائر ومصر اللتان تستحوذان على أكثر من ثلثي الصادرات الروسية، فضلا عن جنوب إفريقيا.
وفقا للأرقام الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، تبلغ نسبة الأسلحة الروسية من إجمالي واردات الأسلحة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 30 بالمئة، بينما تصل حصة الأسلحة الروسية من مشتريات الجزائر للأسلحة الأجنبية 67 بالمئة. يتضح الولاء لروسيا في تعيين سعيد شنقريحة الذي تدرب سنة 1970 في أكاديمية فوروشيلوف العسكرية، رئيس أركان الجيش الجزائري. وقد يؤدي التنافس بين المغرب والجزائر إلى تقوية العلاقات الروسية الجزائرية، علما بأن الجزائر عززت علاقاتها الأمنية مع موسكو كرد فعل على الاتفاق الدفاعي المبرم في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 بين المغرب والاحتلال الإسرائيلي.
لكن هل هذا كافٍ لتأسيس استراتيجية متماسكة؟ ذكر التقرير الصادر عن مركز البحوث التابع للمدرسة العليا للاقتصاد بجامعة موسكو في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أن الاستراتيجية الروسية لا تزال تفاعلية ومجزأة. وورد في هذا التقرير أن “العديد من المشاريع المعلن عنها من طرف جهات سياسية رفيعة المستوى بقيت دون تنفيذ”. ويظهر الطابع “التفاعلي” للسياسة الروسية فقط عندما يتعلق الأمر بوحدات فاغنر أو المستشارين السياسيين الذين يخدمون يفغيني بريغوجين.
تتدخل هذه الجهات في المناطق التي تشهد حروبا وفوضى أو في المناطق التي انسحبت منها قوى أخرى مثل فرنسا. مع ذلك، يتجند بعض الخبراء لتحديد الفوائد التي يعود بها هذا التدخل على موسكو. يقول الخبير في العلاقات الدولية، فلاديمير فرولوف إنه “من الصعب تحديد مصالح روسيا في جمهورية أفريقيا الوسطى أو الساحل، حيث تمثل انتهازية الجهات الفاعلة الخاصة ومراعاة مصالحهم التجارية العوامل الحاسمة. وفي محاولة لتحقيق فوائد جيوسياسية، تتبع الدولة هذه الجهات الفاعلة مما يجعل تقديم التنازلات جزءا من سياستها”.
إذا كانت الاستمرارية الجغرافية قد مكّنت روسيا من توسيع نطاق نفوذها من السودان إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، فإن الأزمة التي تشهدها العلاقات مع فرنسا هي التي تسهل إيجاد موطئ قدم لها في مالي. كان التنقيب عن المعادن من قبل ممثلي “فاغنر” الذي بدأ في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر مسبوقًا بنشر المدربين والقوات شبه العسكرية في منتصف كانون الأول/ ديسمبر التي نُقلت جوًا انطلاقًا من قاعدة عسكرية روسية في اللاذقية في سوريا ثم عبر بنغازي في ليبيا. وقد اتبعت الرحلة الطريق الجيوسياسي الروسي المحدد من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى الساحل الإفريقي والصحراء مرورا عبر المحور الليبي.
وجدت روسيا بالفعل موطئ قدم دائم لها في الفوضى التي عمت ليبيا ما بعد القذافي في سنة 2019، في ظل تقدم قوات المشير خليفة حفتر أولاً في برقة (شرقا) ثم في صحراء فزان (جنوبا)، حيث استولى رجال فاغنر على حقلي الشرارة والفيل. وفي المسرح الليبي، يمكن للمجموعة الروسية الاعتماد على 1200 جندي متمرس يشرف عليهم 800 مساعد سوري موال لدمشق، بينما تعمل وراء الكواليس للترويج لسيف الإسلام نجل “القائد” السابق – الذي قُتل سنة 2011 – الذين كانت تربطه مع موسكو علاقة مميزة.
نشر أكثر من 600 عنصر في مالي
إن فرنسا تتحمل جزءًا من مسؤولية عودة الروس إلى ليبيا. فما بين 2016 و2020 دعمت سياسيًا وإلى حد ما عسكريًا المشير حفتر، الذي انتهى به المطاف إلى الاستعانة بخدمات فاغنر للمرتزقة. في ذلك الوقت، كانت المصالح الروسية والفرنسية تحت مسمى مكافحة الإرهاب تشترك في الترويج “لرجل قوي” هدفه محاربة الإسلاميين. ولم تدرك باريس سوى بعد فوات الأوان الخطر بعيد المدى الذي يشكله التوغل الروسي في “حديقتها الخلفية” الإفريقية جنوبًا.
تم نشر أكثر من 600 مسلح يتكلمون الروسية في مالي، وذلك وفقًا لمعلومات موثوقة. ومن المرجح أن عددهم وصل إلى ألف مسلح في غضون أسابيع قليلة. لا يزال وضع هؤلاء الروس غامضًا لأن المجلس العسكري المالي، الناتج عن انقلابين في باماكو (آب/ أغسطس 2020 وأيار/ مايو 2021)، لا يعترف إلا بوجود “مدربين روس” في الوقت الحالي. مع ذلك، تشير مصادر أخرى مالية وفرنسية إلى أن القوات شبه العسكرية الروسية تعمل جنبًا إلى جنب مع القوات المالية. وبعد الاستقرار في قاعدة مجاورة لمطار باماكو، عمل هؤلاء الرجال بشكل أساسي في وسط البلاد التي لم يصلها الجنود الفرنسيون في عملية “برخان”. وفي كانون الثاني/ يناير، تفاخر المجلس العسكري بالنجاحات العسكرية ضد الجهاديين في المنطقة بفضل الدعم الروسي.
هل يمكن تأكيد هذه الانتصارات بمرور الوقت؟ في الوقت الحالي، يأمل المجلس العسكري بشكل أساسي في حدوث انقلاب أمني، وهي طريقة يسعى من خلالها إلى حشد الرأي العام المالي لصالح تأجيل المواعيد النهائية للانتخابات من شباط/ فبراير 2022 إلى 2026. هذا إلى جانب الحفاظ على المساعدات الفرنسية مع مواصلة الأعمال العدوانية ضد باريس، وهي خطة لا تخلو من التعقيد. في هذه الأثناء، تواصل الشركات الروسية تطوير خطة التنقيب. وقد تم إبرام عقود حول موقعين على الأقل في جنوب مالي، وتحديدا في سيكاسو وكاي، وموقع آخر في الشمال في دوغون، ولكن لم يبدأ تنفيذها. وفيما يتعلق بهذا الموضوع الحساس، الذي يمكن أن يثير حفيظة الرأي العام في مالي، لم يدل المجلس العسكري بأي تصريح.
كان للوجود الروسي في مالي تداعيات على 13 ألف جندي من “القبعات الزرق” من قوات مينوسما (بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي)، الذين يتمركز بعضهم في وسط البلاد. ففي منتصف كانون الثاني/ يناير، اضطرت مينوسما إلى وقف رحلاتها الجوية لعدة أيام بعد أن فرض المجلس العسكري حظرًا لمدة 48 ساعة على المجال الجوي. استؤنفت الرحلات الجوية في 20 كانون الثاني/ يناير، لكن ثقل روسيا في مجلس الأمن الدولي قلص من نطاق مناورة الممثل الخاص للأمم المتحدة في مالي الغاسيم وان. وأثناء تقديم تقريره في 11 كانون الثاني/ يناير في نيويورك، قدم وان جردًا مثيرًا للقلق للوضع الأمني في مالي دون أن يشير إلى “فاغنر”. وعلى حد تعبير أحد الخبراء، “إنه ملزم بتوخي الحذر الشديد” في كل كلمة يقولها.
عدم الارتياح في موزمبيق
حتى تكتمل الصورة، لابد من ذكر إخفاقات روسيا في أفريقيا أيضًا مثل الهزيمة التي مُنيت بها قوات فاغنر في موزمبيق. في أيلول/ سبتمبر 2019، كانت هذه المغامرة تحت رعاية الأفضل. وكان الرئيس فيليب نيوسي حريصًا على توطيد علاقاته مع موسكو والاستفادة من العروض الروسية.
من بين الوعود الروسية المقدمة القضاء على التمرد الجهادي شمال البلاد الذي ظهر في سنة 2017 في منطقة كابو ديلغادو الغنية بالغاز والموارد المنجمية.
بالنسبة للمقاتلين الروس المجهزين جيدًا، بدا أنه من السهل احتواء الإسلاميين المسلحين من أنصار السنة أو حركة الشباب. لكن بعد سنتين من التمرد، لم تعد حركة الشباب مجرد عدد من القرويين الذين يحملون بنادق كلاشينكوف ذلك أنهم في صيف 2019 بايعوا تنظيم الدولة.
في أيلول/ سبتمبر، واجهت مجموعة فاغنر بمجرد نشر وحدة صغيرة من المرتزقة – أملا في الوصول إلى موارد كابو دلغادو – مقاومةً غير متوقعة. في المقام الأول، يُهيمن على العديد من قطاعات التعدين (مثل الياقوت) شركات ترتبط بجنرالات موزمبيقيين من “فصائل” مختلفة ليس من السهل مجاراتهم. وبعد ذلك، تأخرت المدفوعات التي وعدت بها الحكومة وسرعان ما أدركت “فاغنر أنها لن تحقق أي ربح في موزمبيق”. وعلى حد تعبير مصدر أمني، كانت “خزائن الدولة فارغة”.
في نهاية المطاف، تحوّلت حرب فاغنر “منخفضة التكلفة” إلى كارثة. فقد وقع المرتزقة غير المطلعين وغير المؤهلين في كمائن ما يوحي بأن تحركاتهم كانت مكشوفة للمتمردين. تكبدت المجموعة الروسية خسائر، وقُطعت رؤوس بعض مقاتليها، بينما قُتل آخرون بـ”نيران صديقة” من جنود جيش موزمبيق. في كانون الأول/ ديسمبر 2019، قررت المجموعة مغادرة البلاد ويقال إن عددًا قليلاً فقط من “المدربين” لا يزالون في موزمبيق. وما حدث إن دلّ على شيء فهو يدل على أن السحر يمكن أن ينقلب على الساحر إذا كانت الثقة المفرطة سببا لتجاهل المشاعر المحلية.
المصدر: لوموند