شهدت العاصمة السعودية الرياض في 27 يناير/ كانون الثاني 2022 حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه “جوي أوردز” (Joy Awards)، على هامش ختام فعاليات موسم الرياض الترفيهي السنوي، وسط حضور جماهيري ضخم لمشاهير الوطن العربي والعالم في مجالات الفن والرياضة والإعلام.
وكان حضور النجمَين، الأمريكي جون ترافولتا، والهندي سلمان خان، أبرز مفاجآت الحفل الذي أثار موجة من الجدل، بعد الأحداث التي شهدها والانتقادات التي وُجِّهت للهيئة، لا سيما فيما يتعلّق بغياب المعايير الموضوعية لاختيار الفائزين بالجوائز، وخضوعها لرغبات وميول مستشار ولي العهد السعودي، ورئيس هيئة الترفيه المستشار تركي آل الشيخ.
التصريحات التي أدلى بها آل الشيخ في ختام الحفل، وعلى رأسها أن “السعودية منارة للثقافة والفن والتقدُّم في كل المجالات بفضل محمد بن سلمان”، وما تلاها من أحاديث لبعض الفنانين المصريين بأن المملكة أصبحت “ملتقى الفنانين” و”قبلة الإبداع العربي”، أحدثَت ضجّة كبيرة على منصات التواصل الاجتماعي.
وانقسمت الآراء بشأن تلك التصريحات المثيرة للجدل، بين من يراها مجاملة خاضعة لابتزاز المال وآخرين يعتبرونها تزييفًا للتاريخ لإرضاء ولي العهد الشابّ الساعي إلى تقديم نفسه للعالم في صورة إصلاحية متطوِّرة، يضرب بها اتهامات الوهابية والأصولية في محاولة لتقديم أوراق اعتماده دوليًّا بعد الانتقادات التي تعرّض لها بسبب السجلّ الحقوقي المشين للمملكة.
النجاح الذي أحدثه الموسم الترفيهي هذا العام، والذي شهدَ حضور 10 ملايين زائر ومليون سائح خلال 100 يوم بحسب آل الشيخ، أثار الكثير من التساؤلات على رأسها: هل يصبح البوليفارد (أشهر المناطق التي تستضيف فعاليات موسم الرياض الترفيهي ويقع في حي حطين شمالًا، وتشرف عليه الهيئة العامة للترفيه) قوة ابن سلمان الناعمة الجديدة لاستعادة ثقل بلاده مرة أخرى؟
الترفيه في صدارة القوى الناعمة
تفتحُ السعودية خزائنها بلا حدود قصوى أمام أنشطة وحملات الترفيه شبه الغائبة عن المراقبة والمحاسبة من أجهزة الدولة، إذ إن المشرف الأول على تلك الأنشطة هو الذراع اليمنى لولي العهد، والذي طالما يعزفُ على وتر أنه لا يتحرك خطوة واحدة إلا بدعم من “سيده” كما يحب أن يلقّبه.
الاستعدادات المبهرة والأضواء اللافتة والإخراج العالي تقنيًّا والاستعانة بكبريات شركات الإنتاج العالمية للخروج بالحفل إلى هذا المستوى غير المسبوق، تعكسُ إرادة قوية من قبل أعلى سلطات البلاد لأن يكون هذا الحدث حديث العالم ووسائل إعلامه في محاولة لتسليط الضوء على السعودية الجديدة تحت قيادة الأمير الشاب.
تحولت بلاد الحرمَين التي كانت تستمدُّ ثقلها العالمي من مكانتها الدينية المقدسة، إلى عاصمة الترفيه العالمي وملتقى الفرق الاستعراضية ونجوم الفن بشتى أنواعه.
ربما لم يتمَّ الكشف بشكل واضح عن كلفة الحفل ونشاط الموسم الترفيهي هذا العام في ظلّ السرّية المفروضة وعدم خضوع الهيئة للأجهزة الرقابية، غير أن الأرقام التي أُعلن عنها في الموسم الأول عام 2019 تكشف النقاب نسبيًّا عن كلفة هذا العام التي تفوق بالطبع قيمة ما أُنفق قبل 3 أعوام، إذ تداولَ البعض أن الموسم قبل الماضي تكلّف ما يزيد عن 24 مليار ريال سعودي (8 مليارات دولار).
وتحوّلت بلاد الحرمَين التي كانت تستمدُّ ثقلها العالمي من مكانتها الدينية المقدسة، كونها مسقط رأس الرسول عليه السلام ومهبط الوحي وعاصمة الإسلام في العالم، إلى عاصمة الترفيه العالمي وملتقى الفرق الاستعراضية ونجوم الفن بشتى أنواعه، هذا التحول الذي أعاد هيكلة القوى الناعمة في المملكة، ليتصدّرَ الترفيه القائمة التي يتذيلها البُعد الديني، في ظلّ الانحدار الذي هوت إليه الهيئات الدينية والعلماء ورجال الدعوة.
انحدار الثقل الديني
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينهض المسار الترفيهي بمعزل عن تراجع نظيره الديني، لا سيما أن الأول في كثير من الأحيان يتغوّل على الثاني ويضعه في موقف حرج بتعارُض نشاطاته مع هوية ودور الثاني، وعليه كان قطار الترفيه المندفع يقابله قطار الدين المتخاذل “القشاش”.
وبينما كان ابن سلمان يفتح سماء بلاده وأرضها لنجوم العالم في الفن والإعلام والترفيه، كان يضيّق الخناق على رجال الدين وعلماء المملكة، فزجَّ بهم في السجون وقزّمَ دورهم وقلّصَ تأثيرهم، ومن تبقّى منهم إما هرب خارج البلاد وإما تمَّ استقطابه بشكل كامل.
وشيئًا فشيئًا بدأت السعودية تفقدُ ثقلها الديني، إذ هُمِّش دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحوّلت إلى كيان إداري خاضع لإمرة ولي العهد، وليس هناك مثالًا عن حالة الخذلان التي بات عليها علماء المملكة أكبر من قيام أحدهم (عادل الكلباني) بالترويج بنفسه لنشاط موسم الترفيه، وهو الذي كان بالأمس إمامًا للمصلين في الحرم المكّي.
وفي تقرير لـ”فرانس برس” نقلَ عن مدرِّس سعودي ترك العمل بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحفُّظه على تهميشها خلال السنوات الأخيرة، لافتًا إلى انتزاع كافة صلاحيات الهيئة منذ تولي ابن سلمان ولاية العهد عام 2017، وأنها تحولت إلى كيان مهمل لا ثقل ولا دور له.
وأشار المدرِّس عضو الهيئة المستقيل أن الهيئة التي كان لها في السابق صلاحيات كبيرة، “من بينها التأكُّد من تطبيق الناس لقواعد الآداب العامة ومنع الاختلاط، الأمر الذي كان يشمل الحقّ بطلب وثائقهم الشخصية ومطاردتهم وتوقيفهم”، باتت اليوم منصة لإطلاق حملات التوعية بالأخلاق ومواجهة الوباء وفقط.
ونتيجة لهذا التراجع، تساءل الداعية طارق السويدان عبر حسابه على فيسبوك تعليقًا على موسم الرياض الترفيهي قائلًا: “سؤال للسادة هيئة كبار العلماء في السعودية: ما رأيكم الشرعي في الحفلات التي تقام علنًا في بلاد الحرمَين الشريفَين؟”، لتأتيه الإجابات على شاكلة “أنهم مقهورون لأنهم في حكم السجناء والسجين تسقط شهادته”، كذلك “قد يجيب عن سؤالك أحدهم فيدفع حياته ثمنًا، وينكَّل بأهله، فرفقًا بالمغلوب حتى ينتصر الله لدينه”.
الرياضة على الخطّ
لم يكن الفن والترفيه القوتَين الناعمتَين الوحيدتَين اللتين يستعين بهما ولي العهد في مسيرته نحو خلافة والده على عرش المملكة، فمنذ صعوده سياسيًّا سعى الرجل إلى تعزيز نفوذ بلاده وتأثيرها على صناعة القرار عربيًّا، من خلال السيطرة على صناعتَي الترفيه والرياضة معًا.
وسخّر لذلك ذراعه اليمنى، تركي آل الشيخ، الذي استهلَّ مشواره بالرياضة المصرية حيث قضى هناك قرابة عامَين في تجربة جاءت بنتيجة عكسية، بعدما تسبّب في إحداث الفتنة الكروية بين قطبَي الكرة المصرية، الأهلي والزمالك، لينتقلَ بعدها نحو تجربة جديدة لكنها هذه المرة في أوروبا.
كانت البداية بشراء نادي ألميريا، أحد أندية دوري الدرجة الثانية في إسبانيا، لكن شعبية النادي المتراجعة لم تحقِّق أحلام وطموحات ولي العهد، فكان التوجُّه مباشرة نحو الاستثمار في المجال الرياضي العالمي عبر شراء نادي نيوكاسل الإنجليزي، في صفقة موّلها الصندوق السيادي للمملكة بقيمة 340 مليون جنيه إسترليني (380 مليون يورو) مقابل الاستحواذ على 80% من أسهم النادي.
تجميل الصورة بالرياضة لم يحقَّق الهدف منه، إذ قوبلت تحركات المملكة في هذا الإطار بحملات انتقاد حقوقية واسعة النطاق، إذ وصفت منظمة العفو الدولية سعي ابن سلمان لشراء نادي نيوكاسل بأنه “محاولة لغسل العار عبر الرياضة”، فيما قال رئيس حملات المملكة المتحدة في المنظمة الدولية، فيليكس جاكنز، أن المملكة معروفة بمحاولاتها لـ”غسل العار عن طريق الرياضة” باستخدام بريق ومكانة الرياضة العليا كأداة للعلاقات العامة، لتشتيت الانتباه عن سجلّ حقوق الإنسان السيّئ لديها.
وأمام هذا الهجوم عاود آل الشيخ الكرّة مرة أخرى في المسار الفني بصفته أقل حدة في استفزاز المنظمات الدولية، كما أنه أسرع في التأثير وتسليط الضوء المباشر، فكان التركيز على بوليفارد الرياض ومهرجانات جدة والأنشطة الترفيهية التي غيّرت صورة المملكة رأسًا على عقب، لكن يبقى السؤال: هل من الممكن أن تحوِّل تلك الفعاليات السعودية إلى قِبلة الفن والثقافة العربية كما يقول تركي آل الشيخ؟
هدر وشخصنة
على هامش الحفل صرّح الفنان المصري حسن الرداد بأنه يتمنّى الحياة في السعودية لأنها ملتقى الفن على حدّ قوله، وهو التصريح الذي استفزَّ المصريين بصورة كبيرة، كونه يتجاهل دور ومكانة عواصم الفن التاريخية عربيًّا وفي المقدمة منها القاهرة وبغداد ودمشق، الأمر الذي دفع تركي آل الشيخ للدخول على خطّ الأزمة مدافعًا عن تصريحات الفنان المصري، قائلًا: “المملكة منذ قدم التاريخ وإلى وقتنا الحاضر وإلى آخر الزمان أرض الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين وأرض الخير والأمن والأمان وحاضنة الفن والإعلام”.
حملة انتقاد واسعة شنّها أكاديميون مصريون ضد تصريحات مستشار ولي العهد، أكّدوا خلالها على أن الأموال لا تصنع حضارة، وأن التاريخ لا يمكن شراءه بمثل تلك الحفلات التي ينتهي صداها بمجرد إطفاء أنوارها، مستنكرين مساعي المملكة الترويج لنفسها فنيًّا وثقافيًّا من خلال النفوذ المالي.
حتى جوائز الحفل تخلّلتها الشخصنة في كثير من الأسماء التي مُنحت لها، برأي مراقبين، فبينما احتلَّ اللاعب المصري محمد صلاح المركز الثالث عالميًّا، إذ به يخسر الجائزة كأفضل رياضي عربي أمام اللاعب السعودي طارق حامدي الذي فازَ بفضية أولمبياد طوكيو في الكاراتيه، والغريب أيضًا أن اللاعبة المصرية الحائزة على ذهبية أولمبياد طوكيو في الكاراتيه فريال عبد العزيز، خسرت هي الأخرى أمام السعودية ياسمين الدباغ الحاصلة على المركز الأخير في البطولة ذاتها.
تجميل الصورة.. ما هكذا تُورد الإبل
الهرولة السعودية نحو تصدير صورة مشرقة عمّا شهدته من تطور ثقافي وفني، أثارت حفيظة السفير المصري فوزي العشماوي، الذي رغم إبداء إعجابه بجهود ولي العهد فيما أسماه “تفكيك البنية المتكلّسة منذ قرون”، إلا أنه تمنّى “أن يكون التطوير مؤسَّسًا على العلم والثقافة الحقيقية والفنون الرفيعة والخطوات المجتمعية المدروسة وليس المتعجّلة، والبُعد عن الصدمات والإقلال من جرعة الترفيه المبالغ فيها، فليس بتركي تتقدم المجتمعات”، لافتًا إلى أن “النظام السعودي يبدو عازمًا على حرق المراحل في اتجاه ما يراه هو وأنصاره تطورًا ويراه خصومه تقويضًا للأُسُس والثوابت”.
حذّر الدبلوماسي المصري من استغلال الفنانين العرب للترويج لصورة المملكة الجديدة مقابل المال، منوِّهًا أنه ليس لديه مشكلة في مشاركة النجوم المصريين في الفعاليات السعودية والخليجية والعربية، لكن شريطة “أن يكونوا سفراء مشرّفين لوطنهم العريق ولفنونه وآدابه دون تهتُّك او تدنٍّ او ابتذال، وألّا يدفعهم المال للإقلال من قدر أنفسهم أو وطنهم، وأن يدركوا ويراعوا الخيط الرفيع بين تقدير مضيفيهم ونفاقهم وتملُّقهم”.
وتبذل المملكة الغالي والنفيس من أجل تجميل صورتها التي تعرّضت لشروخات حادة خلال السنوات الماضية، بسبب الانتهاكات الحقوقية الكارثية وعلى رأسها مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في إسطنبول عام 2018، وذلك عبر حزمة من الأدوات والاستراتيجيات التي اعتمدَت على القوى الناعمة في المقدِّمة منها الفن والترفيه والرياضة والإعلام كما تمَّ ذكره.
وكان موقع “ميديا بارت” الفرنسي قد نشر في مارس/ آذار 2021 تقريرًا كشف فيه عن تعاقُد ولي العهد السعودي مع وكالة “هافاس” الفرنسية للعلاقات العامة منذ عام 2016، من أجل التسويق له وتحسين صورته في الإعلام الغربي.
أشار الموقع إلى توقيع شركة الاتصالات الفرنسية العملاقة “بابليسيس” عدة عقود مع الرياض، من أجل الترويج لها إعلاميًّا وتسويق قادتها لدى النظام الفرنسي، وذلك عبر لقاءات صحفية وتلفزيونية تسلِّط الضوء على إصلاحات ولي العهد، وقدرته على إدارة بلاده خلال المرحلة المقبلة.