ترجمة وتحرير: نون بوست
من خلال النجاح في تطبيع العلاقات مع ثلاث دول عربية، وما انجر عنه من تغييرات في الشرق الأوسط، بدأت “إسرائيل” تفكر في أنها لاعب رئيسي على المسرح الدولي.
قام الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب برعاية اتفاقيات أبراهام بين “إسرائيل” والإمارات العربية المتحدة والبحرين في شهر أيلول/ سبتمبر 2020، وتبع ذلك إعلان مغربي بعد ثلاثة أشهر عن تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
أدت هذه الاتفاقيات السرية إلى إضفاء الطابع الرسمي على الروابط الأمنية السرية التي تجمع بين “الأعداء” المفترضين، ومهدت الطريق لشراكات كاملة في مجالات الأمن والاقتصاد والثقافة وغيرها. شكلت هذه الاتفاقيات نجاحا استثنائيا لإدارة ترامب التي كانت تكافح لإدارة سياستها الخارجية. وبالنسبةلـ”إسرائيل”، فقد قدمت الاتفاقيات فرصا غير مسبوقة.
باستثناء اتفاقيات السلام مع مصر والأردن، واتفاقية الحكم الذاتي الفاشلة مع الفلسطينيين، كانت “إسرائيل” في حالة حرب وجودية مع أغلب دول العالم العربي منذ تأسيسها. لكن منذ إبرام اتفاقيات أبراهام، أصبحت “إسرائيل” تسعى لإظهار أن السلام يُجدي نفعا، وهي تأمل في الاستفادة من مكانتها الإقليمية لتحقيق مكاسب بعيدة المدى.
يقول إلياف بنيامين، رئيس قسم شؤون الشرق الأوسط بوزارة الخارجية الإسرائيلية: “باستثناء سوريا ولبنان، لا توجد دولة عربية أخرى لا نتعامل معها ولا تتعامل معنا”.
في المقابل، يرفض المنتقدون هذه الاتفاقيات ويرون أنها مجرد آلية لبيع الأسلحة الأمريكية والإسرائيلية والتعامل مع الديكتاتوريات التي يُزعم أنها تستخدم برامج التجسس الإسرائيلية. يقول المحامي الإسرائيلي المتخصص في حقوق الإنسان، إيتاي ماك، إن التطبيع مع الدول العربية تحقق بفضل “دبلوماسية بيغاسوس”، في إشارة إلى مبيعات برنامج “ببيغاسوس” الذي تملكه شركة “إن إس أو” الإسرائيلية، والتكنولوجيا المماثلة التي مكنت الأنظمة الاستبدادية من التجسس على شعوبها. يضيف ماك أن الجانب الأمني هو الأكثر أهمية في اتفاقيات التطبيع.
لكن التطبيع خلق عالما جديدا من الفرص لـ”إسرائيل” لتكون أخيرا جزءًا من المنطقة. تم افتتاح معرض تذكاري للهولوكوست في دبي، كما يتم إجراء مبادلات أكاديمية مع المغرب، ويقدم مركز شيبا الطبي الإسرائيلي خدمات صحية في البحرين. ويبدو أن الحصار العربي الذي قوضته اتفاقيات السلام السابقة مع الأردن ومصر، آخذ في التآكل.
يقول بنيامين إن العلاقات مع المملكة العربية السعودية، التي يُنظر إليها على أنها الجائزة الكبرى، تتطور. تتعاون الشركات الإسرائيلية مع نظيراتها السعودية “بطرق وأشكال وأساليب مختلفة”، مضيفا أن الأمر سيستغرق المزيد من الوقت لإرساء العلاقات الدبلوماسية.
أدى التطبيع – أي إنشاء علاقات رسمية اقتصادية ودبلوماسية وأمنية وغيرها – إلى تغيير علاقات “إسرائيل” مع جزء من العالم العربي. لكن يبقى السؤال المطروح: هل يعتبر التطبيع العربي الرسمي اعترافا بقوة “إسرائيل” الاستراتيجية كحليف محتمل ضد إيران؟ أم أنها مجرد خيانة للفلسطينيين الذين يتوقون إلى التحرر من الاحتلال الإسرائيلي؟ أو الأمرين معا؟
حاليا، تبدو “إسرائيل” راضية عن مسار التطبيع، رغم أن المحللين يؤكدون أنه من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت هذه الاتفاقيات مجرد شهر عسل، أم أنها ستتطور وتصبح علاقات دائمة. تحلت “إسرائيل” بالجرأة، من خلال إبراز نفوذها بدءا من الصحراء الغربية، مرورا بالسودان – بفضل علاقاتها مع الجنرالات الذين قادوا انقلاب 2021 – وصولا إلى الخليج العربي، وتنظر “إسرائيل” إلى نفسها حاليا باعتبارها قوة لا يستهان بها على المسرح الدولي.
يضيف بنيامين: “يجب أن يفكر فينا المجتمع الدولي كلاعب مهم وليس مجرد لاعب عادي يحاول إثبات وجوده. أصبحت الدول التي كانت تتجنبنا سابقا مهتمة حاليا بسماع رأينا. لقد واجهنا التحديات في هذه المنطقة الصعبة. “إسرائيل” تتحدى قدراتها، ولكنها محقة في ذلك”.
لم تواجه “إسرائيل” سوى بعض الخلافات مع شركائها في التطبيع حول القضية الفلسطينية، ولم يُوجه لها سوى انتقاد واحد من قبل الإمارات العربية المتحدة في شهر أيار/ مايو 2021 بشأن خططها لطرد العائلات الفلسطينية من القدس الشرقية، وهي خطة عارضها كثيرون على الصعيد الدولي.
ثم برزت قضية الصحراء الغربية، حيث اعترفت الولايات المتحدة خلال حكم ترامب بالسيادة المغربية على المنطقة المتنازع عليها، مقابل موافقة المغرب على تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”. لم تتراجع إدارة بايدن عن اعتراف الإدارة السابقة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، ودفع الشعب الصحراوي ثمن تطبيع العلاقات بين المغرب و”إسرائيل”.
في هذا الصدد، يقول بنيامين: “لدينا وجهة النظر ذاتها حول الأصدقاء والأعداء”، وتضم قائمة الأعداء إيران والإخوان المسلمين وتنظيم الدولة.
بالنسبة للعديد من الخبراء الإسرائيليين المختصين في شؤون الشرق الأوسط، والذين أُجبروا حتى الآن على دراسة المنطقة من بعيد، يعدّ التطبيع أكثر من مجرد مسألة مثيرة للجدل.
في هذا السياق، يوضح بروس مادي ويتزمان، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب: “في المنظومات الإقليمية، عندما لا يحظى أحد الأطراف بالشرعية، يكون ذلك عائقًا أمام إقامة علاقات طبيعية، ووضعا مثيرا للاضطرابات”.
في المغرب، رحّب الكثير من المغاربة بتطبيع العلاقات الإسرائيلية المغربية. لطالما كان للبلدين علاقات سرية وتقارب ثقافي وتاريخي. وقد مثّل المغرب ملاذًا وموطنًا لليهود المطرودين من إسبانيا والبرتغال في نهاية القرن الخامس عشر.
ويعتقد عالم الاجتماع المغربي محمد اشتاتو، الأستاذ في الجامعة الدولية بالرباط، أن المغاربة “سعداء بخروج العلاقات الإسرائيلية المغربية من السرية إلى العلن، وهو الأمر الذي يساعد على تعزيز العلاقات بين البلدين”.
باعتباره باحثا متخصصا في العلاقات الإسلامية اليهودية بالمغرب، يأمل اشتاتو أن يمكّنه التطبيع من أن يصبح أستاذًا زائرًا في إحدى الجامعات الإسرائيلية. في هذا الشأن، يؤكد بنيامين أن معظم الجامعات الإسرائيلية توصلت إلى اتفاقيات تعاون مع الجامعات المغربية.
في دبي، استغل عضو البرلمان الإماراتي السابق أحمد عبيد المنصوري اتفاقية التطبيع لافتتاح أول معرض كبير عن الهولوكوست في العالم العربي.
يقول المنصوري في هذا السياق: “لقد قررت ألا يكون لدينا سلام سياسي فحسب، بل ينبغي أن نتعاطف مع بعضنا البعض ويكون هناك تبادل ثقافي”. ويضيف: “لا يوجد شيء مثل الهولوكوست من حيث حجم الجريمة ضد الإنسانية والدين”. تتعارض رؤية المنصوري مع النزعة السائدة في العالم العربي بشأن الهولوكوست.
تعتبر العلاقات مع الإمارات الأسرع تطورًا منذ توقيع اتفاقيات التطبيع، وقد أشاد بها السفير الإسرائيلي في الإمارات العربية المتحدة أمير حايك، قائلا إن المجتمع الإماراتي مجتمع “منفتح ومتسامح” يتشارك القيم ذاتها مع الإسرائيليين.
ردت الإمارات العربية المتحد بالمثل من خلال السعي إلى تعزيز النظرة الإيجابية للرأي العام تجاه “إسرائيل”. على سبيل المثال، تضمن كتاب مدرسي إماراتي جديد قصة صبي يُدعى يوسي من تل أبيب، ينتقل مع عائلته إلى الإمارات العربية المتحدة. رغم جائحة كوفيد-19، زار نحو 300 ألف إسرائيلي الإمارات السنة الماضية، لكن السياحة في الاتجاه المعاكس لم تتطور بالقدر ذاته.
ويؤكد السفير حايك أن العلاقات التجارية بين البلدين، والتي تشمل تجارة الماس، بلغ حجمها أكثر من مليار دولار السنة الماضية، ومن المتوقع أن يستكمل الجانبان المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة بحلول شهر آذار/ مارس.
وأضاف حايك أن “هناك إمكانية للتعاون في مجالات الأمن الغذائي والتكنولوجيا الزراعية والرعاية الصحية وغيرها من المجالات”.
لا تنظر الشركات الإسرائيلية إلى الإمارات العربية المتحدة كشريك فحسب، بل على أنها نقطة انطلاق لاختراق أسواق الخليج العربي الأخرى. في أيار/ مايو، من المقرر أن تفتتح شركة الخدمات المالية الإسرائيلية “رابيد” مكتبًا في الإمارات العربية المتحدة، سيوظف إسرائيليين، إلى جانب مغتربين قادمين من دول لا تربطها أي علاقات رسمية مع “إسرائيل”.
ترحب “إسرائيل” أيضا بالمسار الإيجابي التي اتخذته العلاقات مع المغرب. في تشرين الأول/ نوفمبر 2021، أصبح المغرب أول دولة عربية توقع بشكل علني مذكرة تفاهم دفاعي مع “إسرائيل” خلال زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس إلى الرباط. يعتقد المغرب أن “إسرائيل” ستدعمه ضد الجزائر، وفي التصدي لأي مقاومة لجهودها في السيطرة على الصحراء الغربية.
على الرغم من أن التطبيع عزز مكانة “إسرائيل” ونفوذها في الخارج، إلا أنها تتخذ أيضًا خطوات إستراتيجية لفرض سيطرتها بشكل كامل على الضفة الغربية المحتلة
لكن العلاقات الإسرائيلية المغربية لا ترتبط فقط بالأسلحة والمصالح الجيوسياسية. في ظل وفرة المواقع التاريخية اليهودية في المغرب، والتي جددت الحكومة العديد منها في السنوات الأخيرة، وعودة أكثر من مليون إسرائيلي إلى موطنهم الأصلي، تعززت فرص التبادل السياحي والثقافي. في الوقت الحالي، تنظم شركتا طيران رحلات مباشرة من “إسرائيل” إلى المغرب، وقدم العديد من الفنانين حفلات هناك، وتم توقيع اتفاقيات تعاون بين المكتبة الوطنية الإسرائيلية ونظيرتها المغربية.
في المقابل، يسير قطار التطبيع مع البحرين بوتيرة بطيئة، لكن “إسرائيل” تريد أن تعزز العلاقات مع المنامة بسبب وضعها الاستراتيجي وعلاقاتها الوثيقة مع المملكة العربية السعودية. توصل البلدان إلى 12 اتفاقية اقتصادية تشمل الطيران والبنوك والتكنولوجيا والمياه. في إشارة إلى دعم “إسرائيل” للمملكة في مواجهة إيران، زار وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد البحرين في أيلول/ سبتمبر 2021، وأدلى بتصريحات من على متن سفينة تابعة للأسطول الأمريكي الخامس.
ويرى الناشط هاجيت عفران، من جماعة “السلام الآن” التي تراقب أنشطة الاستيطان الإسرائيلية، أنه “على الرغم من أن التطبيع عزز مكانة “إسرائيل” ونفوذها في الخارج، إلا أنها تتخذ أيضًا خطوات إستراتيجية لفرض سيطرتها بشكل كامل على الضفة الغربية المحتلة”.
وأضاف عفران أن” شبكة جديدة من الطرق والطرق السريعة قيد الإنشاء تعمل على تحويل المستوطنات البعيدة نسبيًا إلى أماكن يسهل الوصول إليها من المدن الرئيسية المحتلة، مما يمهد الطريق لزيادة عدد المستوطنين بمئات الآلاف”.
وتؤكد جماعات حقوقية أن انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها “إسرائيل” تتزايد مع وصول عمليات هدم منازل الفلسطينيين إلى أعلى مستوى لها منذ خمس سنوات، ولا تزال الحكومة وقوات الدفاع الإسرائيلية تتجاهل تصاعد وتيرة أعمال عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين.
في هذا الصدد، توضح سميحة الهريني، وهي ناشطة من قرية التواني بالضفة الغربية، أن “اتفاقات السلام تأتي في الوقت الذي تواصل فيه “إسرائيل” توسيع الاحتلال وقتل الفلسطينيين وهدم منازلهم”. وتضيف: “الأمور تزداد سوءًا. لهذا السبب نرفض أي دعوة للتطبيع، والذي نرى أنه يمثل خيانة عربية عظمى لقضيتنا”.
المصدر: فورين بوليسي