ترجمة حفصة جودة
تتذكر قلب النور تورسون، وهي سيدة إيغورية ترجع أصولها إلى يوبورجا، تلك القرية الواقعة على الأطراف الغربية لصحراء تكلامكان الشاسعة؛ آخر مكالمة هاتفية لها مع أقاربها في شينجيانغ.
قالت لها أختها في يوليو/ تموز 2017: “لا تفكري أبدًا بالعودة هنا مطلقًا، لم تعد البلاد كما تتذكرينها”. قبل عام من ذلك في أبريل/ نيسان 2016 صعدت تورسون على متن طائرة إلى إسطنبول مع زوجها عبد الرحيم روزي وابنها محمد، بينما ترتدي مشدًّا محكمًا لإخفاء حملها ذي الـ 6 أشهر، لكنها تركت أطفالها الخمسة الباقين في البيت.
كانت سياسات الصين الإنجابية، التي سمحت للأزواج بإنجاب 3 أطفال مؤخرًا بدلًا من اثنين، تُطبَّق بشكل خاص على الإيغور وبقية الأقليات المسلمة في شينجيانغ غرب البلاد، ما يعني أن تربية أطفالها الذين سيكونون 7 قريبًا أمر شبه مستحيل في أورومتشي.
تعدّ حملة الاعتقال غير القانونية للإيغور والكازاخ وغيرهما من الأقليات العرقية في شينجيانغ، جزءًا من حملة مكثفة أطلقتها بكين بحجّة مكافحة الإرهاب والانفصالية.
تقول تورسون -خيّاطة تملك محلًّا في إسطنبول- إن السلطات الصينية تداهم كل ليلة منزل الأسرة لمعرفة عدد الأشخاص الذين يعيشون هناك، الأمر الذي لم يترك لها خيارًا سوى إرسال بعض أطفالها للبقاء عند أقاربهم خارج المدينة.
الفرار من شينجيانغ
لفترة قصيرة من الوقت عام 2015 خففّت الحكومة الصينية من قبضتها على سياسة جوازات السفر لسكّان شينجيانغ، فتمكّنت تورسون وزوجها وأحد أبنائها من الحصول على جوازات سفر صينية.
وخوفًا من تعرُّضها للإجهاض القسري إذا اكتشفت السلطات حملها، فرّت تورسون من أورومتشي وتركت بقية أطفالها أمانة في رعاية أقاربها حتى تُقبل طلبات جوازات السفر الخاصة بهم.
عند وصولهم إسطنبول، علمَ روزي أن جوازات سفر بقية أطفاله قد صدرت، فعادَ بعد 10 أيام إلى الصين لترتيب سفرهم إلى تركيا، خلال تلك الفترة كانت تورسون تتحدّث مع زوجها صباحًا ومساءً حتى يوم 10 يونيو/ حزيران 2016، في ذلك اليوم شكّت في اعتقال السلطات الصينية له.
بعد 40 يومًا من وضع رضيعتها وحدها في إسطنبول، أكّد مخاوفها أحد أصدقاء زوجها الذي أخبرها أن روزي حُكم عليه بـ 15 عامًا من السجن لسفره وإرساله الأموال إلى الخارج، لذا بالإضافة إلى زوجها، ما زال أبناء تورسون الخمسة في الصين.
حملة الصين على الإيغور
تعدّ حملة الاعتقال غير القانونية للإيغور والكازاخ وغيرهما من الأقليات العرقية في شينجيانغ، جزءًا من حملة مكثَّفة أطلقتها بكين بحجّة مكافحة الإرهاب والانفصالية والتسلُّل في المنطقة.
وفقًا لمنظمة العفو الدولية، منذ عام 2017 سُجن مليون رجل وامرأة على الاقل أو اُحتجزوا في معسكرات اعتقال جماعية، وصفتها الحكومة الصينية بمراكز تعليم مهني.
خلال الـ 4 سنوات الماضية، نُشر عدد متزايد من التقارير تفاصيل المراقبة الجماعية والاستيعاب الثقافي القسري والتعقيم الإجباري، كما كُشف عن جمع الأعضاء من خلال بعض الفجوات في جدار المعلومات الصيني (بروتوكول صيني لمنع تبادل المعلومات والاتصالات)، ما يثير اتهامات بانتهاكات ممنهَجة لحقوق الإنسان والإبادة الجماعية.
تطبيقات الهاتف تقدِّم الإجابات
كانت تورسون تعتقد أن أبناءها ما زالوا مع أقاربها في شينجيانغ، حتى أحد أيام ديسمبر/ كانون الأول 2018 عندما كانت تتصفّح مجموعة واتساب للإيغور في المنفى، حيث رأت ابنتها عائشة في مقطع فيديو يصوِّر أطفال الإيغور وهم يتحدثون الماندرين في مكان يبدو أنه دار أيتام تديرها الدولة الصينية.
في كل جمعة يقوم مجتمع الإيغور المحلي بتنظيم رحلة مشترَكة بالحافلة عبر المدينة للأشخاص الذين فقدوا بعض أفراد عائلتهم، للاحتجاج أمام القنصلية الصينية.
في البداية كانت مسرورة لرؤية أحد أطفالها على قيد الحياة، لكن فرحها تحوّل إلى فزع عندما اكتشفت من أحد الرجال الذين شاركوا الفيديو أنه مصوَّر في مقاطعة هوتان -وهي جزء من شينجيانغ ليس لها فيها أي أقارب أو معارف- التي تبعدُ أكثر من 480 كيلومترًا عن موطنهم كاشغر.
منذ ذلك الحين أصبح الفيديو قاسيًا، بينما كانت تورسون تحاول إعادة بناء حياة طفلَيها في تركيا، كانت تقوم بحملات لا تتوقف من أجل لمّ شمل عائلتها، حيث في كل جمعة يقوم مجتمع الإيغور المحلي بتنظيم رحلة مشترَكة بالحافلة عبر المدينة للأشخاص الذين فَقَدوا بعض أفراد عائلتهم للاحتجاج أمام القنصلية الصينية.
تقول تورسون: “لقد بكينا وتوسّلنا خارج القنصلية من أجل أي معلومات عن عائلاتنا حتى في الثلج، لكنهم لم يسمحوا بدخولنا أبدًا، ولم يردّوا على مطالبنا مطلقًا، ليست الصين بالدولة التي تسمع”.
يبيع المحل ملابس إسلامية غالبًا، تلك التي كانت ممنوعة في شينجيانغ، وعلى مقربة منها كانت هناك مجموعة مطوية من ملابس زوجها تحتفظ بها لتذكّرها به.
كتبت تورسون 16 خطابًا لحكومات غربية لكنها لم تحصل على أي جواب، وقامت مع 6 أمهات أخريات في ظروف مشابهة برحلة على الأقدام إلى أنقرة من أجل يوم المرأة العالمي العام الماضي.
تقول تورسون: “إذا كان هناك أي إمكانية للحديث مع أطفالي مرة أخرى، سأخبرهم أنني لم أتركهم عمدًا، كنت مضطرة لذلك، لكن خوفي الأكبر أن يكرهونني باعتقادهم أني تخلّيت عنهم”.
أخبار زائفة
بالنسبة إلى العديد من الإيغور الذين يعيشون في المنفى، فقد منحتهم وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا بسيطًا من المعلومات بشأن مصير أقاربهم المفقودين في الصين، كان ذلك وضع سيمسنور عبد الغفور، متخصِّصة في طبّ الأعشاب الإيغوري وطبيبة نسائية سابقة، التي لم تتمكّن من التواصل مع زوجها وابنتها وعائلتها الممتدة في شينجيانغ منذ عام 2016.
في يونيو/ حزيران العام الماضي، عُقدت محكمة مستقلة في لندن لتقييم الأدلّة المتعلقة بمعاملة بكين للإيغور وبقية الأقليات الترك المسلمة، وتحديدًا إذا ما كانت تلك الأفعال تشكِّل إبادة جماعية.
قدمت عبد الغفور شهادتها في تلك المحكمة، حيث قالت إنها كانت تعمل كجزء من الفريق الطبي المسؤول عن الكشف عن حالات الحمل غير المصرَّح بها، وإجراء إجهاض قسري وتعقيم لنساء الإيغور أثناء التسعينيات.
بعد 4 أشهر، يوم 14 أكتوبر/ كانون الأول، ظهر فيديو بعنوان “أخبار زائفة” على حساب يوتيوب غير معروف، في هذا الفيديو ظهرت شقيقة عبد الغفور وابنتها وهما تتحدثان من غرفة معيشة منمّقة، تنددان بشهادتهما وتقولان إنها شائعات ملفَّقة بشأن الإجهاض القسري وإزالة الأرحام في شينجيانغ.
صدر الحكم في 9 ديسمبر/ كانون الأول، والذي يقول إن أفعال الحكومة الصينية في شينجيانغ ترقى إلى إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.
تؤكد عبد الغفور أن السلطات الصينية أجبرت أقاربها على الحديث ضدّها ودحض ادّعاءاتها، حيث تقول شقيقتها في الفيديو: “انظروا إلى منزلنا، لم يكن جميلًا هكذا من قبل، إنه الآن مزيَّن بالأثاث الجديد، ولا نواجه أي صعوبات، إننا نعيش في شينجيانغ بسعادة، لكنكم تستخدمون تلك الأكاذيب لتشويه بلادنا”.
في محلّها لبيع أدوية الإيغور التقليدية في إسطنبول، تصفُ عبد الغفور معاناتها لانفصالها عن عائلتها كل هذه السنين، حيث تقول: “آتي إلى العمل لأنظِّف ثم أجلس، عندما يأتي مريض أقدِّم له الخدمة، سوى ذلك لا رغبة لدي للقيام بشيء آخر، فأمي ليست هنا ولا أشقائي ولا ابنتي، أذهب فقط إلى القنصلية الصينية لأصرخ فأخفِّف من توتُّري”.
ردّ بكين
أنكر المسؤولون الصينيون شرعية محكمة الإيغور في المملكة المتحدة، وفرضوا عقوبات على منظّميها وادّعوا أنها أداة سياسية يستخدمها المعادون للصين وعناصر انفصالية لخداع وتضليل العامة.
كما رفضت سفارة الصين في لندن ما وصفته بـ”محكمة زائفة”، وقال المتحدث باسم السياسة الخارجية الصينية إن الولايات المتحدة تستخدم قضايا شينجيانغ لنشر الشائعات تحت ستار حقوق الإنسان، وتشارك في التلاعب السياسي والتنمُّر الاقتصادي.
ومع ذلك صدر الحكم في 9 ديسمبر/ كانون الأول، والذي يقول إن أفعال الحكومة الصينية في شينجيانغ ترقى إلى إبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية، ورغم أن المحاكمة غير رسمية أو ملزمة قانونيًّا، إلا أن المشاركين بها يأملون في أن الأدلة التي قدّموها بالمحاكمة تحثّ المجتمع الدولي على القيام بأي خطوة.
مقاطعة الألعاب الأولمبية الشتوية
قدّمَ نشطاء حقوق الإنسان وجماعات المناصرة عريضةً للجنة الألعاب الأولمبية الدولية، لحرمان الصين من استضافة دورة بكين 2022 للألعاب الأولمبية الشتوية، مستشهدين باضطهاد مسلمي الإيغور وسط مخاوف أخرى متعلِّقة بحقوق الإنسان.
لكن العريضة التي وُقعت أكثر من 100 ألف مرة كان لها تأثيرًا ضئيلًا، ومع ذلك في 6 ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي أعلنت الولايات المتحدة مقاطعة دبلوماسية للألعاب، وتبعتها دول غربية أخرى من بينها أستراليا وكندا والمملكة المتحدة.
رغم ترحيبه بتلك المقاطعة، يقول نور الدين إزباسار، السكرتير العام لجمعية هيومن رايتس ووتش في تركستان الشرقية، إن هذه الإجراءات التي اتّخذتها دول قليلة ليست كافية، وأضاف: “بغضّ النظر عن التنديد وفرض قيود على بعض المسؤوليين الصينيين وزيادة الضرائب على البضائع الصينية، فلا يمكننا القول إن أي دولة اتخذت إجراءات كافية لردع أفعال الصين”.
ويكمل: “في الدول التي تمتلك حكومات منتخَبة ديمقراطيًّا، فإن أكثر الإجراءات واقعية محاسبة الصين أمام المحاكم القانونية الدولية، وهذا ما ننتظره”.
أصبح عمر طفلَي قلب النور اللذين يرافقانها في تركيا 5 سنوات و8 سنوات، وأثناء جلوسها في المحل تبحثُ قلب النور في مجموعات تيكتوك وواتساب على هاتفها عن أي آثار لأطفالها الذين انفصلت عنهم.
المصدر: ميدل إيست آي