يشكّل تقرير منظمة العفو الدولية “أمنستي” ضربة جديدة في مرمى الاحتلال الإسرائيلي وسياساته، بعد أن دعا إلى مساءلة السلطات الإسرائيلية على ارتكاب جريمة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين في مختلف مناطق إقامتهم، بما في ذلك الأراضي المحتلة عام 1948.
التقرير الذي جاء مكوَّنًا من 211 صفحة، يبيّن كيف أن الاحتلال “دولة” تفرض نظام اضطهاد وهيمنة على الشعب الفلسطيني أينما ملكت السيطرة على حقوقه، عبر “أبارتهايد” يحرم الفلسطينيين من حقوق المواطنة والجنسية وسلسلة طويلة من الإجراءات والعقوبات.
يشير التقرير إلى أن الانتهاكات، بما فيها التعامل مع الفلسطينيين في حدود 1967 على أنهم جماعة عرقية دونية وحرمانهم من أبسط حقوقهم، تشكّل مخالفة واضحة وانتهاكًا لنظام روما الأساسي والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها.
ونظام الفصل العنصري هو منظومة مؤسَّسة للقمع والهيمنة تمارسها جماعة عرقية ضد أخرى، حيث إنه انتهاك خطير لحقوق الإنسان يحظره القانون الدولي العام، تمامًا كما جرى في حالة جنوب أفريقيا سابقًا، وهو الحال مع الفلسطينيين حاليًّا.
اللافت في التقرير هو أنه لم يقتصر على مناطق فلسطين المحتلة عام 1967، بل امتدَّ للإشارة إلى الفلسطينيين في مناطق عام 1948، وهو اختراق قانوني جديد ضد الاحتلال وسياساته العنصرية في التعامل مع الفلسطينيين.
أما ردّة الفعل الإسرائيلية فكانت عنيفة بعض الشيء، عبر استباق صدور تقرير منظمة العفو الدولية بالطلب منها تأجيل إصداره كونه يصفها بـ”الفصل العنصري”، وهو ما يعبِّر عن حالة القلق المباشر من النتائج القانونية التي قد تنشأ عنه مستقبلًا.
وفي موازاة ذلك، إن توجيه تُهم “معاداة السامية” للمنظمة الحقوقية يتساوق مع الرواية التي عادةً ما تصدرها السلطات الإسرائيلية ضدّ المؤسسات الحقوقية وتقاريرها، للتهرُّب من الاستحقاقات القانونية، وهو ما تكرَّر سابقًا مع منظمتَين حقوقيتَين.
وسبق أن استخدمَ الاحتلال عبر حكومته ومسؤوليه أوصافًا مشابهة لـ”معادة السامية” أو “تشجيع الإرهاب”، ضدّ تقريرَين منفصلَين أصدرتهما هيومن رايتس ووتش ومنظمة بتسليم الحقوقية الإسرائيلية غير الحكومية، دون أن يقدِّم ردودًا قانونية مقنعة تفنِّد الاتهامات الموجَّهة إليه.
“الفصل العنصري”.. التبعات القانونية ضد الاحتلال
تكمن الأهمية القانونية للتقرير في إمكانية توظيفه واستخدامه أمام الجنائية الدولية والعدل الدولية وأي قضاء عالمي آخر، ويمكن أن يوظَّف ويستخدَم كتقرير يقدَّم لهيئات اتفاقيات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وهي: لجنة القضاء على كافة أشكال التمييز العنصري، ولجنة حقوق الإنسان، ولجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولجنة مناهضة التعذيب، وغيرها من ضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية المهينة التي يتعرّض لها الفلسطينيون.
ويمكن للتقرير، بناءً على ما ورد فيه، مطالبة هيئة الأمم المتحدة بإرسال لجنة تحقيق دولية للتحقيق في التمييز العنصري وتحديد جريمة الفصل العنصري كجريمة ضد الإنسانية، استنادًا على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بهدف ضمان محاسبة ومساءلة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة من قبل دولة الاحتلال، أو رفع شكاوى فردية ضد السياسات الإسرائيلية التي تقوم بها كدولة فصل عنصري والتمييز ضد المدنيين الفلسطينيين، كما يحدث في الشيخ جراح وسلوان، ورفع شكاوى أمام هيئات اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وتقديمه دليلًا على ذلك.
ويشكّل التقرير الحالي تأكيدًا لتقارير صادرة عن منظمة هيومن رايتس ووتش، أكّدت فيها أن الاحتلال يمارس سياسة الفصل العنصري والتمييز والاضطهاد بحقّ الفلسطينيين، كذلك تقرير منظمة بتسليم الإسرائيلية، الذي أكّد أيضًا على ممارسة الفصل العنصري، فيما تعدّ جميع هذه التقارير امتدادًا للقرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1975، الذي اعتبرَ الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية، والذي تمَّ إلغاؤه بعد مؤتمر مدريد.
شيطنة متوقعة
من جانبه، يقول رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، إن الهجوم التحريضي الذي شنّته وزارة الخارجية الإسرائيلية على منظمة العفو الدولية على خلفية تقريرها، مرفوض ويفتقر للمصداقية.
ويضيف عبده لـ”نون بوست”: “تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لبيد، ضد العفو الدولية مشينة وتفتقر للمصداقية والعدالة، وتأتي في سياق نهج إسرائيلي يقوم على ترهيب الأفراد والكيانات التي تنشط في الدفاع عن حقوق الإنسان، والتشكيك في مصداقيتها، وهو أمر سبق أن تعرضت له العديد من المنظمات الحقوقية والقائمين عليها”.
ويرى الحقوقي عبده أنه بدلًا من قيام حكومة الاحتلال بمراجعة سياستها التمييزية وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان، اختارت أن تهاجم المنظمة الحقوقية، وأن تصفَ التقرير بأنّه يكدّس ويعيد تدوير أكاذيب مصدرها منظمات كراهية معروفة مناهضة لـ”إسرائيل”.
ووفقًا لرئيس المرصد الأورومتوسطي، فإن هذه الحملة الإسرائيلية ضد منظمة العفو الدولية هي محاولة لوصمهم بالإرهاب والتشكيك في نزاهة عملهم، وفرض الترهيب ضدهم بما في ذلك التحريض والملاحقة والاعتقال والاغتيال المعنوي.
الفلسطينيون والاستفادة القانونية.. كيف يمكن ملاحقة قادة الاحتلال؟
من جانبه، يؤكد رئيس الهيئة الدولية لحقوق الشعب الفلسطيني “حشد”، والباحث في القانون الدولي، صلاح عبد العاطي، على أن الاستفادة القانونية من التقرير كبيرة رغم كونها مرتبطة بالتحرُّك الرسمي للسلطة الفلسطينية في المحافل الدولية.
ويقول عبد العاطي لـ”نون بوست” إن ما يضعف فرصة الاستفادة من التقرير هو تباطؤ الخطوات الرسمية للسلطة في تحريك الملفات القانونية ضد الاحتلال في المحاكم الدولية، وعملية ربطها بالخطوات السياسية “عملية المفاوضات”.
ويرى الباحث في القانون الدولي أن المطلوب تعزيز القضايا ضد الاحتلال وقادته في دول العالم، وتكريس هذه التقرير لتصبح ذات قرارات عملية يتمُّ من خلالها إدانة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين وملاحقتهم قانونيًّا، تمامًا كما جرى في حالة جنوب أفريقيا.
ويتابع عبد العاطي: “يجب استثمار مثل هذه التقارير الدولية في ضمان ملاحقة الاحتلال ومحاسبته على ما ارتكبه من جرائم؛ سواء بإحالة هذه التقارير إلى محكمة الجنايات الدولية أو في المتابعة مع المنظمات الدولية لضمان فرض مقاطعة وعقوبات على هذا النظام، من أجل وقف ممارسات التمييز العنصري وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية بحقّ المدنيين الفلسطينيين”.
معنويًّا، يشكّل التقرير الحقوقي الجديد ضربة للاحتلال دوليًّا، يمكن استغلالها شعبيًّا وحقوقيًّا في تكريس صورة “الفصل العنصري”، لا سيما أن التقرير حمل اختراقًا جديدًا بالإشارة إلى الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
أما واقعيًّا، مع استمرار السلطة في سياستها الحالية، فإن فرضية الاستفادة الرسمية تبدو ضعيفة على غرار تقرير “غولدستون” وغيره من التقارير التي أجهضها رئيس السلطة محمود عباس، ضمن خطوات بناء الثقة مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
ومع تتالي اللقاءات بين المسؤولين الإسرائيليين في الحكومة الحالية ورئيس السلطة وفريقه، فإن التسريبات تشير إلى أن السلطة ستقوم بإبطاء تحركاتها فيما يخصّ الملفات المتعلقة بالجنائية الدولية، لصالح تحركاتها السياسية.