تركيا وأسباب العودة إلى سنجار مرة أخرى

شكّل تواجد حزب العمال الكردستاني التركي داخل الحدود العراقية، وتحديدًا في مناطق سنجار ومخمور، أحد أبرز الملفات المعقدة في مسار العلاقات العراقية التركية منذ منتصف القرن الماضي. وزادَ من تعقيد هذه الحالة عدم تمكُّن الحكومات العراقية من فرض سلطانها الداخلي على المناطق الشمالية في العراق، بسبب قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بفرض حظر الطيران بخطوط طول 37 شمالًا، لأسباب داخلية وخارجية عانى منها العراق منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
وعلى هذا الأساس تنظر تركيا إلى أن ضعف تواجد العراق السيادي على طول الشريط الحدودي، أدّى إلى استمرار العمليات العسكرية التي يشنّها حزب العمال الكردستاني التركي، الذي أسّسَ تواجدًا دائمًا داخل مدينة سنجار ومخمور شمال العراق، والذي يرتبط بشريط جغرافي متمثّل بتواجد حزب الحياة الحرة الكردي بيجاك في الشمال الشرقي على الحدود مع إيران.
بالإضافة إلى وجود وحدات حماية الشعب الكردية في الشمال الغربي على الحدود مع سوريا، ليشكّل بدوره حزامًا جغرافيًّا معقدًا بعيدًا عن سيطرة الحكومة المركزية في بغداد من جهة، ومصدرَ تهديد مستمر للأمن القومي التركي من جهة أخرى.
فضلًا عن تواجد إيران العسكري غير المباشر على طول هذا الحزام، ما يجعل تركيا بدورها غير قادرة على النفاذ إلى الداخل العراقي مستقبلًا، وتحديدًا الموصل وكركوك اللتين شكّلتا مناطق نفوذ تاريخي واقتصادي لتركيا.
تحركات استباقية
يمكن القول إن هناك العديد من الأهداف الاستراتيجية التي تطمح تركيا لتحقيقها، من خلال العملية العسكرية الجوّية التي تشنّها منذ ليلة الثلاثاء 1 فبراير/ شباط 2022، على امتداد جبل سنجار وقره جوغ بدءًا من منطقة ميران القريبة من الحدود مع سوريا، التي تُستخدَم كقاعدة خلفية من جانب حزب العمال الكردستاني التركي ووحدات حماية الشعب الكردية السورية، العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية.
يتمّ هذا عبر استهداف “ملاجئ ومخابئ وكهوف وأنفاق ومستودعات ذخيرة ومقرّات عامة مزعومة ومعسكرات تدريب”، فالبعض من هذه الأهداف هو على صلة مباشرة بالبيئة الداخلية التركية، وبعضها الآخر متعلِّق بطبيعة الظروف والمتغيرات الإقليمية والدولية. وبناءً على تلك المعطيات، يشير التوسُّع الكبير في العمليات العسكرية الراهنة، إلى أن تركيا تطمح إلى فرض بيئة أمنية جديدة بعيدة عن تأثيرات اللاعبين الآخرين في هذه البيئة، والحديث هنا عن لاعبين محليين وإقليميين.
كما أنها تأتي في إطار مسعى تركي لاستباق أي تصعيد أمني يطال القوات التركية المتمركزة في محيط سنجار، في ظلّ تكرار الهجمات الصاروخية التي بدأت تطال معسكر زليكان في بعشيقة، من قبل فصائل مسلحة موالية لإيران، بعد صدور نتائج الانتخابات المبكرة والموقف التركي منها.
ما هو أبعد من استهداف سنجار ومخمور
إن النظرة الاستراتيجية الشاملة لطبيعة الأهداف التركية التي تقف خلف العملية الأخيرة، توحي برغبة صانع القرار التركي لتصفير الملفات المعقدة في استراتيجية الأمن القومي التركي، وحزب العمال الكردستاني التركي يحظى بأهمية كبيرة في هذه الاستراتيجية، بفعل ارتباطاته الداخلية والخارجية.
وخصوصًا أن العديد من مقاتلي الحزب اندمجوا (بدعم وضغط إيرانيَّين) ضمن لواء 80 حشد شعبي، تحت لواء ما يُعرف بـ”وحدات حماية سنجار”، وأسّست لنفسها إدارة ذاتية يديرها فهد حامد عمر، وأبعدت المؤسسات الرسمية العراقية عن مزاولة مهامها في سنجار.
والأكثر من ذلك، بدأت المعارضة التركية مؤخرًا، وتحديدًا حزب الشعب الجمهوري، باستغلال الورقة الكردية ضد الرئيس أردوغان، وإمكانية أن يوفِّر هذا الاستغلال بيئة آمنة لقيادات الحزب بالعودة إلى الداخل التركي، وعليه إن عملية مواجهة هذا الحزب خارج الحدود التركية قد يوفِّر فرصة مهمة للقيادة التركية بالتخلص من هذا التعقيد، بدلًا من مواجهة الحزب داخل الحدود.
إن الهدف الاستراتيجي الذي تطمح تركيا لتحقيقه في الوقت الحاضر، هو خلق منطقة آمنة بعمق 50 كيلومترًا داخل الأراضي العراقية، تبدأ من منطقة هافتانين الحدودية وحتى معسكر بعشيقة في سهل نينوى، الذي تتواجد فيه القوات التركية، ما يجعلها متحكمة بالعديد من الممرّات الاستراتيجية التي تربط هذه المنطقة الآمنة بمدن سنجار وقنديل والزاب وأفشين وباسيان.
فضلًا عن ربط هذه المنطقة الآمنة بمنطقة هاكروك على الحدود الإيرانية في جنوب شرق تركيا، والهدف من ذلك كله السيطرة على الشريط الحدودي الشمالي الرابط بين العراق وسوريا، إذ تركّز العملية الأخيرة على ضرب الخطوط الخلفية للحزب في سنجار ومخمور، وقطع الممرّ الجغرافي الممتد عبر الحدود العراقية السورية، باتجاه العمق السوري غربًا، والتركي شمالًا.
إلى جانب الفوائد الأمنية والسياسية التي تسعى تركيا تحقيقها من العملية العسكرية الحالية، تولي تركيا البُعد الاقتصادي أهمية كبيرة، خصوصًا أنها تعيش اليوم أزمة اقتصادية صعبة.
إذ حققت العملية العسكرية التركية في شمال العراق التي انطلقت في شهر يونيو/ حزيران 2021، أهدافًا مهمة تمثّلت بالتمركز في عدة نقاط عسكرية داخل الحدود العراقية، والتي كان آخرها سيطرتها على قمة جبل خامتير في محافظة دهوك، فضلًا عن التمركز في العديد من المواقع العسكرية التي كان يستخدمها عناصر الحزب في فترات سابقة.
وتنظر أنقرة إلى الأهداف المتحققة من هذه العمليات، باعتبارها جزءًا من استراتيجية بعيدة المدى تشمل سوريا والعراق، ذات جوانب سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية، وظّفتها في العملية العسكرية الحالية التي تجري في سنجار ومخمور.
إذ تصارع تركيا من أجل تأمين حدودها الجنوبية مع العراق، والمنطقة الشمالية فيه تحديدًا، فإلى جانب الفوائد الأمنية والسياسية التي تسعى تركيا تحقيقها من العملية العسكرية الحالية، تولي تركيا البُعد الاقتصادي أهمية كبيرة، خصوصًا أنها تعيش اليوم أزمة اقتصادية صعبة، بسبب اضطراب السياسات المالية وتأثير جائحة كورونا.
كما أن هناك تنسيقًا استخباراتيًّا بين الجانبَين العراقي والتركي في مجال مواجهة الحزب، الذي عرقل تطبيق اتفاق تطبيع الأوضاع في سنجار الذي تمَّ الاتفاق عليه بين حكومة بغداد وأربيل في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ودخل في عملية تصعيدية ضد قوات الجيش العراقي في الآونة الأخيرة. ما يعني أن التهديد الذي يشكّله حزب العمال الكردستاني لتركيا، لا يقلّ أثرًا عن التهديد الذي يشكّله للعراق، إذ أصبح اليوم يمارس العديد من النشاطات التي تهدد الداخل العراقي، أبرزها تجارة المخدرات والاختطاف وعمليات التهريب العابرة للحدود.