تحولت تركيا في السنوات العشر الماضية إلى الجهة الأولى للفلسطينيين من كافة أماكن تواجدهم نتيجة ازدياد أعداد الطلبة الفلسطينيين الملتحقين بالجامعات التركية، وسهولة الحصول على تأشيرات الدخول والإقامة، وانهيار الأوضاع الأمنية والاقتصادية في عدد من الدول العربية، تزامنًا مع تزايدُ الدور التركي في قضايا المنطقة بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص، ما أتاح آفاقًا جديدة للعمل الشعبي والسياسي في تركيا.
تطوُّر الوجود الفلسطيني في تركيا
بدأ الطلبة الفلسطينيون في التوافد إلى تركيا منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، وتركّزوا في المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، بالإضافة إلى جامعات قبرص الشمالية التي بدأت منذ التسعينيات في استقبال أعداد كبيرة من القادمين من قطاع غزة والضفة الغربية والأردن، بفعل التطورات السياسية التي شهدتها تركيا والعالم وتحديدًا انقلاب فبراير/ شباط 1997 وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
استقرَّ قسم من هؤلاء الطلبة في تركيا، وتمكّنوا بفضل إتقانهم للغة التركية من تحقيق مستوى عالٍ من الاندماج، واتجه الجزء الأكبر منهم نحو العمل التجاري مستغلين بداية الانفتاح التركي على الأسواق العربية.
وبحلول العام 2004 بدأت محاولات تأسيس جالية فلسطينية خاصة بالمتواجدين في مدينة إسطنبول، وجرى تأسيس جمعية الصداقة التركية الفلسطينية كأداة قانونية تحرّكت تحت إطارها بعض التجمعات الفلسطينية في العاصمة التجارية، كما شهدت مدينة أنقرة محاولات تأسيسية مماثلة، لكن الخلافات الداخلية بين أبناء الجالية وقفت عائقًا أمام مساعي التطوير والتعزيز.
وبحلول العام 2011، بدأ الوجود الفلسطيني -كما العربي- بالتوسُّع عددًا ونوعًا، مدفوعًا بداية بموجات اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا والعراق، وترافقَ ذلك مع تطور نوعية الوجود الفلسطيني مع اتخاذ عدد من التنظيمات الفلسطينية لمدينة إسطنبول مركزًا ومقرًّا لها، ما انعكس على العمل المؤسساتي الذي شهد تطورًا نوعيًّا هو الآخر، معتمدًا على عدد من المؤسسات الطلابية والشعبية والخيرية ومؤسسات الدراسات والإعلام.
الفسيفساء الفلسطينية في تركيا
على مدار الـ 10 سنوات الماضية تضاعفَ عدد الفلسطينيين في تركيا، وفقًا لبعض التقديرات تجاوز عددهم حاجز الـ 30 ألف نسمة، ويتكون الوجود الفلسطيني في تركيا من مختلف أماكن تواجد الفلسطينيين في العالم، ويشكّل فلسطينيو سوريا النسبة الأكبر منهم، فوفقًا لتقديرات مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، يتجاوز عدد فلسطينيي سوريا في تركيا حاجز الـ 10 آلاف شخص، جاء أغلبهم من حلب ومخيماتها وريفها لقربها من الحدود التركية السورية، كما استقبلت تركيا أعدادًا كبيرة من مهجّري مخيمات الجنوب، مثل اليرموك وخان الشيح ومخيم درعا.
ويتركّز القسم الأكبر من هؤلاء في مدينة إسطنبول، وتحديدًا في الأحياء الفقيرة كاسينيورت وباجلار وافجلار واسنلر، كما تشهد مدن الجنوب التركي انتشارًا لهم كما هو الحال في مدينة كيلس وغازي عنتاب ومدينة مرسين.
ويعاني هؤلاء من إشكالات قانونية متعددة -كحال إخوانهم السوريين-، على رأسها المتعلقة ببطاقة الحماية المؤقتة وعدم حصول قسم كبير منهم عليها، أو عدم قدرتهم على السكن في إسطنبول حيث توفُّر فرص العمل نتيجة تسجيل إقامتهم في مدن أخرى.
وشهدت السنوات الماضية تزايدًا في أعداد الفلسطينيين القادمين من قطاع غزة المحاصر، وتنوّعت غاياتهم بدءًا من الدراسة، وتحديدًا بعد التوسع في المنح المقدَّمة من الحكومة التركية أو على حسابهم الخاص، كما استقبلت تركيا الآلاف من أبناء غزة الراغبين في الهجرة إلى دول أوروبا، إذ تمثّل تركيا محطة أساسية في طُرُق الهجرة، وأخيرًا استقرت فئة كبيرة للعمل في المهن المختلفة سواء الصناعية والخدماتية أو المهن الإعلامية والبحثية.
أما القادمين من الضفة الغربية المحتلة، فيغلب عليهم الطابع الطلابي أو الأشخاص المقيمين منذ فترة طويلة أو القادمين من أجل الاستثمار، وإلى جوار هؤلاء يبرز فلسطينيو العراق الذين استقرَّ جزء منهم في المدن التركية وتحديدًا في مدينة مرسين التي تسكنها عدد من العائلات، وشهدت السنوات الماضية توافد عدد كبير من العائلات الفلسطينية القادمة من الخليج العربي وتحديدًا من المملكة العربية السعودية، بعد الإجراءات الجديدة التي بدأت المملكة في اتّباعها مع الأجانب المقيمين.
شكّل هذا التنوع فرصة ذهبية للفلسطينيين للتعرُّف والتفاعل مع بقية المكونات الفلسطينية، فأصبح بإمكان الفلسطيني القادم من غزة التفاعل مع الفلسطيني القادم من الضفة ومناطق الـ 48، والتعرُّف إلى قضايا ومعاناة الفلسطيني السوري واللبناني، ما جعل تركيا بمثابة الوعاء الذي انصهرت فيه الفسيفساء الفلسطينية من شتى الأنحاء.
المؤسسات الفلسطينية في تركيا: نحو وجود فلسطيني فاعل
ساهمت عوامل عديدة في مأسسة الوجود الفلسطيني في تركيا، على رأسها الحضور القوي للفصائل الفلسطينية، وتحديدًا حركة حماس التي تطورت علاقاتها مع الدولة التركية منذ فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، وازدياد الدور التركي في المنطقة بعد العام 2011.
وتتنوّع ميادين عمل المؤسسات الفلسطينية في تركيا تبعًا لطبيعة الفئة المستهدفة، فعلى صعيد التجمعات الفلسطينية بشكل عام، تعدّ الجمعية التركية للتضامن مع فلسطين – فيدار من أهم المؤسسات الفلسطينية وأكثرها فعالية، وتنشط فيدار بشكل كبير في مدينة إسطنبول التي تمتلك فيها عددًا من المقرّات، أهمها مركز التدريب المقام في حي اسينيورت.
كما تنشط الجمعية في المدن التي تشهد تواجدًا قويًّا للجالية الفلسطينية كمرسين وغازي عنتاب، وتتنوع أنشطة الجمعية ما بين تقديم الدعم والمساعدات المادية والاجتماعية والقانونية للتجمعات الفلسطينية وإحياء المناسبات الاجتماعية؛ وعلى صعيد العمل الخيري تبرز جمعية خير أمة كمؤسسة فلسطينية تشمل خدماتها جميع المدن التركية، وصولًا إلى الشمال السوري ومخيماته.
وتبرز جمعية طلبة فلسطين “فودرين” كجهة فاعلة في العمل الطلابي الفلسطيني، تتنوع خدماتها الطلابية بين الجانب الاجتماعي، حيث قامت الجمعية خلال عيد الأضحى الماضي بذبح 51 أضحية في 32 مدينة تركية؛ والدعم المادي حيث قامت في شهر رمضان الماضي بتقديم مساعدات وصلت قيمتها الإجمالية إلى 221.900 ألف ليرة تركية، بالإضافة إلى ذلك تشرف الجمعية على تنفيذ مجموعة من الفعاليات والأنشطة الوطنية التي تصبّ في صالح تعزيز الرواية الفلسطينية، ونشرها لدى المجتمع الطلابي التركي والعربي.
الانقسام الداخلي
يعاني الوجود الفلسطيني من مجموعة من التحديات والإشكالات النابعة من مصدرَين: داخلي مرتبط بطبيعة الوجود الفلسطيني نفسه، وخارجي قادم من البيئة المحيطة؛ فعلى الصعيد الداخلي يبرز الانقسام السياسي ما بين حركتَي حماس وفتح كتحدٍّ وإشكالية انعكسا على المؤسسات الفلسطينية في تركيا.
فالاتحاد العام لطلبة فلسطين يعدّ من أهم مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية الشعبية التي تعرضت للتعطيل والتهميش، وتجلّى ذلك في هيئاته وكوادره، حيث آخر مؤتمر عامّ عُقد للاتحاد كان في مدينة بغداد قبل 31 سنة من الآن، ولفترة قريبة ترأّس الاتحاد فهمي الزعارير البالغ من العمر 51 سنة.
على صعيد الخارج، حالت سيطرة حركة فتح على الاتحاد دون أن يكون مجمعًا لكافة الطلبة الفلسطينيين، فغياب الإجراءات القانونية الصحيحة في تعيين رئاسته -لم تنتخب وعُيّنت مباشرة من السفارة- وتبعيته لحركة فتح، جعلا منه طرفًا وليس إطارًا يجمع كافة الطلبة.
وتظهر المشكلة ذاتها في جسم الجالية الفلسطينية في مدينة إسطنبول، فرغم أن المدينة تحتوي على ما بين 10 و12 ألف فلسطيني، إلا أن الجمعية العمومية للجالية الفلسطينية في آخر انتخابات نُظِّمت لم تتجاوز حاجز الـ 450 عضوًا، بالإضافة إلى الاعتبارات السياسية تبرز الاعتبارات الشخصية، كما هو الحال مع اتحاد رجال الأعمال واتحاد المستثمر الفلسطيني، فكلاهما يستهدف الفئة نفسها ويقدم أنشطة متشابهة.
كما تبرز القضايا القانونية كأهم وأبرز تحدٍّ يواجه الفلسطينيين في تركيا، وتحديدًا الفئات الأكثر ضعفًا كفلسطينيي سوريا والعراق والعمالة الفلسطينية، إذ تحول الترتيبات القانونية لهذه الفئات من ضمان وجود مستمر وثابت لهم، ذلك عدا عن قضايا العنصرية المتزايدة والاستحقاقات السياسية المقبلة.
وإلى جوار ذلك، شهدت السنوات الماضية تصاعدًا في النشاط الإسرائيلي الموجَّه نحو استهداف الوجود الفلسطيني في تركيا، خاصة في ظلّ تواجد كوادر وقيادات من حركة حماس، وتنوع النشاط الإسرائيلي من التحريض إعلاميًّا إلى محاولات التجنيد والتجسُّس، فخلال الشهور الماضية ألقت السلطات التركية القبض على شبكة من عملاء الموساد، نفّذت مجموعة من المهام المرتبطة بجمع المعلومات حول مؤسسات وشخصيات فلسطينية تتّخذ من تركيا مقرًّا لها.
ختامًا، إلى جوار المهمات الوطنية المطلوبة من الوجود الفلسطيني في تركيا، كالتواصل مع الشعب التركي ومؤسساته وتحشيدهما في سبيل دعم القضية الفلسطينية، تمرُّ تركيا بمرحلة انتقالية حسّاسة على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تستلزم من الوجود الفلسطيني أن يكون على قدر التحدي، بما يشمل توحيد الجهود في أطر وتجمعات قائمة على الشفافية والديمقراطية الحقيقيتَين، اللتين تكفلان استمرار العمل المؤسسي دون أن يكون مرتكزًا على أشخاص بعينهم، فالعمل المؤسسي وحده القادر على المرور بالوجود الفلسطيني إلى برّ الأمان بداية، وتمكينه من أداء مهامه الوطنية في بلد صاعد اقتصاديًّا وسياسيًا في منطقتنا العربية.