شوّهَت التحليلات الماركسية المشوَّهة وعينا وقد كان يجب أن تقودنا إلى صواب، فهي التي كشفت قبل غيرها التناقضات الاجتماعية التي قادت دومًا الحركات الاجتماعية في مطلبيتها الاجتماعية/ الوجودية، لكن ترحيل الصراع إلى منطقة التناقضات الثقافية بين حداثة مزعومة ورجعية مصطنعة، حرَفَت جهدًا كبيرًا عن مسار تحقيق العدالة الاجتماعية.
وقد عاش يسار عربي مزيَّف كثيرًا من هذا الإيهام بالتقدمية، وسيتبيّن لنا بثورة الربيع العربي بشكل لا يقبل الطعن، أن خطاب اليسار الحداثي هو خدمة لقوى الاحتلال الغربي لبلدان طمحت دومًا للحرية.
لقد مضى الزمن الذي كان فيه اليسار أحد تعبيرات الشعب الطامح للعدالة والحرية، لقد خان مبادئه ومواقعه وشعاراته الاجتماعية، لمّا أدمجته الدولة في قائمة المنتفعين بأعطياتها.
ووجد الإسلاميون أنفسهم منذ الإعلان عن وجودهم السياسي في موضع اتّهام أبدي، حتى انتهى الأمر بربط كل إسلامي بالإرهاب، ولاحقًا ربط كل مسلم متعبِّد بالإرهاب ومعاداة الحياة، وصار الإسلام مصنع إرهاب أبدي، وهذه حرب غربية لا مصلحة للشعوب فيها، لكنها كسرت جهد الإسلاميين.
لا نستبعد في المدى المنظور ونحن نقرأ وضعًا يتحرك وليس فيه ثوابت إيمانية (عقدية)، بل مطامع فردية يحرّكها طلب المصلحة، وهو قانون اجتماعي أقوى تأثيرًا من الإيمان العقائدي؛ أن يفعل بالإسلاميين ما فعل باليسار.. فهل ينجو الإسلاميون من الحفرة السياسية التي وقع فيها اليسار العربي، فيحافظون على موقع متقدِّم في قيادة حركة تحرر عربي تستأنف معركة آبائهم ضد المحتل؟
الحركات الاجتماعية موجات متتابعة
الإسلاميون هم آخر الموجات، وأولها كانت حركة التحرر الوطني، وقد مرَّ اليسار في مرحلة بين المرحلتَين عندما كان اليسار موضة عالمية تغري الشباب بمقاومة الاستعمار.
حركة التحرر الوطني كانت حركة اجتماعية ذات هوى استقلالي ثقافي واجتماعي، وكانت مطامحها بناء الدول وتنمية مجتمعاتها، عملية بناء الدول على أنقاض المرحلة الاستعمارية هذه، حوّلت النخب القائدة إلى نخب دولة، فحوّلت الدولة بمساعدة المحتل القديم نفسه إلى مغنم فردي، وانحازت ضد شعوبها فقمعتها فأعادت إنتاج حركة تحرر وطني داخلي تمزج بين مقاومة الدولة (الوطنية) ومقاومة المحتل الخفي، الساكن خلف النخب (وتُعتبر تونس مثالًا مدرسيًّا للحالة).
اليسار السبعيني كان طليعة تحرر وطني أو موجة تحرر ثانية ضد الدولة الوطنية ونخبها الخائنة للمشروع الأول، لكنه سرعان ما تحول إلى نخب دولة تعادي شعبها، وكانت بوابة الانحراف اليساري عبر طرح معادٍ للثقافة التاريخية لشعوبها.
هنا ظهر الإسلاميون كموجة ثالثة، تحارب على الجبهة الثقافية أولًا (جبهة الهوية)، ثم تطورت إلى الخطاب الاجتماعي (الجبهة الاجتماعية)، فامتلكت شرعية الكفاح الثقافي التحرري وشرعية الدفاع عن الفقراء.
وجب الانتباه هنا إلى المنحدرات الاجتماعية لليسار أولًا ثم للإسلاميين ثانيًا، فهُم في الأعمّ الأغلب أبناء الفقراء، ارتقوا جميعهم عبر مصعد التعليم الاجتماعي، لذلك إن احتمالات أن ينحرف الإسلاميون عن مشروعهم واردة، وهناك مؤشرات على ذلك ممّا سميناه “تبرجز” الإسلاميين أو انكشاف طموحاتهم الفردية للتحول إلى نخب دولة تندمج وتخون مشروعها المؤسس، أي مشروع التحرر الوطني.
مداخل الانحراف
المتابع للساحة السياسية العربية منذ انطلاق الربيع العربي، وخاصة متابع الحالة التونسية، يلاحظ اضطراب خطاب الإسلاميين وارتباك ممارساتهم، فهم واقعون تحت ضغوط كثيرة ومن جهات مختلفة وأحيانًا متناقضة.
المدخل الأول للانحراف هو النكوص إلى خطاب ديني تبشيري أو دعوي، يهتمّ فقط بتصحيح عقائد الناس (المغلوطة)، وقد كان هذا مشروع الإسلاميين عند النشأة، وعليه تربّت أجيال كثيرة، لكن الوعي بأن الربيع العربي لم يكن مشروع تديُّن بل مشروع تحرُّر، دفع الإسلاميين بعيدًا عن هذه الأفكار، فتخلّصوا من أثقال كثيرة وتحدّثوا عن فصل الدعوي عن السياسي.
وهنا انفتح مدخل آخر للانحراف، وهو ممارسة السياسة بهدف الاندماج في نخب الدولة، لا لقيادتها نحو التحرر بل لمسالمتها في ما هي عليه، ونيل وطر من غنائمها، وهو الباب الذي دخل منه اليسار ولم يخرج وفَقَدَ مشروعه التحرري.. هنا تُطرح أسئلة عن التموقع السليم، أين وكيف؟
كيف يمكن ممارسة السياسة دون الذوبان في مشروع حكم سابق الوجود، ولديه قدرة على استيعاب المعارض وتذويبه وفسخ هويته السياسية؟ ويقابل هذا سؤال آخر ممضّ ومزعج فكريًّا وتنظيميًّا: هل يمكن ممارسة السياسة دومًا من موقع المعارضة دون فرض بدائل حكم من داخل الدولة؟
كشفت تجربة السنوات العشر في تونس وفي مصر أن الإسلاميين كانوا الأحرص على بناء الديمقراطية، وتأسيس مشروع حكم مختلف عن تجربة الدولة الوطنية التي تحولت بسرعة إلى وسيلة احتلال لشعوبها، وجاء الانقلاب في تونس اختبارًا حقيقيًّا لكلِّ من زعم المشاركة في الديمقراطية، وقد نجح الإسلاميون وسقط التقدميون المزيفون إذ انكشف وجههم الانقلابي.
لم تكن مشاركة الإسلاميين في إدارة الدولة خالية من الأخطاء ويمكن نقدها بقوة، لكن لا يمكن بحالٍ التشكيك في حرصهم على سلامة المسار الديمقراطي، ولا الاستهانة بدورهم في حمايته من النكسات.
إن عدم جنوحهم إلى العنف ضد الانقلابات التي أخرجتهم من الحكم، علامة فارقة على إيمان حقيقي بالديمقراطية، وقد كلفهم ذلك الكثير لكنهم واقفون رغم الثمن في الموقع الصحيح ديمقراطيًّا.. هل هذا مؤشر على أنهم لن يعيدوا أخطاء اليسار الذي استوعبته الدولة وذوّبت هويته التحررية؟
الحلول في هوية جديدة
نهاية الإسلام الدعوي مؤشِّر ديمقراطي، فالناس يعرفون طُرُق المساجد دون الإسلاميين، ونرى الناس محتاجين إلى قيادة في اتجاه تحريرهم من الاحتلال المباشر والخفي الذي ما انفكّت قوى خارجية تمارسه بوسائط محلية، وأحيانًا بشكل مباشر ومفضوح (الحالة الليبية والسورية).. فهل يكون الإسلاميون هم هذه القيادة؟
هذه هوية جديدة ليست دينية، ولا يسارية ثقافوية، ولا قومية بالمعنى الشوفيني المبتذَل الذي مارسه أدعياء القومية العربية منذ الخمسينيات.
حتى الآن لا يبدو أن الإسلاميين واعون بهذا الدور، فلم يتبلوَرْ لديهم خطاب تحرر صريح، وهم ماكثون في منطقة حماية الديمقراطية التقليدية ظنًّا منهم أنها وحدها كفيلة بضمان سير المجتمعات نحو التحرر، ونرى هنا فجوة كبيرة بين المطلوب شعبيًّا والاستجابة السياسة من قبل الإسلاميين، فجوة تستدعي من يردمها للمرور بالديمقراطية من الشكلي إلى التحرري المؤسس.
حِرْص الإسلاميين (في التجربة التونسية) على الديمقراطية الشكلية، جعلهم يهادنون الفساد المستشري في جسد الدولة الموروثة من بن علي، وفي ظنهم أنه يمكن تثويرها من الداخل بوسائل الديمقراطية التقليدية.
لقد مكّنهم ذلك حتى اللحظة من حماية وجودهم كتنظيم سياسي، ولكنه أفرغهم من كل مشروع تأسيس، وفي غياب التأسيس تحوّلَ الوجود الحزبي إلى عبء على أصحابه، يشلُّ حركتهم ويكبّلهم بشروط تُملى عليهم فيخضعون.
وقد زاد الانقلاب في إهدار فرص كثيرة ووقت ثمين نحو تطوير ذواتهم ومشروعهم، وأراهم هنا يطرحون سؤالًا منهجيًّا عن نقطة بداية، خاصة في وضع دولي معادٍ لكل فكرة تحررية.
الخروج من جُبّة الإسلامي الداعية كان خطوة مؤسِّسة، وجب أن تتبعها فكرة ومشروع ينجزه إسلامي جديد، يقدِّم فكرة التحرر الوطني على كل ما سواها، فالحرية صنو الديمقراطية في الداخل، لن تُنجَزَ إلا بتحرر اقتصادي من الخارج المعادي، وهذا كلام عام ورومنسي وجب تحويله إلى برنامج سياسي يومي لتتبلور الفكرة في الشارع.
بعد 10 سنوات من مطالب التحرر والاستقلال والسيادة المغدورة، لا معنى لقول أحدهم إنه إسلامي ما لم يَقُد حركة تحرر وطني ضد عملاء الداخل وضد القوى الخارجية المحتلة.
كيف ومتى؟ فالتنظير سهل وممتع لكن التنفيذ يقتضي جهدًا عظيمًا، الدولة التي دافعَ عنها الإسلاميون حتى الآن ليست دولتهم، بل دولة المال الفاسد والطبقات المستفيدة منها، طبقات مناولة مع المحتلين المتتابعين على البلد.
في زمن سابق هرب اليسار من مواجهة هذه الدولة وتخلّى عن معركة التحرير الثانية أو الكبرى، والإسلاميون واقفون في هذه اللحظة التاريخية في موقع اليسار نفسه، قبل أن تذوِّبه الدولة في جوفها وتحوله إلى أداة احتلال ثقافي.
فإن لم يقرأوا تجربة اليسار مع الدولة ويتجنّبوا أخطاءه وهوانه، فإنهم سائرون على دربه، وسيكسبون بعض المواقع والمنافع ويظل مطلب التحرر مرفوعًا في انتظار قوم آخرين سيأتون حتمًا من خارج كل المشهد القائم، فالتحرر مطلب تاريخي وليس مطلبًا حزبيًّا أو فئويًّا.
ردود الإسلاميين على هذا الخطاب معروفة ويمكنني سردها الآن، ولكن التبرير بقوة الأعداء في الداخل والخارج لا يعفي من التفكير في المستقبل، التفكير الذي يؤسِّس لموقع جديد بمشروع جديد ليس فيه الدعوي التقليدي (فكر الحركة الدينية)، بل فكر حركة تحرر وطني اقتصادي واجتماعي (الثقافي سيأتي وحده).
ولذلك إن المشروع يظلُّ معلقًا في انتظار الخروج من وضع الهوان التبريري إلى وضع بناء مشروع تحرر يشتغل فيه الدين كمحفِّز ووسيلة لا كهدف في ذاته.
وأختم بخاطرة بسيطة، أردوغان التركي (حبيب الإسلاميين) لم يقف طويلًا عند كُتُب الغنوشي بل تجاوزها (وربما لم يطّلع عليها أبدًا)، فلم يعد إسلاميًّا (وقد يكون رجلًا مؤمنًا متديّنًا) وإنما قادَ حركة تحرر اقتصادي في بلاده، جعلته مفاوضًا فعّالًا حول مستقبل بلاده في اقتصاد عالمي ومعولم وكاسر لكل ضعيف.
في هذه اللحظة التاريخية بعد 10 سنوات من مطالب التحرر والاستقلال والسيادة المغدورة (وهو مشروع الربيع العربي الحقيقي)، لا معنى لقول أحدهم إنه إسلامي ما لم يَقُد حركة تحرر وطني ضد عملاء الداخل وضد القوى الخارجية المحتلة تحت صيغ كثيرة، منها العطف على الإسلاميين لتحويلهم إلى أداة احتلال جديدة لشعوبهم، نظير منافع سلطة تابعة وعميلة وبلا مشروع وطني.
هل يمكن تحويل الإسلام إلى مشروع تحرر وطني؟ هذه هوية الإسلاميين الجديدة، إن لم يلتقطوا إشارات المجتمع ومطالبه، سيكونون أعوان دولة فاشلة ويتمتّعون بنعيم الاحتلال كما تمتّع به بورقيبة وأعوانه القُصَّر.