ترجمة وتحرير: نون بوست
من مخبأهم في إفجيج في الصحراء، لم يكن بإمكان المهاجرين سوى رؤية أضواء بيضاء ساطعة في الأفق على الحدود الإيرانية. كانوا يتنفسون بصعوبة نتيجة الطقس البارد. قبل أسابيع، أنفق الكثير من الأفغان ما تبقى لهم من مدخرات على الطعام ليضطروا بعد ذلك لاقتراض الأموال من أقاربهم أملا في الهروب من الانهيار الاقتصادي في أفغانستان. وفي الوقت الحالي، يرون في عبور الحدود الإيرانية طوق نجاتهم حيث يتوفر العمل والمال والطعام.
أوضح نجف أخلاقي، البالغ من العمر 26 سنة، وهو يحدق في المهربين الذين يمشطون المنطقة تحت ضوء القمر بحثًا عن دوريات طالبان “لا خيار آخر أمامي لا يمكنني العودة”. وسرعان ما انتفض عندما سمع المهربين يصرخون مُحذّرين المجموعة للهرب.
منذ انسحاب القوات الأمريكية واستيلاء طالبان على السلطة، غرِقت أفغانستان في أزمة اقتصادية دفعت الملايين ممن يعيشون في فقر مدقع إلى حافة الهاوية. تراجع مستوى الدخل وتفشت المجاعة التي باتت تهدد حياتهم، وما زاد الطين بلة تجميد المساعدات التي تشتد الحاجة إليها بسبب العقوبات التي فرضتها البلدان الغربية على مسؤولي طالبان.
حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الشهر الماضي من أن “أكثر من نصف الأفغان يواجهون مستويات شديدة من الجوع”، مؤكدًا “أن الحياة بالنسبة للأفغان باتت جحيمًا متجمدًا”.
في ظل غياب بوادر الانفراج في الأفق في الوقت الحالي، فضّل مئات الآلاف من الأفغان الفرار إلى البلدان المجاورة. ووفقًا لباحثي الهجرة، فإن أكثر من مليون أفغاني من جنوب غرب أفغانستان سلكوا منذ بداية تشرين الأول/أكتوبر حتى نهاية كانون الثاني/يناير أحد الطريقين الرئيسيين المُعتدين في الهجرة إلى إيران. وحسب تقديرات منظمات الإغاثة، يعبر ما بين 4 آلاف إلى 5 آلاف أفغاني الحدود الإيرانية يوميًا.
مع أن الكثيرين من الأفغان يختارون مغادرة البلاد بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية، إلا أن احتمال استمرار حكم طالبان على المدى الطويل – بما تفرضه من قيود على النساء والحريات التي تنضاف إليها مخاوف الانتقام – زادت من إلحاحهم على الهجرة.
أوضح ديفيد مانسفيلد، الباحث في الهجرة الأفغانية: “سُجلت زيادة هائلة في عدد الأشخاص الذين يغادرون أفغانستان عبر هذا الطريق، لا سيما بالنظر إلى المشقة التي تنطوي على هذه الرحلة في أشهر الشتاء”. وحسب تقديراته، تضاعف عدد الأفغان الذين غادروا أفغانستان متجهين إلى باكستان ثم إيران بشكل يومي أربع مرات في كانون الثاني/ يناير مقارنة بالفترة ذاتها من السنة الماضية.
أثارت الهجرة الجماعية للأفغان مخاوف دول المنطقة والدول الأوروبية ويخشى السياسيون تكرّر سيناريو أزمة المهاجرين لسنة 2015 عندما طلب أكثر من مليون شخص، معظمهم من السوريين، اللجوء إلى أوروبا مما أدى إلى إثارة موجة غضب شعبوية عنيفة. ويخشى الكثيرون أن يؤدي ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الثلوج عن الطرق بحلول الربيع إلى تدفق موجة من المهاجرين الأفغان إلى حدود الاتحاد الأوروبي.
بهدف احتواء المهاجرين في المنطقة، تعهّد الاتحاد الأوروبي في الخريف الماضي بتقديم أكثر من مليار دولار في شكل مساعدات إنسانية لأفغانستان والدول المجاورة التي تستضيف الأفغان الفارين من بلادهم.
في خطاب ألقاه خلال اجتماع مجلس الأمن الدولي بشأن أفغانستان الشهر الماضي، أشار رئيس الوزراء النرويجي يوناس غار ستوره “نحن بحاجة إلى اتفاقيات والتزامات جديدة حتى نتمكن من مساعدة ودعم السكان الذين يمرون بفترة عصيبة”. وأضاف “ينبغي أن نبذل جهودا حثيثة لتجنب حدوث أزمة هجرة أخرى ودرء مصدر آخر لزعزعة الاستقرار في المنطقة وخارجها”.
في المقابل، لا تزال الجهات المانحة الغربية تكافح من أجل إيجاد آليات تُمكّنها من الوفاء بالتزاماتها الإنسانية تجاه الأفغان دون دعم حكومة طالبان الجديدة.
في الأشهر الأخيرة، ناشد مسؤولو طالبان المسؤولين الغربيين لتخفيف العقوبات التي تعصف بالاقتصاد الأفغاني من خلال التعهّد بتمكين الفتيات من الحق في التعليم وغيرها من الشروط التي سبق أن وضعها المجتمع الدولي لتقديم المساعدة. مع تدهور الوضع الإنساني في أفغانستان، أصدرت الولايات المتحدة بعض الإعفاءات من العقوبات وخصصت 308 ملايين دولار من المساعدات الشهر الماضي – ليصل إجمالي المساعدة الأمريكية للبلاد إلى 782 مليون دولار منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
لكن الخبراء يقولون إن تأثير المساعدات سيكون محدودًا في بلد يواجه انهيارًا اقتصاديًا. وإذا لم يتحرك المانحون الغربيون بسرعة أكبر لإنعاش النظام المالي، من المرجح أن يستمر الأفغان اليائسين في ظل تضاؤل فرص العمل في التطلع إلى الهجرة الخارج.
جالسًا القرفصاء بين مجموعة المهاجرين في الصحراء، كان أخلاقي مستعدًا لخوض هذه الرحلة المضنية: الزحف عبر خنادق ترابية يبلغ طولها قرابة ميل، ثم القفز فوق جدار حدودي يبلغ ارتفاعه 15 قدمًا تعلوه الأسلاك الشائكة واجتياز مسافة من الأراضي التي تحرسها قوات الأمن الإيرانية. وأكد أخلاقي أنه خلال الشهر الماضي عبر الحدود 19 مرة، لكنه تعرض في كل مرة للاعتقال والترحيل.
وقد اضطر أخلاقي، الذي كان ضابط شرطة في الحكومة السابقة، للاختباء في منزل أحد أقاربه خوفا من الإجراءات الانتقامية لطالبان. مع نفاذ مدخراته القليلة التي كانت تلبي احتياجات عائلته، انتقل من مدينة إلى أخرى بحثًا عن وظيفة جديدة. لكن فرص العمل كانت قليلة جدَا. لذلك قرر في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر التواصل مع مهربين في مقاطعة نمروز للهجرة إلى إيران.
قال أخلاقي “رغم خوفي من حرس الحدود الإيراني، إلا أنه لا يسعني مواصلة العيش هنا”.
حتى قبل سيطرة طالبان على السلطة، كان الأفغان يُقدّمون ثاني أكبر عدد من طلبات اللجوء في أوروبا بعد السوريين، وهم يُشكّلون أحد أكبر تجمع للاجئين وطالبي اللجوء في العالم حيث يقدر عددهم بحوالي 3 ملايين لاجئ يعيش معظمهم في إيران وباكستان.
فرّ الكثير من الأفغان عبر مقاطعة نمروز، وهي منطقة نائية في جنوب غرب أفغانستان تقع على تخوم إيران وباكستان وتمثل ملاذًا للمهربين منذ عقود. في عاصمتها زرنج، يتجمع الأفغان من جميع أنحاء البلاد في الفنادق التي يديرها المهربون، التي تصطف على الطريق الرئيسي، ويتبادلون القصص حول الرحلة الشاقة التي تنتظرهم حول أكشاك بيع الكباب.
في موقف للسيارات يقع في وسط المدينة يُعرف باسم “المحطة”، يتكدس الرجال في مقطورات الشاحنات الصغيرة المتجهة إلى باكستان بينما يبيع صبية صغار النظارات الواقية وزجاجات المياه وأصواتهم التي تنادي “من يريد ماء” تختنق بضجيج السيارات المزعجة والصيحات الغاضبة لرجال الصرف الذين يبادلون الأوراق النقدية الأفغانية بالتومان الإيراني.
واقفًا في طابور لتسلق مقطورة شاحنة صغيرة، كان عبدول البالغ من العمر 25 سنة قد وصل في اليوم السابق قادمًا من مدينة قندوز، المركز التجاري في شمال أفغانستان الذي مزقته الحرب الصيف الماضي أثناء غارة طالبان. عندما هزّ دوي قذائف الهاون المدينة، اضطر لإيقاف نشاطه التجاري. وبعد سيطرة طالبان على المدينة، أضحى متجره فارغًا من المؤن بينما لا يملك الأفغان سوى القليل من المال لتوفير بعض الأساسيات مثل الطعام والدواء. مع مرور الأشهر، اضطر عبدول لاقتراض المال لتوفير قوت أسرته ليغرق في الديون. في نهاية المطاف، لم يجد سبيلا سوى السفر إلى إيران لتحسين وضعه المادي.
قال عبدول، الذي طلب من صحيفة “نيويورك تايمز” استخدام اسمه الأول فقط خوفًا من تعرض عائلته للانتقام، “لا أريد مغادرة بلدي، لكن ليس أمامي خيار آخر. وإذا استمر الوضع الاقتصادي على هذا النحو، لن يكون لنا مستقبل”.
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، سعى مسؤولو طالبان المحليون إلى الاستفادة من الهجرة الجماعية من خلال تنظيم أعمال التهريب المربحة. في المحطة، يجلس مسؤول ينتمي لحركة طالبان في سيارة فضية اللون صغيرة لجمع ضريبة جديدة – تبلغ 1000 أفغاني أو ما يعادل 10 دولارات – من كل سيارة متجهة إلى باكستان.
في البداية، فرض مسؤولو طالبان ضرائب على طريق رئيسي آخر في المدينة كان يسلكه المهاجرين، في رحلة ينظمها مهربون يعبرون خلالها الصحراء ثم يقفزون فوق الجدار الحدودي مباشرة إلى إيران. ولكن بعد شائعات راجت في أيلول/ سبتمبر بأن أحد المهربين اغتصب فتاةً، تراجعت حركة طالبان عن تأمين هذا الطريق وركزت بدلا من ذلك على هذا الطريق الصحراوي. لكن هذه الجهود لم تردع المهربين.
مسرعًا عبر طريق صحراوي في حوالي منتصف الليل، انطلق أحد المهربين الذي فضّل أن تقتصر هويته على الحرف الأول فقط من اسمه “سين” بسبب الطبيعة غير القانونية لعمله بينما تصدح الموسيقى في السيارة. وعندما اقترب من منزله الآمن، أطفأ الأضواء الخلفية لسيارته لتجنب اقتفاء أثره.
يتطلب نقل الأشخاص كل ليلة اتباع خطة دقيقة: في البداية، ينبغي عقد صفقة مع حرس حدود إيراني من ذوي الرتب المتدنية للسماح لعدد معين من المهاجرين بالعبور. بعد ذلك، يطلب من بقية المهربين إحضار المهاجرين من الفندق الذي ينزلون به إلى منزل آمن في الصحراء ويُنسق مع شريكه في العمل لمقابلة المجموعة على الجانب الآخر من الحدود. بمجرد غروب الشمس، يقود سيارته رفقة بقية المهربين لساعات لاستطلاع ما إذا كانت دوريات طالبان في المنطقة – وبمجرد التأكد من أن الطريق آمن – يُنقل المهاجرون من المنزل الآمن إلى الحدود.
قال المهرب “سين” ضاحكا “ليس لدينا بيت، بيتنا هو سيارتنا التي نتجول بها طوال الليل بالقرب من الحدود – يومًا ما ستطردني زوجتي من البيت”.
يُمثّل عبور الحدود العقبة الأولى التي ينبغي على الأفغان تجاوزها. ومنذ استيلاء طالبان على السلطة، كثّفت كل من باكستان وإيران عمليات الترحيل مُحذّرتين من أن اقتصادهما الهشّ ليس بوسعه التعامل مع تدفق المهاجرين واللاجئين.
وفقًا لمنظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، فإن أكثر من 500 ألف أفغاني دخلوا باكستان أو إيران بشكل غير قانوني تم خلال الأشهر الخمسة الأخيرة من سنة 2021 ترحيلهم إلى أفغانستان أو عادوا إليها بشكل طوعي خشية الترحيل المحتمل.
كانت نيجار البالغة من العمر 35 سنة جالسةً على السجادة الزرقاء الخشنة لأحد الفنادق. قبل ليلتين، كانت قد تسلقت الجدار الحدودي إلى إيران مع أطفالها الستة في محاولة يائسة لبدء حياة جديدة في هذا البلد. لعدة أشهر، استنفدت مدخرات عائلتها الضئيلة لشراء الخبز والحطب للبقاء على قيد الحياة. عندما نفذ هذا المال، باعت معزاتها الوحيدة من أجل هذه الرحلة.
لكن بمجرد أن وطأت أقدامهم الأراضي الإيرانية، تفطن لهم مجموعة من حرس الحدود وأطلقوا الرصاص عليهم في الظلام الدامس قبل بزوغ الفجر. نادت نيجار أطفالها بينما كانت منبطحة على الأرض وحينها تيقنت أن ابنيها الصغيرين مفقودين.
بعد مرور يومين عصيبين، عثر مهربون في إيران على ولديها وأعادوهما إليها في زرنج. وخوفًا من فقدان أولادها مجددا، لا تزال في حيرة من أمرها بشأن ما إذا كانت ستحاول عبور الحدود مرة أخرى. في هذا الصدد، أوضحت نيجار “أشعر بالقلق، ماذا لو لم أتمكّن من الوصول إلى إيران؟”.
المصدر: نيويورك تايمز