ترجمة وتحرير: نون بوست
كان موقف فلاديمير بوتين تجاه الغرب خلال أزمة أوكرانيا الأخيرة جريئا على غير العادة، حتى بالنسبة له، لكن لعل سبب ثقته يتجاوز القوة العسكرية أو التبجح الفارغ. على مدى السنوات العديدة الماضية، أعاد الرئيس الروسي هيكلة اقتصاد بلاده لغرض محدد وهو مقاومة الضغوط المالية الغربية.
لقد خفضت روسيا بشكل كبير من استخدامها للدولار لتحدّ بذلك من نفوذ واشنطن، كما قامت أيضا بتخزين احتياطيات ضخمة من العملات وقلصت ميزانياتها لعزل اقتصادها وخدماتها الحكومية، كما أعادت توجيه التجارة وسعت إلى استبدال الواردات الغربية. قال ألكسندر جابيف، الزميل البارز في مركز كارنيغي في موسكو، إن المسؤولين الاقتصاديين الروس “فخورون للغاية بالعمل الذي أنجزوه لجعل الاقتصاد الروسي أكثر حصانة أمام العقوبات، ولديهم أسباب وجيهة لذلك”.
يأتي هذا التحول، وهو من بين أكثر الأمثلة دراماتيكية لما يُعرف باسم “مقاومة العقوبات” في جميع أنحاء العالم، بعد مرور أقل من ثماني سنوات على العقوبات التي سلّطها الغرب على موسكو بعد ضم شبه جزيرة القرم في سنة 2014 التي أغرقت روسيا في اضطرابات اقتصادية وسياسية.
تساعد الدفاعات الاقتصادية الروسية المعززة في تفسير سبب استعداد بوتين الآن لتوغّل عسكري آخر في أوكرانيا على الرغم من التكلفة الدائمة التي خلفها تحركه في شبه جزيرة القرم. مع ذلك، فإن تغييراته توفر فقط حماية ضد العقوبات وليست بمثابة درع لا يمكن اختراقه. ومن شبه المؤكد أنه سيتم تطبيق الإجراءات الأكثر صرامة التي هي قيد الدراسة في واشنطن، مما قد يتسبب في أضرار مدمرة، على الرغم من إمكانية إلحاق الضرر أيضًا بالاقتصادات الغربية في هذه العملية.
الحصن الروسي
من أهم التحصينات الاقتصادية لموسكو احتياطي بنكها المركزي من العملات الأجنبية. تحتفظ جميع الدول بالعملة الأجنبية لتغطية معاملات التجارة والديون، ويمتلك معظمها الدولار الأمريكي بسبب استقراره وقبوله الواسع، وعادة ما تقوم البلدان التي تعتمد على صادرات الطاقة بتخزين المزيد من العملة الأجنبية أجل مواجهة تقلبات الأسعار.
منذ سنة 2015، تمكنت روسيا من خلال تحويل عائدات النفط والغاز من توسيع احتياطياتها من العملات الأجنبية لتبلغ 631 مليار دولار، أي ما يعادل ثلث قيمة الاقتصاد الروسي بأكمله. ولدى روسيا رابع أكبر احتياطي من هذا النوع في العالم، هذا إلى جانب أحد أكبر الاحتياطيات البترولية. في هذا السياق، كتب آدم توز، المؤرخ الاقتصادي بجامعة كولومبيا: “هذا ما يمنح بوتين حريته في المناورة الاستراتيجية”.
تستطيع موسكو استخدام هذه الاحتياطات للحفاظ على دعم الروبل في حالة التعرض لجولة أخرى من العقوبات، ويمكنها أيضا استخدامها لتغطية الميزانيات العمومية للحكومة والشركات. ومن خلال تقليص النفقات، تمكن بوتين من خفض مستوى الديون الإجمالي ليظل أقل من ثلثي احتياطيات روسيا من العملة الأجنبية. كتب توز: “هذا التوازن المالي القوي يعني أن روسيا لن تواجه أبدا الأزمة المالية والسياسية الشاملة ذاتها التي هزت الدولة في سنة 1998”.
بشكل أساسي، يمثل الدولار، الذي كان مهيمنًا في السابق، 16 بالمئة فقط من احتياطيات العملة الروسية اليوم، التي استبدلتها موسكو باليورو والرنمينبي الصيني والذهب. وتعد هذه الخطوة من بين الخطوات العديدة التي اتخذتها موسكو من أجل الحد من هيمنة الدولار، ما من شأنه أن يقلل قدرة واشنطن على خنق الاقتصاد الروسي. كما أعادت روسيا هيكلة ديون الشركات في البلاد لتكون بالروبل بدلا من الدولار.
في حديثه عن العقوبات التي تستهدف النخبة، قال جابيف “في الواقع تعزز العقوبات تماسك النظام لأن من في النخبة لا يتوقعون اليوم عودة العلاقات مع الغرب إلى الوضع الطبيعي”.
في الوقت ذاته، حوّلت روسيا بعضا من تجارتها إلى آسيا. وبعد سنة 2014، عندما فرضت روسيا قيودا تجارية على الجبن الأوروبي ردا على العقوبات، استبدلت موسكو الواردات المفقودة ببدائل محلية. وعلى الرغم من أن العالم سخر من الجبن الروسي وجبن البارميزان المصنوع من زيت النخيل بدلا من الحليب، يقول العديد من المستهلكين الروس اليوم إنهم راضون عن هذا التغيير. وعلى الرغم من أنها قد تبدو هامشية، أظهرت حادثة الجبن مدى مرونة موسكو في مواجهة نقص السلع الاستهلاكية.
تعلم بوتين كيفية الحفاظ على ولاء النخبة السياسية والتجارية المهمة للغاية في روسيا (الذين يبقونه في السلطة بالطريقة ذاتها التي يُبقي بها الناخبون القادة الديمقراطيين في السلطة) حتى في ظل العقوبات. فعلى سبيل المثال، ربما يكون السياسيون الروس أو الأوليغارشيون الذين فقدوا شققهم في لندن أو استثماراتهم الأجنبية بعد سنة 2014 قد حصلوا على عقد بناء أو عقد طاقة في وطنهم كتعويض.
وفي حديثه عن العقوبات التي تستهدف النخبة، قال جابيف “في الواقع تعزز العقوبات تماسك النظام لأن من في النخبة لا يتوقعون اليوم عودة العلاقات مع الغرب إلى الوضع الطبيعي”.
الاعتماد على الطاقة
يُنظر أحيانًا إلى اعتماد روسيا الاقتصادي الكبير على صادرات النفط والغاز على أنه نقطة ضعف قد يستغلها الغرب، لكن يقول بعض المحللين إنه حتى لو كان هذا صحيحا، يمكن القول إن التحصينات الاقتصادية الروسية تستطيع عكس هذا التأثير وجعله في صالح روسيا. حسب إيما أشفورد، التي تدرس قضايا الأمن الأوروبي في مجموعة أبحاث المجلس الأطلسي، “لم تتمكن أوروبا من حل مسألة اعتمادها على الغاز الروسي”.
وفي ظل الميزانية الوطنية المشددة لروسيا، سيتمكن الكرملين من تغطية النفقات طالما أن سعر خام النفط ليس أقل من 44 دولارا للبرميل، وذلك وفقا للتقديرات الدولية. سعر السوق الحالي هو ضعف هذا السعر، مما يسمح لموسكو بإبقاء الخدمات الحكومية والميزانيات العسكرية قيد التشغيل حتى لو حدث انخفاض حاد. قدرت أشفورد أن احتياطيات العملة الروسية يمكن أن تعوّض خسارة صادرات الطاقة مع أوروبا “لعدة سنوات”. في المقابل، قد تدوم مخزونات الطاقة في أوروبا بضعة أشهر فقط، بينما الولايات المتحدة بصفتها مستهلك الطاقة الرائد في العالم، معرضة بشدة للصدمات في أسواق النفط والغاز أيضًا.
علاوة على ذلك، تُعد روسيا مُصدّرًا عالميًا رائدًا للنحاس والألمنيوم والسلع الأخرى التي تعتمد عليها الصناعات العالمية هذا إلى جانب القمح. لذلك تعتقد موسكو أن العالم يحتاج إليها أكثر من حاجتها إليه. وأشارت أشفورد إلى أن “ما يحصل هو جزء مما يحرّك حسابات الكرملين”.
لا تزال عرضة للخطر
ربما لم يتوقع بوتين أن تسلط على بلاده أشد الإجراءات مثل التي تجري مناقشتها الآن. وقال إدوارد فيشمان، أحد كبار مسؤولي سياسة العقوبات سابقا في إدارة أوباما: “إن العقوبات المطروحة في الوقت الحالي، وبالتحديد عقوبات الحظر الكامل على البنوك الروسية الكبرى، سيكون صداها أقوى من تلك التي اقتُرحت في سنة 2014”.
هذا الأسبوع، كتب جورج بيركس، المحلل في مجموعة بيسبوك إنفاستمنت الاستثمارية، أنه في ظل هذه القيود وحتى مع وجود احتياطيات العملة الروسية، “أصبح إنفاق تلك الاحتياطيات فعليا لدعم الروبل والحفاظ على مستويات المعيشة الروسية أمرا صعبًا”. ومن شأن تهديد الرئيس بايدن بمنع البنوك الروسية من إجراء المعاملات القائمة على الدولار منعا تاما أن يحد من قدرة البنوك على إجراء أي أعمال تجارية خارج البلاد.
شبّه بيركس التأثير الذي تخلّفه العقوبات على المدنيين الروس بتأثير عملية قصف في زمن الحرب، موضحًا أن “المستوردين سيفشلون في الدفع لمورديهم، ولن يجمع المصدرون أي عائدات جديدة، بينما ستصبح تلبية المستويات العادية من الطلب على السلع الأساسية مهمة مستحيلة”. وأضاف فيشمان أنه “لا يوجد أي شيء يمكن لروسيا أن تفعله لحماية نفسها من هذه النتائج”.
قال المحلل المقيم في موسكو، جابيف، أن تهديد واشنطن بمنع صادرات التكنولوجيا الفائقة قد فاجأ بوتين. ستحد هذه الخطوة من قدرة روسيا على إنتاج معدات صناعية أو عسكرية متطورة، مما قد يمنع أيضا الروس من شراء الهواتف الذكية أو الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية المماثلة، اعتمادا على كيفية تنفيذ هذه القرارات. ومن المتوقع أن يناقش بوتين هذه المسألة خلال محادثات ستجمعه يوم الجمعة مع الزعيم الصيني شي جين بينغ. في المقابل، لا يُعتقد بعد أن الصناعات الصينية عالية التقنية كافية لتحل محل المكونات الأمريكية.
حسابات أم ثقة زائدة؟
إن صانعي السياسة الغربيين في مواجهة لغز محيّر: هل يمضي بوتين قدمًا رغم التهديدات الغربية التي تكشف ضعف درعه الاقتصادي، لأنه يعتقد أن هدفه يستدعي تحمل هذه التكاليف أم أن تهديدات الغرب واهية؟
قال فيشمان، مسؤول العقوبات السابق: “لا أعتقد أن تهديدات عقوباتنا تتمتع بمصداقية كبيرة بسبب سجلنا الحافل”. ومثل هذه الإجراءات الصارمة المسلّطة على اقتصاد كبير ومتكامل عالميًا مثل الاقتصاد الروسي لن يكون لها مثيل في الواقع. ومن المرجح أن تُلحق الصدمات الأوسع نطاقًا ضررًا بالدول الغربية أيضا، التي تتعامل حكوماتها بالفعل مع الضغوط الاقتصادية، لكن هناك مؤشرات على أن الكرملين يستعد لمواجهة الأسوأ. خلال الأسبوع الماضي، توقف البنك المركزي الروسي بالكامل عن استخدام عائدات النفط الزائدة لشراء الدولارات.
أثار فيشمان موضوعا آخر، وهو أن بوتين قد لا يدرك مدى هشاشة وضع بلاده، مما يزيد من خطر تسببه في إغراق أوروبا في حرب وصراع اقتصادي يهدف إلى إحباطها. وقال فيشمان: “يبدو أن لديهم ثقة مفرطة في أنفسهم”، مضيفًا أن الأفراد المقربين من بوتين ربما يخبرونه فقط بما يريد سماعه، وه “لا يعتقد أن الكرملين مستعد لما قد يصيبه”.
المصدر: نيويورك تايمز