في بلد يقبع 90% من سكانه تحت خط الفقر، تفتقر جل بيوته للدفء في صقيع الشتاء ويكلّف وضع طبق يحوي اللحم على موائده راتب شهر كامل، ما الذي يعنيه أن يكون لك سيارة مر على إصدار طرازها 14 عامًا؟ ما الذي يعنيه أن تملك عقارًا ولو في مدينة مهدمة؟ ما الذي يعنيه أن يكون أحد أفراد أسرتك مقيمًا خارج البلاد لاجئًا لم يحصل بعد على عمل؟
يعني ذلك وفق القرار الجديد الذي أصدره نظام الأسد أنك “مستبعد من الدعم”.
سياسة الدعم.. من الإذلال للحرمان
أن تدعم حكومة ما بعض المواد لمواطنيها، يعني أن توفرها لهم جميعًا – على تفاوت أحوالهم المادية – بسعر أقل من المتداول في السوق الحرة. شاعت سياسة الدعم الحكومي في سوريا منذ عقود، وشملت المشتقات النفطية (البنزين – المازوت – الغاز) بالإضافة إلى المواد الاستهلاكية (الخبز – السكر – الرز)، وقد ازداد اعتماد الكثير من السوريين على السلع المدعومة مع تدهور الأوضاع المعيشية في السنوات الأخيرة، قبل أن يستنزف نظام الأسد موارد البلاد واقتصادها في حربه، ويبدأ بتغيير ملامح هذا الدعم شيئًا فشيئًا.
إذ تزايدت أولًا أسعار السلع، ثم تحددت الكميات المخصصة للفرد، مع ابتداع وسيلة لتنظيم توزيعها عبر ما يسمى البطاقة الذكية، وقد سبق لـ“نون بوست” أن نشر تقريرًا يستعرض بشكل مفصل آلية التوزيع عبر البطاقة الذكية وما جلبته من معاناة أضيفت لمأساة السوريين الاقتصادية، من حيث إنها قننت استهلاكهم للمواد الاستهلاكية والمشتقات النفطية المدعومة، وصعبت وصولهم إليها حدّ الإذلال.
ليصار اليوم إلى حرمان شرائح من المجتمع من هذا الدعم بشكل صريح، وفق الإجراء الذي صحا السوريون على بدء تنفيذه دون سابق إنذار، صبيحة 1 فبراير/شباط من العام الحاليّ، الذي لا يغير آلية التوزيع أو يقلل كمية المواد الموزعة كما جرت العادة، إنما يحدد مستحقي هذا الدعم، بمعايير أظهرت الشعب السوري المنهك منذ 11 عامًا، كما لو أنه غارق في الرفاهية.
سيتوجب عليهم شراء السلع بالسعر الحر، الذي يبلغ على سبيل المثال وفيما يتعلق بمادة الخبز 1300 ليرة للربطة بدلًا من 200، أي 6 أضعاف السعر المدعوم تقريبًا
الأسر التي تملك أكثر من سيارة ومالكو السيارات السياحية التي سعة محركها أكثر من 1500cc طراز 2008 وما فوق، ومالكو أكثر من منزل في نفس المحافظة ومالكو العقارات في المناطق الأغلى سعرًا، إضافة إلى المغتربين الذين مضى على مغادرتهم البلد أكثر من عام، صنفت هذه المعايير الشريحة التي تحققها على أنها “الأكثر ثراءً”، وفق تصريحات معاونة وزير الاتصالات والتقانة في حكومة النظام، في ظل غياب قاعدة إحصائية بيانية تقيّم وضع المستفيدين وفق مستويات الدخل، ليُستبعد من الدعم بناءً على ذلك ما يقارب 600 ألف مستخدم للبطاقة الذكية، بغرض إيصال الدعم لمستحقيه فقط.
سيتوجب على هؤلاء شراء السلع بالسعر الحر، الذي يبلغ على سبيل المثال وفيما يتعلق بمادة الخبز 1300 ليرة للربطة بدلًا من 200، أي 6 أضعاف السعر المدعوم تقريبًا، كما أشار مسؤول في وزارة التجارة أنه لا يمكن البيع خارج البطاقة ولا يمكن للمواطن الحصول على السلع من السوق السوداء بحجة عدم وفرة المواد، وأنهم بحسب تعبيره الوحيدون المخولون بإدارة النقص.
يدعو ذلك للتساؤل عن الفائدة المرجوة من هذا الإجراء إذا كان الشراء بالسعر الحر لن يشفع للمستبعدين من الدعم، ويعفيهم من انتظار دورهم للحصول على السلع وترقب الرسائل النصية التي تأذن لهم بشراء كمية محددة.
غليان في الشارع السوري.. حتى الموالي
تفاقمت جدلية الاستبعاد مع الأخطاء التي صاحبت تنفيذه، فكثير ممن لا يحققون المعايير وجدوا أنفسهم مستبعدين بأسباب مستحيلة، كسفرهم خارج البلاد وهم لم يغادروا محافظتهم حتى.
بدوره أعلن وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عمرو سالم، أن “الوزارات والنقابات المختلفة أرسلت البيانات التي جمعتها عن الأشخاص الذين سيُستبعدون من الدعم إلى وزارة الاتصالات، التي قامت بدورها بمقاطعة البيانات وتحديد المستبعدين من الدعم”، على حد قوله، موضحًا أن ما حصل هو “أخطاء تقنية وليس قرارًا”.
واعتبر الوزير أن “كما في كل جمع للبيانات، تحصل أخطاء نتيجة قِدم بعض البيانات وعدم تجديدها”، مضيفًا “وزارة الاتصالات خصصت موقعًا لتلقي طلبات الاعتراض من المواطنين الذين أُزيل عنهم الدعم بشكل خاطئ”، واعدًا بإعادة الدعم إلى تلك البطاقات.
ووفقًا لصحيفة الوطن التابعة للنظام فإن “عدد الاعتراضات المقدمة في أول يوم من تطبيق قرار رفع الدعم، تجاوز 200 ألف اعتراض وصلت عبر نظام الشكاوى الذي تكلم عنه الوزير.
لكن السوريين لم يقتنعوا بأن هذا مجرد خطأ، فأخطاء كهذه يمكن أن تصلحها الحكومة دون الرجوع إلى اعتراضات المواطنين، وهنا يقول الأستاذ أحمد وهو مدرس في إحدى الثانويات: “طالما أن الخطأ حاصل منكم فيجب عليكم إصلاحه، ولا أفهم لماذا نرسل اعتراضًا إلى الحكومة إن كان لديها كل البيانات وتتعامل على أساس إلكتروني في جميع السلع، هذا يعني أنها تستطيع تدارك الموقف، لكن أن يرسل المواطن اعتراضه ما هو إلا تنويم له ولطلبه من الحكومة التي تسرق حقه”.
ويضيف الأستاذ أحمد لـ”نون بوست”: “الوضع في البلاد قبل رفع الدعم كان غير مقبول.. فكيف وقد رفع الدعم عنا”، ويشير إلى أن راتبه يبلغ 130 ألف ليرة سورية (أي ما يقارب 40 دولارًا)، واليوم أصبح ثمن ربطة الخبز 1300 ليرة، مضيفًا أنه في هذه الحالة سيضع ثلث راتبه شهريًا ثمنًا للخبز حال اشترى كل يوم ربطة واحدة، أما في حال شراء ربطتي خبز يحتاج إلى ثلثي راتبه.
السيد أبو طارق يعمل في مجال طلاء البيوت (دهان)، يقول لـ”نون بوست” إنه من خلال عمله لا يستطيع سد حاجته وكفايته الشهرية من المستلزمات المهمة، ليأتي قرار قطع الدعم اليوم ويزيد الطين بلة، ويشير إلى أن القرار شمله كونه يملك سجلًا تجاريًا لكن هذا السجل التجاري غير مفعل ولا يستفيد منه، ويعزو عدم الاستفادة منه لوقوع دكانه في منطقة تعرضت للقصف، فنزح أبو طارق وما زال القيد مسجلًا بالدولة.
يشير أبو طارق إلى أنه بالأصل لا يستفيد كثيرًا من البطاقة الذكية في بعض السلع، فطول وقت عمله لا يسمح له بالوقوف في الطوابير، مثلًا إذا أراد استبدال جرة الغاز يحتاج إلى 6 ساعات تذهب من وقت عمله، لكن في بعض السلع يضطر للتعامل بالبطاقة الذكية كالخبز وغيره، وبحسب ما قال أبو طارق فإنه سيعمل على إغلاق سجله التجاري ويقدم اعتراضًا لإعادة تفعيل بطاقته وإرجاعه لخانة الدعم.
أبو طارق ليس الوحيد الذي سيوقف سجله التجاري، فقد ذكرت تقارير صدرت في الأيام الأخيرة أن آلاف السوريين سارعوا خطاهم نحو أمانات السجل التجاري في مديريات التجارة الداخلية، بهدف شطب سجلاتهم التجارية وذلك بعد قرار حكومة النظام استبعادهم من الدعم الحكومي.
وقال مصدر في مديرية التموين بدمشق” “منذ أول يوم لقرار رفع الدعم وهو 1 فبراير/شباط، يأتي يوميًا مئات المواطنين لإلغاء سجلاتهم التجارية، لتعود لهم الاستفادة من الدعم”.
أثارت معايير الاستبعاد من الدعم – البند المتعلق بامتلاك السيارة بشكل خاص – حفيظة الكثيرين أيضًا، بمن فيهم مناصرو نظام الأسد، فقد صرحت نائبة عميد كلية الإعلام نهلة العيسى – التي اشتهرت بشدة تأييدها لرأس النظام – أنها تسدد أقساط سيارتها (من طراز 2009) منذ 12 عامًا، وأنها بعد استبعادها من الدعم، ستنفق لشراء الوقود كل راتبها الذي لا يتجاوز 200 ألف ليرة (بما يعادل 50 دولارًا) شهريًا، في إشارة منها إلى أن هذا المعيار مجحف ولا يعبر عن حقيقة الوضع المادي. يذكر أن نحو 47% من مالكي السيارات استبعدوا من الدعم، ما سينعكس عبئًا إضافيًا على حياة الأسر السورية التي بالكاد تسير.
وفي سياق متصل، طالب عضو مجلس الشعب في النظام السوري، محمد زهير تيناوي، باستبعاد الوزراء ورؤساء الحكومة السابقين من الدعم، واصفًا قرار رفع الدعم عن بعض شرائح المجتمع في سوريا بأنه “جاء بشكل اعتباطي، وغير قانوني لكونه لم يعرض على المجلس”.
وأشار عضو المجلس إلى أن “هذا القرار ليس قرارًا عاديًا ولا يجوز أن يصدر عن الحكومة وحدها أو فريقها الاقتصادي، لأن فيه مخالفة لدستور البلاد ولأنه أيضًا يحتاج إلى مؤازرة وتأهيل.. إنه قرار بحجم الوطن يغير بشكل كبير نظام الدولة المنظم، المعتمد على مبادئ وأسس خطها دستور البلاد ورسم معالمها الحزب ومنطلقاته النظرية”.
كما اجتمع عدد من الأهالي في ساحة مدينة شهبا في السويداء، اعتراضًا على قرار رفع الدعم، حاملين صور أبنائهم الذين خسروهم في الخدمة الإلزامية والدفاع الوطني، وشارك في الوقفة نساء ورجال متقدمون في السن وأطفال صغار، كما أبدى المشاركون بالوقفة الاحتجاجية غضبهم من القرار، وناشدوا رأس النظام بشار الأسد بإنصافهم وإلغاء قرار رفع الدعم عنهم الذي أصدرته “الحكومة الظالمة”، إن كان يُقدر تضحيات أبنائهم.
على الرغم من كل الطلبات والاعتراضات، فإن حكومة النظام السوري أكدت تمسكها بقرار رفع الدعم، وبحسب المصادر فإن الحكومة مستعدة فقط “لدراسة الاعتراضات وإعادة الحق لأصحابه”
وعلى جانب آخر، في المحافظة نفسها، حذرت “حركة رجال الكرامة” المعارضة للنظام، من أن “القرارات الأخيرة التي أصدرتها حكومة النظام برفع الدعم عن فئات من المواطنين هو عمل حكومي ممنهج، يهدف إلى تهجير الشعب السوري وتجويعه”، مشيرة إلى أن “سياسة صناعة القرار في سوريا منفصلة عن الواقع، وهناك تعامٍ واضح من مدعيي الوطنية في أجهزة الدولة”.
وأوضح بيان صدر عن الحركة أن “القرارات التي تمس أساسيات المعيشة لمعظم فئات الشعب السوري المنهك أصلًا، هي خرق واضح لمواد الدستور وأبسط مبادئ العقل وقوانين العادلة”، موضحًا “هذه القرارات سيكون لها آثار سلبية خطيرة”، وحذرت الحركة من “حالة الاحتقان التي تمر بها البلاد التي تنذر بتفجر الأوضاع، وذلك لأنها نتيجة حتمية للسياسات الممنهجة التي تعمل ضد مصالح الشعب”.
وأكد بيان الحركة أن “الحكومات المتعاقبة تسرق أموال الشعب، بحجة رفد الخزينة العامة للدولة، عبر رفع الضرائب والرسوم الجمركية التي وصلت لمبالغ خيالية، بالإضافة إلى رفع أسعار المحروقات بشكل متتالي”.
إلى ذلك وعلى الرغم من كل الطلبات والاعتراضات، فإن حكومة النظام السوري أكدت تمسكها بقرار رفع الدعم، وبحسب المصادر فإن الحكومة مستعدة فقط “لدراسة الاعتراضات وإعادة الحق لأصحابه”، مشيرةً إلى أن “أخطاء البيانات لبعض الأشخاص لا يعني أن الخطأ في مشروع رفع الدعم بحد ذاته”.
وأضافت “رفع الدعم عن غير المستحقين ضرورة اقتصادية وما كانت الحكومة لتصدره في هذه الظروف إلا لكونه حاجة في ترتيب أولويات الإنفاق الحكومي ومساعدة الأكثر فقرًا”، وعن اقتراح وقف القرار مؤقتًا لفترة محددة يتم فيها إصلاح البيانات قال المصدر: “عملية إصلاح البيانات ودراسة الاعتراضات بدأت فعلًا ولا ضرورة لتجميد أو إيقاف القرار والمواطن سيحصل على حقه حكمًا”.
يضيق نظام الأسد الخناق على معيشة الشعب السوري الذي – وبعد أن سُلب حقه وكرامته – بات يحيا بالخبز وحده، فهل سيسلبه الأسد اليوم رغيف خبزه مرسخًا معناته عوضًا عن إيجاد حلول لتخفيفها؟ وهل نحن على أبواب مجاعة ستقضي على من بقي حيًا على الأرض السورية؟