ترجمة وتحرير: نون بوست
بينما العالم منشغل بمتابعة بوادر الحرب التي تلوح في الأفق في أوروبا و”أولمبياد بكين 2022″ الذي نظمته الصين رغم تهم الإبادة الجماعية والجائحة التي لا يبدو أن نهايتها قريبة، فإن آخر الآمال بتشكيل دولة ديمقراطية عربية ناجحة في الشرق الأوسط يتلاشى. فقصة النجاح الحقيقية الوحيدة من الربيع العربي، التجربة التونسية، تنجرف إلى هاوية الاستبداد وسط تجاهل الولايات المتحدة لما يحدث.
في تموز/ يوليو الماضي، عندما أقال الرئيس قيس سعيّد رئيس الحكومة وحل البرلمان وألّب الجيش ضد خصومه السياسيين، كان المجتمع الدولي عمومًا متحفظا بشأن تفاؤله بأن يعيد سعيّد السُلطات التي استولى عليها. ورغم التحذيرات من أن الرئيس التونسي ينفّذ “انقلابًا”، فضلت إدارة بايدن تصديق مزاعمه.
بعد ما يقارب سبعة أشهر، لم يعد هناك مجال للتمني. فقد مدّد سعيّد حالة الطوارئ التي لا تتجاوز مدتها 30 يومًا عدة مرات. وهو يسعى للاستيلاء على السلطة القضائية، وهو ما يتضح من حكم غيابي صادر في كانون الأول/ ديسمبر يقضي بسجن الرئيس السابق منصف المرزوقي أربع سنوات. كما أمر رجال أمن يرتدون الزي المدني باعتقال وزير عدل سابق كجزء من حملته القمعية ضد حزب النهضة – المعارض الرئيسي – وبقية الأحزاب المعارضة السياسية الأخرى.
ورد في تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية مؤخرًا أن الجيش التونسي، الذي يحكم سعيد قبضته عليه، يحاول الآن بشكل روتيني إدانة ومعاقبة المدنيين بمن فيهم النشطاء السياسيين والصحفيين كجزء من حملة الرئيس لقمع المعارضة وحرية التعبير. أمر الوزراء الذي عينهم قيس سعيّد قوات الشرطة بإنهاء مهام هيئة مكافحة الفساد الحكومية. ويسعى سعيّد إلى إحكام قبضته بشكل فعّال على كل أذرع السلطة وتفكيك النظام التونسي القائم على الشمول السياسي والضوابط والتوازن بين السلطات والذي ظل يعمل رغم ما يشوبه من فوضى.
وقع إيقاف قرض طلبته تونس بمليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي وتجميد مساعدة بنية تحتية بقيمة 500 مليون دولار من مؤسسة تحدي الألفية إلى تونس
عندما طرح سعيّد “خارطة الطريق السياسية” الجديدة في كانون الأول/ ديسمبر، رحّبت وزارة الخارجية الأمريكية بها. لكن ما لم يكشفه سعيّد في خطته هو اعتزامه الإشراف على اختيار المسؤولين المكلفين بصياغة الدستور الجديد، الذي سيحدد القواعد الأساسية للانتخابات المقرر إجراؤها في كانون الأول/ ديسمبر. إذا لم يصبح قيس سعيّد ديكتاتورًا يتمتع بسلطة مطلقة على الحكومة حتى اللحظة الراهنة، فهو في طريقه إلى ذلك.
صرّح السيناتور كريس مورفي (ممثل الحزب الديمقراطي عن ولاية كونيتيكت)، الذي سافر إلى تونس والتقى بسعيد في أيلول/ سبتمبر، “كانت تونس مهد الربيع العربي وخير دليل على الحظوظ الوافرة لنجاح الديمقراطية، حتى في بلد يحظى فيه الإسلاميون بقاعدة شعبية كبيرة. نحن في الوقت الحالي في مواجهة رئيس شبه ديكتاتوري وحالة عدم يقين حقيقية بشأن الطريق التي يسير فيها هذا البلد”.
وقال مورفي إن الوقت قد حان لتحذير سعيّد وبلاده من أن علاقة الولايات المتحدة بتونس ستتدهور بشكل كبير إذا لم يُغير مساره. حظيت تحركات سعيّد بزخم كبير بين التونسيين في السنة الماضية، لكن هذه الشعبية تلاشت بشكل مطرد بعد أن بات المواطنون يدركون أن خطوات سعيّد الحاسمة لم تضع حدًا للأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد مثلما وعدهم. كما أشار مورفي إلى أن هذا يمنح الولايات المتحدة بعض النفوذ وفرصة للتدخل.
على خلفية ذلك، وقع إيقاف قرض طلبته تونس بمليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي وتجميد مساعدة بنية تحتية بقيمة 500 مليون دولار من مؤسسة تحدي الألفية إلى تونس. كما سعت وزارة الخارجية الأمريكية إلى حجب بعض أموال الدعم العسكري، بينما هدّد الكونغرس بخفض أو إلغاء المساعدة الاقتصادية الأمريكية لتونس ما لم يشهد المناخ السياسي في تونس تحسنًا. ومن جانبه، صرح مورفي “الناس يحبونه لأنه لم يعدهم بمكافحة الفساد فحسب وإنما أيضا بإنعاش الاقتصاد، لكن لا يمكنه النجاح في ذلك دون دعم الغرب”.
من الواضح أن واشنطن مجهدة وهذا ما يفسر عزوفها عن خوض جولة أخرى من ترسيخ القيم الديمقراطية في دول الشرق الأوسط
يؤيد بعض المشرعين، مثل النائب الجمهوري جو ويلسون، فرض عقوبات على المسؤولين التونسيين الذين يشاركون في الحملات القمعية. في هذا السياق، أوضح ويلسون “لسوء الحظ، لم تأخذ الإدارة الأمريكية هذه القضية على محمل الجد، حتى أنها في بعض المناسبات أشادت بنظام سعيّد رغم ادعائها دعم أجندة مؤيدة للديمقراطية”. قد تؤدي العقوبات إلى معاداة سعيّد أكثر لواشنطن بدلاً من إقناعه بالابتعاد عن المسار المؤدي إلى الاستبداد. لكن موقف الحكومة الأمريكية بشأن تونس لا يتعلق فقط بها.
هناك اعتقاد متزايد في جميع أنحاء الشرق الأوسط بأن إدارة بايدن لم تكن جادة عندما تعهدت بجعل ملفات حقوق الإنسان على رأس أولويات أجندة سياستها الخارجية ووضع حد للصراع المحموم بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية. وقد تجاهلت إدارة بايدن إلى حد كبير سياسات بعض الأنظمة الاستبدادية العربية في بلدان مثل مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وجميع المخاوف الدولية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان التي يقع ارتكابها في تلك البلدان.
تعتقد سارة هوليوينسكي، مديرة مكتب “هيومن رايتس ووتش” بواشنطن، أننا “نشهد نهجًا يعطي أولوية للمخاوف الأمنية ويتجاهل قضايا حقوق الإنسان”. وفي الواقع، تعتبر تونس شريكًا أمنيا مهما. لكن التاريخ يُظهر أن الديكتاتوريات الاستبدادية على المدى الطويل تولد المزيد من عدم الاستقرار والتطرف، وتساهم في جعل هؤلاء الشركاء الأمنين أسوأ بكثير من البلدان الديمقراطية التي تشهد حالة من الفوضى السياسية.
من الواضح أن واشنطن مجهدة وهذا ما يفسر عزوفها عن خوض جولة أخرى من ترسيخ القيم الديمقراطية في دول الشرق الأوسط. لكن إذا لم تحزر واشنطن تقدما في المنطقة، فإنها تتخلى بذلك عن تطلعات الملايين وتدفع المنطقة إلى فوضى أعمق ودائرة عنف لا نهاية لها ستصل تداعياتها في نهاية المطاف إلى أراضيها.
المصدر: واشنطن بوست