أبريل/نيسان 2019، أعلنت شركة فيسبوك، قبل أن تصبح “ميتا” نيتها تدشين عملة رقمية ذات طبيعة خاصة، وحددت لها عامًا إضافيًا للإعداد، بحيث تخرج إلى النور وتكون جاهزة للتداول بحلول يناير/كانون الثاني 2021.
مر الموعد المحدد، وبحلول الأول من فبراير/شباط من هذا العام، أعلن القائمون على المشروع تفكيكه تدريجيًا وبيع أصوله بثمن بخس لمنافسين آخرين، في صدمة لكل من وضع آماله على المشروع الجديد، من المستثمرين أو من دعاة التمرد على المنظومة المالية التقليدية.. فكيف حدث ذلك؟
إرهاصات المشروع
قبل الإعلان عن التفكير في طرح المشروع رسميًا، لوحظ نشاط مختلف في عملية الانتقال المهني من الشركات الأخرى إلى فيسبوك، التي بدأت بدورها تدشن هياكل إدارية داخلية لا تتعلق بمجال التكنولوجيا المالية وتطوير المدفوعات فقط، وإنما بالعمل على إعداد بنية تحتية رقمية مستعارة من مجال العملات المشفرة كذلك.
أمكن لمس ذلك بوضوح حينئذ في استقدام شركة فيسبوك أسماء بارزة من منافسين عالميين مثل ديفيد ماركوس الذي كان رئيسًا تنفيذيًا في عملاق الصيرفة الإلكترونية “باي بال”، مع دمجه لاحقًا في منصب جديد في فيسبوك هو رئيس قسم “البلوك تشين”.
بالنسبة للمهتمين بالعملات الرقمية المشفرة، فإن مصطلح “بلوك تشين” أو السلاسل المغلقة يعد أحد أبرز المصطلحات الأساسية في فهم آلية عمل تلك العملات، فبالبلوك تشين ببساطة هي التقنية التي تسمح لـ”بيتكوين” وغيرها من العملات المشابهة أن تظل بعيدة عن أي سلطة مركزية، متاحة للأفراد، وفي مأمن من عمليات الاختراق الخارجي للمنظومة.
بمرور الوقت، أفصح مسؤولون في فيسبوك عن المقومات الأساسية لمشروع طرح العملة الجديدة، التي تدور حول تطور عصر المدفوعات الافتراضية، بالعملات الرقمية غير التقليدية، وبالأخص في ظل الإقبال الكبير على عملة “بيتكوين” تحديدًا، وهي تلك المقومات التي أصقلتها أيضًا تبعات جائحة كورونا على المستوى التقني.
التبشير بالمشروع
بالنظر إلى ما سبق، فإنه قد يكون من المفهوم التسابق على الدخول إلى مجال العملات الرقمية المشفرة من جانب الشركات، وليس الأفراد فقط، لكن السؤال كان: ما الذي يمكن أن تقدمه عملة فيسبوك في ظل الإقبال والنجاح الكبيرين لعملة “بيتكوين” فعلًا إضافة إلى بعض العملات الأخرى مثل “إيثيريوم”؟
لن يكون المشروع مقتصرًا على فيسبوك وحدها كذلك، فبالإضافة إلى القوة الذاتية الملموسة في فيسبوك، فإن العملة – وفقا للمخطط حينئذ – كان يفترض أن تكون مدعومة من 100 كيان مالي
أجاب مسؤولو فيسبوك عن هذا السؤال الوارد من المتابعين والمتخصصين بشكل ملحوظ حينئذ، إجابة تعتمد على 3 عوامل أساسية ستساعد، وفقًا لهم، في جذب المستخدمين الجدد لعملة فيسبوك الرقمية، التي ستقدم ميزات نسبية مقارنة بأي مشروع آخر.
تمتلك شركة فيسبوك بالفعل بنية مدفوعات افتراضية داخلية هائلة، ساهمت هذه البنية – بمرور الأعوام – في محافظة الشركة على متوسط أرباح سنوي من “الإعلانات” لا يقل عن 40 مليار دولار، بخلاف القيمة السوقية الضخمة للشركة التي تصل إلى 500 مليار دولار، مع الأخذ في الاعتبار تقلبات سعر السوق، ووصول عدد المستخدمين شهريًا إلى نحو 3 مليارات مستخدم.
لن يكون المشروع مقتصرًا على فيسبوك وحدها كذلك، فبالإضافة إلى “القوة الذاتية” الملموسة في فيسبوك، فإن العملة – وفقًا للمخطط حينئذ – كان يفترض أن تكون مدعومة من 100 كيان مالي عملاق عالميًا، على رأسهم ڤيزا وماستر كارد وباي بال وسبوتيفاي.
وضعت هذه الشركات بدورها نواة اتحاد عرف في وقت مبكر باسم “Libra Association” في سويسرا لتدعم العملة الجديدة ماليًا، ولكي يصبح العالم – بمعنى آخر وفقًا لمحللين – محكومًا من تحالف شركات التكنولوجيا والمدفوعات، بدلًا من البنوك المركزية التابعة للدول.
وفي نفس الوقت، فإن العملة الجديدة ستتفادى عيوب العملات التقليدية والعملات الرقمية المشفرة معًا، إذ ستستمر فلسفة التداول البعيدة عن المراقبة المركزية إلى حد كبير، مع حل مشكلات التقلب السعري والبطء في المعاملات وارتفاع أسعار التحويلات، وذلك من خلال ربط العملة بسلة من العملات الرئيسية على رأسها الدولار الأمريكي.
وصف ديفيد ماركوس الذي ترقى في مناصب أكثر نفوذًا في مشروع عملة فيسبوك على نحو سريع جوهر تلك العملة بكلمات قليلة مبشرًا بها حينئذ، قائلًا: “هي عملة مستقرة، بتغييرات منخفضة، وتضخم منخفض، ومخزن جيد للعملة، وسيط جيد للتبادل”.
أين المشكلة؟
تعرض المشروع إلى نقد لاذع من الفنيين الذين رأوا، على سبيل المثال، أن وصف العملة الجديدة بالثبات السعري من القائمين إليها، في معرض المقارنة التفضيلية بالعملات الرقمية المشفرة المتروكة لتقلبات السوق، غير دقيق، بالنظر إلى كونها مربوطة بالدولار، الذي قد يتعرض إلى عوامل خارجية تؤثر على قيمته أيضًا.
لكن أبرز الانتقادات التي تعرض إليها المشروع في صميم مشروعيته من الأساس كانت قادمة من المؤسسات المالية المركزية على مستوى العالم، وبالأخص في الولايات المتحدة وأوروبا، وبعض ممن وصفوا بـ”مستثمري العملات الرقمية من القطاع الخاص”.
بدأت الهيئة المصرفية الأوروبية بدورها في طرح فكرة إمكانية تعديل التشريعات المنظمة للعملات الرقمية المشفرة، بحيث يظل التحكم بيد البنوك المركزية لا الشركات الكبرى
في هذا السياق، يقول الخبير المالي روب إندرله نصًا: “إعلان فيسبوك طرح عملة رقمية مشفرة مستقرة أصاب الجميع بالذعر، وقد أكدت الهيئات المنظمة مرارًا أنها لا تثق في كيان فيسبوك على وجه مخصوص”.
تركزت المخاوف الغربية من عملة فيسبوك الرقمية الجديدة على جملة من العناوين الرئيسية التي طالبوا التحالف المسؤول عن هذه العملة بمعالجتها، وهي: التأثير السلبي على الاستقرار المالي العالمي، واحتمالات استخدام النظام الجديد في الالتفاف على العقوبات الغربية، وعمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، بالإضافة إلى ملاحظات عن أمن المستخدمين.
أبرز المؤسسات الغربية التي وقفت حجر عثرة أمام المشروع كانت: هيئة الرقابة على الأسواق السويسرية FINMA وبنك التسويات المالية BIS ومجلس الاستقرار المالي المؤلف من أكبر البنوك المركزية على مستوى العالم FSB.
وفي سبتمبر/أيلول 2020، أي قبل الموعد الأول لطرح العملة بثلاثة أشهر، بدأت الهيئة المصرفية الأوروبية بدورها في طرح فكرة إمكانية تعديل التشريعات المنظمة للعملات الرقمية المشفرة، بحيث يظل التحكم بيد البنوك المركزية لا الشركات الكبرى.
محاولة إرضاء المنظمين
لم تنجح “ليبرا” بصيغتها الأولى في التأثير على الكيانات المركزية التقليدية في أمريكا وأوروبا التي من شأنها أن تعطي الضوء الأخضر للمشروع، ما أدى إلى تأجيل طرحه أكثر من مرة، وصولًا إلى عزوف القائمين على المشروع عن التصريح بميعاد محدد لطرح العملة وبنيتها التكنولوجية من محافظ رقمية ومنصات مساعدة.
في محاولة لإرضاء تلك الكيانات، أعلن القائمون على المشروع إدخال تغييرات جذرية، من وجهة نظرهم، كي يُسمح للعملة بالمرور، على رأسها تغيير مسمى العملة من “ليبرا” إلى “ديم” (Diem)، وتغيير مسمى المحفظة التابعة لها من “كاليبرا” إلى “نوڤي فاينانشيال”.
ترافقت تلك التغييرات مع تغييرات في بنية العمل، على غرار التخلي عن هدف ضم 100 شركة كبرى إلى التحالف المؤسس في جنيف، والاكتفاء بعدد 27 شركة من كبريات الشركات العالمية في مجالات التكنولوجيا والدفع والعملات المشفرة.
بطبيعة الحال، أدى ذلك إلى إعادة صياغة عملية التمويل المطروحة مسبقًا للمشروع، إذ كان من المستهدف أن تقوم كل شركة من الـ100 كيان بتبني ما يعادل 10 مليون دولار من قيمة المشروع التي ستمثل في النهاية مليار دولار كغطاء نقدي للعملة المستقرة.
كما حدث انفصال جزئي عن فيسبوك، إرضاءً للكيانات الغربية التي تتشكك في الشركة، بالتوازي مع اتخاذ إجراءات تقنية تقلل من جوهر الاعتماد على تقنية “بلوك تشين” تماشيًا مع معايير القانون المالي المحددة من البنوك المركزية.
تحفظ المسؤولون الماليون الغربيون على تلك التعديلات، واصفين إياها بعدم الكفاية
وصف ستيوارت ليفي الرئيس التنفيذي لـ”ديم” تلك التعديلات مؤمِلًا على دورها في دفع المشروع إلى الإمام قائلًا: “كان الاسم الأصلي مرتبطًا بإعادة تقديم مبكرة للشركة، التي لم تلق بدورها استحسانًا لدى المنظمين. باللاتينية يعني الاسم الأخير، بداية جديدة، وهو ما يرمز إلى الجوهر الجديد للمشروع”.
الفشل في إرضاء الجميع
سبق الإعلان عن تلك التعديلات التي أدخلها القائمون على المشروع تخارجُ شركات كبرى من التحالف قبل طرح العملة، وهي التي كان يعول عليها فيسبوك أصلًا لجذب ثقة المستخدمين، مثل فيزا وباي بال، وهو ما كشف بدوره عن تصدعات داخلية في التحالف من جهة، وأدى إلى التفكير في مدى إمكانية الوفاء بتغطية المبلغ المقرر غطاءً نقديًا للعملة من جهة أخرى.
وفي نفس الوقت أيضًا، تحفظ المسؤولون الماليون الغربيون على تلك التعديلات، واصفين إياها بعدم الكفاية، حتى اشتهر تصريحٌ رسمي يكثف وجهة النظر الأوروبية في هذا الصدد على لسان وزير المالية الألماني أولاف شولتس الذي صار مستشارًا للبلاد خلفًا لميركل وهو: “إن الذئب في ثوب خروف لا يزال ذئبًا”، ما يعني أن الصيغة الجديدة فشلت في إقناع الطرفين.
بلغة يملأها الأسى، صرح ستيوارت ليفي ملقيًا باللوم في تعثر المشروع على الجهات المنظمة قائلًا: “اتضح بعد مناقشات طويلة مع السلطات الأمريكية أن المشروع لن يمكنه أن يتقدم أكثر من ذلك”، وهو ما تُرجم عمليًا في بيع الأصول الرقمية للمشروع إلى بنك منخرط في مشروع منافس يحمل اسم “Silvergate” بقيمة تناهز 200 مليون دولار أمريكي.
بهذه الخطوة، يقول المحللون إن مشروع العملة الرقمية الخاص بفيسبوك أجهضه تمامًا المنظمون الغربيون الذين لم يكونوا ليسمحوا بتأسيس بنية تحتية تسحب البساط من تحت نظامهم الحاليّ، وبناءً عليه ستتفرغ فيسبوك إلى العمل على مشروع “ميتافيرس” الذي غيرت على أساسه هوية الشركة واسمها العام الماضي.