في إحدى ليالي نوفمبر/تشرين الثاني الصيفية، شعر “محمد” ذو الـ60 عامًا، بألم شديد في كليته، صاحبه صراخ مدوٍ أيقظ جيرانه من النوم، لم يتحمل أكثر من دقائق حتى قرر وزوجته وشقيقه الأكبر اللجوء إلى الطبيب الذي يبعد عن قريته التي يقطن بها في محافظة الشرقية بقرابة 15 كيلومترًا، وبعد 45 دقيقة تقريبًا كان محمد وعائلته في عيادة استشاري الباطنة المشهود له بالكفاءة بين أبناء منطقته، الذي لم يتردد فورًا في تشخيص الحالة: أزمة في الكلية اليمنى ويحتاج إلى غسيل فورًا، وعلى وجه السرعة حولهم إلى أقرب مستشفى حكومي.
بعد أقل من 10 دقائق، وصلوا إلى مستشفى أولاد صقر المركزي، حيث دخل شقيق المريض مهرولًا إلى المستشفى الذي بدا خاويًا من الأطقم الطبية إلا من ممرضة واحدة وعامل البوفيه، وبالسؤال عن طلب عاجل لإجراء غسيل كلى للمريض الجالس في السيارة، كان الجواب صادمًا: “دكتور مركز الكلى مش موجود”.
هنا صرخ شقيق المريض وزوجته وزوجة ابنه التي كانت ترافقهم: “إزاي مفيش دكتور لوحدة غسيل كلوي متكاملة؟ معانا مريض بيموت”، وكان الجواب: “مفيش غير طبيب واحد بس في المركز وطبعًا ميقدرش يقعد 24 ساعة دون راحة، ذهب لأخذ قسط من الراحة في منزله وسيعود في الثامنة صباحًا”.
هنا جاء أحد الأطباء المقيمين في المستشفى وحاول إدارة الأزمة بإعطاء “محمد” محلول به بعض الأدوية المسكنة حتى أشرقت شمس اليوم التالي ليأتي الطبيب ويجري المريض أول عملية غسيل كلوي له، ذاق فيها ما ذاق من الألم بعد ساعات طويلة من المعاناة بسبب عدم وجود طبيب بديل.
وعلى بعد 45 كيلومترًا من منزل “محمد” تسكن “نجلاء” ربة المنزل التي تعرضت لأزمة قلبية حادة لتتوجه على الفور إلى أقرب وحدة صحية لها في القرية التي تجاورها، لكن للأسف كانت الوحدة بلا طبيب أيضًا، فقط ممرضة واحدة ورفضت استقبال الحالة، لتتوجه بعدها إلى مستشفى بني عبيد بمحافظة الدقهلية، ليتعامل معها طبيب غير مختص في ظل عدم وجود استشاري قلب في ذاك التوقيت، وكانت النتيجة أن تفاقمت الحالة التي لم تنتظر طويلًا حتى تم نقلها إلى مستشفى المنصورة العام في اليوم التالي.
“محمد” و”نجلاء” حالتان من بين عشرات آلاف الحالات التي تعاني يوميًا من نقص الكوادر الطبية والخدمات الصحية المقدمة في المستشفيات الحكومية رغم زيادة مخصصات وزارة الصحة في الموازنات السنوية خلال الأعوام الأخيرة، الأمر الذي دفع للبحث من أجل الوقوف على وجود هذا العجز الذي ينفيه بعض المسؤولين، ومظاهره الواضحة للجميع وأسبابه الحقيقية وتأثيره على حياة ملايين المرضى ثم أخيرًا.. من المسؤول عنه؟
عجز كبير في أعداد الأطباء
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد شهدت المستشفيات الحكومية تراجعًا كبيرًا خلال السنوات العشرة الأخيرة بلغت نسبتها 55%، وفسر البيان هذا الانخفاض الكبير بتحويل مستشفيات التكامل إلى وحدات رعاية أساسية (وحدات صحية).
بل إن هناك بعض المحافظات على مستوى الجمهورية تعاني من عجز شديد في عدد المستشفيات الحكومية بها قياسًا بعدد سكانها، فمثلًا محافظة المنيا التي يتجاوز عدد سكانها أكثر من 6 ملايين نسمة، بها مستشفى واحد لكل 172 ألف مواطن، كما أن هناك محافظات بأكملها لا يوجد بها أكثر من 5 مستشفيات مثل محافظة مطروح وتعدادها أكثر من نصف مليون مواطن.
نفس البيانات من ذات الجهة الحكومية التي تعد الكيان الوحيد الرسمي المخول له إصدار الإحصاءات والتقارير، كشفت انخفاضًا شديدًا في أعداد الأطباء منذ 2014 تحديدًا، بنسبة تتجاوز 65% من قوة الأطباء العاملين في المستشفيات الحكومية، فيما زادت إلى حد ما حجم هيئات التمريض والجهات المعاونة.
يتجاوز الأمر في بعض الأحيان خطوط الخطورة الحمراء، ففي محافظة الأقصر (جنوب مصر) التي يتجاوز تعداد سكانها 1.3 مليون نسمة، بها اختصاصي تخدير واحد فقط في المستشفيات الحكومية، هذا بجانب أن هناك أكثر من 1800 قرية بها مئات الوحدات الصحية دون طبيب واحد.
كشفت وزيرة الصحة المصرية هالة زايد هذا العجز الواضح في الكوادر الطبية حين أشارت إلى أن أكثر من 65% من أطباء مصر يعملون خارج البلاد، وهي النسبة التي يعتبرها استشاري أمراض الجهاز الهضمي عماد عبد الحميد، لا تعبر عن الواقع، لافتًا إلى أنها أكبر من ذلك بكثير، قائلًا: “أكثر من 95% من دفعتي يعملون خارج مصر، في الخليج وأوروبا، ولا يفكرون في العودة”.
وبحسب دراسة أخيرة للمكتب الفني التابع لوزارة الصحة فإن الأطباء العاملين فعليًا في القطاع الصحي لا يتجاوز عددهم 82 ألف طبيب، يشكلون نسبة 38% فقط من إجمالي الحاصلين على تراخيص مزاولة المهنة البالغ عددهم 212.8 ألف طبيب.
وبينما يشل العجز في عدد الأطباء حركة المستشفيات الحكومية، يشهد القطاع الخاص زيادات غير مسبوقة، فقد ارتفع عدد المستشفيات خلال السنوات العشرة الأخيرة بنسبة 60%، فيما زاد عدد الأطباء في نفس الفترة بنسبة تتجاوز 115%، مع الوضع في الاعتبار القفزات الجنونية في أسعار الخدمة الصحية المقدمة في تلك المستشفيات التي لا تناسب فئتي محدودي ومتوسطي الدخل في مصر اللتين تشكلان أكثر من 90% من إجمالي عدد السكان.
هجرة الأطباء
استنادًا إلى تصريح وزيرة الصحة فهناك أكثر من 65% من أطباء مصر يعملون بالخارج، ولعل هذا هو السبب المباشر للعجز الواضح في عدد الأطباء في المستشفيات الحكومية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الرقم قد يكون الأقل قياسًا بمصادر أخرى تشير إلى أن الرقم الحقيقي قد يصل إلى 90% من إجمالي عدد الأطباء الذين خرجوا من بلادهم للعمل في دول أخرى.
إلى جانب الهجرة، يقول أشرف سالم، طبيب في أحد مستشفيات لندن، إن انخفاض رواتب الأطباء المصريين دفع شريحةً واسعةً من الأطباء إلى الهجرة، فكيف لطالب تفوق في الثانوية العامة وحصل على أعلى الدرجات والتحق بكلية القمة الأولى أن يحصل في النهاية بعد 6 سنوات دراسة في كلية الطب و3 سنوات خدمة في الجيش كطبيب وسنة امتياز، على أقل من 100 دولار شهريًا؟!
ويوضح سالم أن الطبيب في لندن الذي لم تتجاوز خبرته الأعوام الخمس يتقاضى راتبًا لا يقل عن 2000 دولار بما يعادل 20 ضعف نظيره في المستشفيات المصرية، فيما يبلغ راتب الاستشاري قرابة 3500 دولار أي 18 ضعف ما يتقاضاه نظيره المصري الذي لم يتجاوز راتبه 200 دولار.
الراتب ليس وحده سبب الهجرة كما يشير الطبيب المصري، وإنما التدريب، ففي مصر لا تدريب يذكر ولا تأهيل علمي جيد على حد وصفه، حتى سنة الامتياز التي من المفترض أن يتلقى فيها الخريج تدريبًا عمليًا على أيدي كبار الأطباء من الاستشاريين لتأهيله للعمل فيما بعد يخرج منها دون استفادة، حيث يجد نفسه مسؤولًا عن وحدة صحية أو قسم في مستشفى، لينتهي العام دون أي خبرة إلا بالمجهود الذاتي، هذا بخلاف إساءة استخدام طبيب الامتياز في مسائل إدارية لا علاقة لها بالطب.
وهنا يقول الطبيب المصري سامي جمال: “أنا كنت متخصص جهاز هضمي وكبد، لكنني فوجئت أن تعييني في مستشفى في دمياط ليس بها مناظير من الأساس، وهو ما دفعني لطلب نقلي إلى مستشفى أخرى، وبالفعل انتقلت إلى مستشفى أم المصريين العام بالجيزة لأجد أن المناظير هناك تحت سيطرة طبيب جراحة رغم أنها من المفترض تابعة لأقسام الباطنة والجهاز الهضمي، ومن ثم كنا ممنوعين من التدريب عليها”.
وفي هذا السياق، كشف الدكتور عماد عبد الحميد، أن ما يتلقاه الطبيب الشاب في مستشفيات لندن على سبيل المثال في عام واحد لا يتلقاه في مستشفيات مصر طيلة حياته، كاشفًا أن هناك برامج تدريبية على أعلى مستوى لاحتواء الأطباء المبتدئين وتأهيلهم على أحدث وسائل التطبيب في العالم.
وأوضح أن بريطانيا خلال أزمة كورونا الأخيرة فتحت أبوابها أمام خريجي كليات الطب من الشباب المصري للعمل لديها، ومنحتهم الكثير من المزايا والعطايا والإغراءات، لعل أبرزها بجانب الراتب الوفير، شهادة معتمدة تفتح الطريق أمام الأطباء بعد ذلك للعمل في أكبر مستشفيات العالم.
بيئة عمل طاردة
ظروف بيئة العمل هي الأخرى أحد الأسباب الطاردة للأطباء، فمن الصعب أن يعمل الطبيب في بيئة تهدد حياته، خاصة أن نقص المستلزمات الطبية يضع الطبيب في مواجهة المريض، إذ يطلب الأول من الأخير وذويه هذه الأغراض وهو ما قد ينشب عنه خلافات واعتداءات لفظية وجسدية، ومع عدم وجود قوانين تحكم العلاقة بين الطبيب والمريض مقارنة بالدول الأخرى، زادت في السنوات الماضية حالات التعدي على الأطباء داخل المستشفيات، دون رادع قانوني أو تشريعي لذلك.
أما في الدول الأجنبية فالوضع مختلف، ففي السعودية على سبيل مثال تصل غرامة التعدي على أي ممارس صحي طبيب أو ممرض، من مليون إلى 10 مليون ريال، وفي المقابل هناك قوانين تحكم الطبيب لو قصر أو تراخى، وقد تصل إلى الحبس أو المنع من مزاولة المهنة والوقف عن العمل، بحسب الطبيب علي فرج، اختصاصي الباطنة في أحد مستشفيات الدمام (شرق) بالسعودية.
ويضيف فرج أن من أسباب خروجه من مصر قبل 10 سنوات، غياب العدالة في الرواتب، فهناك فجوة كبيرة بين أجور الأطباء حسب مكان العمل، فمن يعمل في مستشفيات وزارة الصحة يحصل على راتب أقل بكثير مما يحصل عليه زميله الذي يعمل في مستشفيات القوات المسلحة والشرطة وخلافه، وعليه كان يتم التوزيع بحسب الهوى على حد قوله.
ومن مظاهر غياب العدالة كذلك، أن هناك تخصصات طبية محددة من الصعب التسجيل فيها لأطباء وزارة الصحة، وربما تكون حكرًا على الجامعات فقط دون غيرهم، مثل الجلدية والتجميل والليزر وغيرها من تخصصات “البيزنس والعائد الكبير”.
ومنها أيضًا، التفرقة داخل المستشفيات والوحدات الصحية في توزيع إيرادات الصناديق الخاصة (إيراد التذاكر والعلاج الاقتصادي بأجر)، حيث يعطي القانون مدير المستشفى الحق في توزيع نسبة من إيرادات تلك الصناديق على الأطباء، ومن ثم الأمر يخضع لمزاج المدير وقد يميز بين طبيب وآخر حسب الهوى وهو ما يعكر صفو العملية الطبية برمتها وكان هذا سبب رئيسي في التفكير في السفر خارج مصر، على حد قول فرج.
هذا بخلاف إجبار وزارة الصحة للطبيب أن يتخصص في تخصصات معينة حتى لو لم يكن يرغب بها، مثل التخدير والعناية المركزة، بسبب النقص الكبير في تلك التخصصات، مقابل إغراءات مادية غير مجزية، كزيادة قدرها 300 جنيه (19 دولارًا) على الراتب شهريًا.
مسألة التكليف هي الأخرى من الدوافع الرئيسية للهروب من مصر بالنسبة للأطباء، فكثير من الأحيان يطيح بك التكليف بعد التخرج في مناطق نائية لمدة ثلاث سنوات، تكون خلالها ممنوعًا من تسجيل الماجستير أو الزمالة، لتفقد خلال تلك الفترة التي تكون فيها شبه معزول عن العالم ما تلقيته من خبرات خلال عام الامتياز أو ما درسته في الكلية.
التعقيدات اللائحية والقانونية التي تصاحب تسجيل الماجستير والزمالة من الأمور الطاردة للعقول المصرية بصفة عامة، هذا بخلاف المجاملة التي تحدث أحيانًا من بعض المشرفين في مقابل تعنت آخرين، حتى من الممكن أن يقبع الطبيب أكثر من 5 سنوات للحصول على الدرجة، علمًا بأن الزمالة البريطانية مثلًا قد تحصل عليها في أقل من شهر، بمجرد دخولك امتحان إلكتروني وإن تجاوزته تحصل على الشهادة بمنتهى الشفافية والنزاهة دون تدخل بشري.
هجرة الأطباء لم تقتصر على شباب الخريجين فحسب، بل إن الكثير من كبار الاستشاريين وأساتذة الجامعات اضطروا كذلك للهروب بعد عشرات السنين من العمل في مصر، وهو ما أكده مروان يسري، الاستشاري في أحد مستشفيات لايدن بهولندا، قائلًا: “أعرف أساتذة جامعة في كليات الطب تركوا التدريس والطب وهاجروا إلى بريطانيا وفرنسا وهولندا والولايات المتحدة، هناك حياة أفضل ورواتب أعلى بمراحل، وقوانين منظمة وصارمة تحفظ للأطباء حقوقهم، وبيئة عمل خصبة تستفز في الطبيب أفضل ما عنده”.
ميزانية متصاعدة.. ولكن !
شهدت مخصصات الخدمات الصحية في الموازنة السنوية للدولة طفرةً كبيرةً خلال السنوات العشرة الأخيرة، إذ ارتفعت من ملياري جنيه في 2010 (3.3 مليار دولار وقتها حيث سعر الدولار 5.6 جنيه) إلى 42.4 مليار جنيه في 2014 (5.6 مليار دولار حيث سعر الدولار 7.5 جنيه)، وصولًا إلى 108 مليارات و761 مليون جنيه في 2021 (6.9 مليار دولار حيث سعر الدولار 15.6 جنيه).
الزيادة في مخصصات الصحة رافقتها هي الأخرى زيادة في عدد السكان الذي ارتفع من 82 مليون نسمة في 2010 إلى 90.4 مليون في 2014 ثم 102.6 مليون في 2021، وهو ما يعني أن نسبة الزيادات في ميزانية الصحة تفوق نسبتها في الزيادة السكانية، لكن هناك مؤشرًا آخر ربما يكون له تأثير قوي يتعلق بالقفزات الكبيرة في أسعار السلع والخدمات خلال تلك الفترة وهو ما يقلل من تأثير تلك الزيادات في المخصصات رغم أنها في 2021 ضعف ما كانت عليه في 2010، هذا لو وضعنا في الاعتبار أن معظم المستلزمات الصحية المستخدمة في مصر مستوردة من الخارج.
بالعودة إلى نسبة مخصصات الصحة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي كونه المؤشر الأكثر دقة في قراءة موقع صحة المواطن في قائمة أولويات الحكومة، يلاحظ أن الأمر لم يتغير كثيرًا طيلة العقد الماضي، إذ لم تتخط المخصصات في 2010 حاجز الـ1.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بزيادة طفيفة في 2014 إذ بلغت 1.6%، لتعاود الانخفاض مجددًا في 2021 لتصل إلى 1.4% من الناتج المحلي الإجمالي.
وعليه فإن أقصى نسبة وصلت إليها موازنة الصحة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي وهي 1.6% لم تصل بعد إلى النسبة المحددة في الدستور المصري (2014) الذي حدد النسبة المخصصة للخدمات الصحية بـ3% من إجمالي الناتج المحلي، أي أن النسبة الحاليّة تعادل نصف التي أقرها الدستور، وهو ما كان له انعكاساته على مستوى وحجم الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين في المستشفيات والوحدات الصحية الحكومية بطبيعة الحال.
حياة 28 مليون مريض مزمن على المحك
يوميًا، يعود آلاف المرضى دون توقيع الكشف الطبي، لأسباب تتعلق بعدم توافر الأطباء بشكل يسمح بتغطية كل تلك الحالات، أو نقص المستلزمات الموجودة، وهو ما يمكن أن يمثل خطرًا يهدد حياة الملايين من المرضى لا سيما أن معدلاتهم في تزايد في السنوات الأخيرة بسبب فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) والأحوال المعيشية المتردية التي تجعل الاهتمام بالصحة في مؤخرة اهتمامات الأسرة المصرية.
العجز الواضح في الكوادر الطبية ونقص المستلزمات المستخدمة في المستشفيات والارتفاع الجنوني في أسعار الدواء التي تُستورد الغالبية العظمى من خامات تصنيعه من الخارج، يضع حياة أكثر من 28 مليون مريض بأحد الأمراض المزمنة على المحك.
في 2018 أصيب “سالم علي” شاب لم يتجاوز عمره 37 عامًا، بأزمة قلبية حادة تتطلب تغيير صمامين في أسرع وقت، وبعد ذهاب وإياب لعشرات الأطباء في مدينة المنصورة أخبره الطبيب المعالج وهو استشاري قلب بضرورة التوجه إلى معهد القلب في الجيزة لإجراء جراحة عاجلة.
في اليوم التالي ذهب سالم رفق شقيقيه إلى المعهد الذي يعتبر المكان الوحيد الحكومي المتخصص في جراحات القلب في الجيزة والقاهرة، لكن بعد توقيع الكشف الطبي عليه فوجئ بأن المعهد حدد له موعدًا لإجراء العملية بعد 8 أشهر تقريبًا، وهي فترة طويلة جدًا لا يمكن تحملها خاصة أن طبيبه المعالج أكد أنه لا بد من إجرائها في أقل من شهر.
لم يكن أمام المريض الشاب إلا إجراء جراحة عاجلة في مركز خاص لجراحات القلب، لكنه فوجئ أن كلفتها تزيد على 50 ألف جنيه (3 آلاف دولار) بما يفوق قدراته المادية، الأمر الذي دفعه للتعايش مع المرض عبر المسكنات والأدوية، غير أنها لم تجد نفعًا، إذ توفي سالم بعد أقل من شهرين على آخر زيارة له لمعهد القلب.
التقينا بأحد أطباء المعهد للحديث عن حالة سالم رغم مرور أكثر من 3 أعوام عليها، لكن المفاجأة كانت في أن سالم لم يكن الحالة الوحيدة، فهناك المئات من مرضى القلب يموتون قبل إجراء الجراحات لهم بسبب قائمة الانتظار الطويلة التي تزهق في طريقها عشرات الأرواح يوميًا بسبب النقص الواضح في الأطباء والمستلزمات والموازنة المخصصة.
وأوضح إسماعيل حافظ، استشاري جراحات القلب في المعهد، أن المعهد يعمل على مدار 24 ساعة، بقوة تبلغ 250 طبيب قلب و100 جراح قلب و600 ممرض وممرضة، ويجري يوميًا عمليات قسطرة وجراحة ما بين 70 إلى 100 عملية فى اليوم الواحد، وشهريا أكثر من 1800 حالة قسطرة و300 عملية قلب مفتوح.
وأوضح الطبيب الاستشاري أن كلفة تلك الجراحات تترواح بين 25 إلى 48 مليون جنيه، في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار الدعامات، موضحًا أن المعهد به أكثر من 110 أسرة في العناية المركزة و50 سرير رعاية متوسطة، و100 سرير غرف عادية، وأن هناك ضغطًا كبيرًا عليه بصفته المكان الوحيد المتخصص في إجراء الجراحات العاجلة للقلب في القاهرة الكبرى.
ورغم الطفرة التي شهدها المعهد خلال الآونة الأخيرة في مسار القضاء على قوائم الانتظار، فإن عدد المرضى يفوق كل تلك الجهود، إذ يستقبل يوميًا نحو 1500 حالة حتى الثانية ظهرًا، هذا بخلاف الحالات الطارئة التي تأتي بعد أوقات الدوام الرسمي، وهو ما لا يمكن للمعهد أن يتحمله في ظل المخصصات المتواضعة.