تسبّبت الصراعات المسلحة في سوريا في وقوع انتهاكات متعددة بحقّ مختلف الفئات العمرية من المدنيين دون أدنى شك، إلا أن أنماط الانتهاكات بحقّ الأطفال هي السمة البارزة خلال الفترة الراهنة، حيث أدّى جحيم الحرب في سوريا إلى تعرُّض آلاف الأطفال للتعنيف والاختطاف والاغتصاب والتجنيد والقتل، دون أية اعتبارات جدّية من المجتمع الدولي لإنهاء حالة الحرب في سوريا التي ألقت بظلالها على البشر والحجر.
لا تمضي أيام دون وقوع حادثة مروعة ضحيتها طفل أو طفلة صغيرة في مختلف أنحاء البلاد، ما يكشف عن أن درجات العنف بحقّ الأطفال وصلت إلى حدودها العليا، دون تحمُّل الجهات التي تسيطر على الجغرافيا السورية مسؤوليتها عن واقع الأطفال الذين يواجهون شتى أنماط الانتهاكات.
خطف الأطفال.. وسيلة للابتزاز
قبل أيام، انتشر مقطع مصوَّر على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر طفلًا سوريًا من بلدة إبطع بريف درعا جنوبي سوريا، أثناء تعرّضه للضرب من قبل جهة مجهولة أرسلت المقطع المصوَّر لذوي الطفل، بهدف ابتزازهم مقابل الحصول على المال.
الطفل فواز القطيفان (8 سنوات) جرى اختطافه مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 من قبل مجهولين كانون يستقلون دراجة نارية، أثناء ذهابه إلى المدرسة، وبعد أيام على اختطافه تواصل الخاطفون مع العائلة لطلب فدية مقابل عودة الطفل، والتي تصل 700 مليون ليرة سورية أي ما يعادل 200 ألف دولار أمريكي.
وبعد مفاوضات بين العائلة والجهة المسؤولة عن عملية الاختطاف، والتي استغرقت شهورًا، مع غياب شبه كامل للدور الأمني في منطقة يسيطر عليها نظام الأسد، توصّلوا إلى 500 مليون ليرة سورية أي ما يعادل 142 ألف دولار أمريكي، لكن العائلة لم تستطع جمع المبلغ المطلوب لاستعادة الطفل بعد بيع جميع الأملاك العقارية التي تملكها، والتي وصل ثمنها إلى 250 مليون ليرة سورية.
وأوضحت العائلة للخاطفين، الذين يتواصلون معهم بمعرِّف مجهول على تطبيق تيليغرام، قدراتها المالية لدفع المبلغ، إلا أن الخاطفين ردّوا عليها بمقطع مصوَّر للطفل أثناء تعرضه للضرب بحزام بنطال وهو عارٍ إلا من ثيابه الداخلية، حيث ينادي الطفل “مشان الله لا تضربوني”، ما تسبّب في موجة استياء حادة على شبكات التواصل.
#أنقذوا_الطفل_فواز_القطيفان
نحن على يقين تام أن اليد التي ضربت فواز وعذبته يد من تربية البعث ?
انقذوه ذنبه أنه يعيش في مزرعة الاسد pic.twitter.com/FLeFK41UVj
— تُهامة ? (@Tu23ke) February 6, 2022
على إثر ذلك، أطلق نشطاء حملة على مواقع التواصل الاجتماعي، للمطالبة بإنقاذ الطفل القطيفان من أيدي المجرمين، وظهرَ والد الطفل أمس في مقطع مصوَّر يوضح أنهم بدأوا بالتكاتُف لجمع المبلغ المالي من قبل عائلة القطيفان المقيمين في الداخل السوري وخارجه.
ولا تُعتبر حالة الاختطاف التي تعرّض لها الطفل فواز القطيفان الأولى من نوعها، بل تضاف إلى مئات القصص عن أطفال باتوا رهن الاعتقال والاختطاف والاختفاء القسري خلال السنوات الماضية، بهدف الضغط على عائلاتهم والحصول على المال.
الذين قتلوا الطفل حمزة الخطيب تحت التعذيب وشوهوا جسده وأعادوه جثة هامدة لأهله هم وراء اختطاف وتعذيب الطفل فواز القطيفان #أنقذوا_الطفل_فواز_القطيفان pic.twitter.com/qJbrCLWNEo
— شام بيرقدار (@ShamBirkdar) February 5, 2022
ووثّق تجمع أحرار حوران خلال عام 2021 نحو 40 حالة اختطاف طالت العديد من الأشخاص بينهم أطفال، تهدف معظمها إلى الحصول على فدية مالية مقابل إطلاق سراح الشخص المختطَف لدى العصابات، حيث تضطر بعض العائلات إلى دفع الفدية المالية، وسط غياب دور نظام الأسد في ظلّ انتشار الميليشيات المسلحة في الجنوب السوري.
اغتصاب وقتل الأطفال
وفي مدينة منبج شمالي شرقي حلب، وقعت جريمة قتل مروعة بحقّ طفلة تبلغ من العمر 5 سنوات، خلال يناير/ كانون الثاني 2022، إذ وُجدت الطفلة مرمية في حاوية قمامة مذبوحة بأداة حادة، تمَّ نقلها بعدها إلى مشفى الفرات.
وذكرت مصادر متطابقة أن الطفلة تعرّضت للاغتصاب من قبل شخص مجهول، ما دفع عائلتها إلى ذبحها ورميها في حاوية القمامة تحت ذريعة “غسل العار”، رغم صغر عمر الطفلة.
في حين شهدَ نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 تعرُّض طفلة تبلغ من العمر 3 سنوات للاغتصاب على يد شخص مجهول، بعد خروجها من منزل عائلتها في قرية كفرنايا بريف حلب الشمالي، وهي تقع في منطقة الشهباء التي تسيطر عليها “قسد” ونظام الأسد.
أقدمت مجموعة من عناصر ميليشيات قسد على اغتصاب طفلة في ريف حلب الشمالي، ما أدى إلى وفاتها بعد ساعات من الحادثة
العناصر اغتصبوا الطفلة “لين محمد حسن الخطيب” البالغة من العمر 4 سنوات والمنحدرة من بلدة كفرنايا ومن ثم قاموا برميها على طريق دير جمال pic.twitter.com/a961QPf8Ae
— Âla hacıoğlu ??? (@ala_hacioglu) November 18, 2021
وكانت الطفلة قد خرجت من منزل عائلتها لتلتحقَ بأطفال آخرين إلى كروم الزيتون، للذهاب إلى والدها الذي يعمل هناك، حين استوقفَ الأطفال شخص مجهول يستقلُّ دراجة نارية، واختطف الطفلة واغتصبها، وبدأ الأهالي عملية البحث عنها، حيث عثروا عليها قرب الطريق الواصل بين قريتَي دير الجمال وكفرنايا بعدما فارقت الحياة.
وتظاهرَ أهالي القرية وطالبوا بالبحث عن الجاني وسط حالة من الغضب الشديد، وغياب الجهات الأمنية التي تسيطر على المنطقة، حيث ينتشر في هذه المنطقة حواجز عديدة لقوات نظام الأسد و”قسد”.
وفي الحسكة، شهدت المدينة جريمة قتل مروعة هزّت الأوساط السورية خلال يوليو/ تموز 2021، بعد قيام رجل بقتل ابنته البالغة من العمر 16 عامًا خنقًا تحت ذريعة “الشرف”، بعد تعرُّضها للاغتصاب وإنجابها طفل من ابن عمها الذي اغتصبها.
بينما قامَ والد الفتاة آية خليفو بسجنها وتقييدها بالسلاسل حتى الموت في حي يقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية بمدينة الحسكة، وفي قضية أخرى أصدرت محكمة سورية حكمًا بالسجن 30 عامًا بحقّ شخص أدين باغتصاب الفتاة عيدة السعيدو التي قتلت على يد عائلاتها رميًا بالرصاص في منطقة مهجورة تقع تحت سيطرة الأسد.
ويُعتبر قتل الأطفال في مقدمة الانتهاكات وأشدّها وطأة في سوريا، نظرًا إلى ارتفاع نسبة الضحايا من الأطفال، وأيضًا الاختطاف الذي يتحول في الغالبية العظمى من الحالات لاختفاء قسري، ثم التعذيب والعنف الجنسي، حيث حدث ما لا يقلّ عن 539 حادثة عنف جنسي لأطفال منذ مارس/ آذار 2011 حتى 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، بحسب ما أوضحت مديرة قسم الانتهاكات الخاصة بالطفل والمرأة في الشبكة السورية لحقوق الإنسان، نور الخطيب، خلال حديثها لـ”نون بوست”.
وأضافت: “ارتفعت حالات الاغتصاب في العامين الأخيرين، وذلك كون الأطفال من الفئات الضعيفة والأكثر عرضة لها، وكون معظم المناطق تعيش حالة من الفلتان الأمني وغياب القانون وانهيار القيم، ما يسهّل على الجاني ارتكاب جريمته، وفي حال كان الجاني ينتمي إلى جهة عسكرية فذلك يعطيه نوعًا من السلطة والقوة لارتكاب الجريمة”.
وعن دور الجهات المسيطرة في ازدياد عمليات الاختطاف والاغتصاب، أكّدت الخطيب أن سلطات الأمر الواقع في كل منطقة تتحمّل مسؤولية ملاحقة الجناة والتحقيق معهم وإخضاعهم للمحاكمات وتعويض الضحايا، وهي المسؤولة عن جميع ما يحدث من انتهاكات في منطقة تقع تحت سلطتها، مشيرةً إلى أن النظام السوري يتصدّر حصيلة مرتكبي معظم الانتهاكات مقارنة مع بقية أطراف النزاع.
واقع وأسباب
وتواصلت الانتهاكات بحق الأطفال في سوريا منذ قرابة 11 عامًا، ولم يحترم أي من أطراف النزاع القوانين التي خصت الطفل حيث ظلت مجرد حبر على ورق، ولم تتصد الجهات الحاكمة للانتهاكات بحقّ الأطفال بما فيها تلك التي ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية.
وقُتل نحو 29661 طفلًا على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا، بينها جهات محلية ودولية، بينما لا يزال 5036 طفلًا قيد الاعتقال والاحتجاز أو الاختفاء القسري، و181 طفلًا قضوا بسبب التعذيب على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا، وذلك منذ مارس/ آذار 2011 حتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وقال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، لـ”نون بوست”: “ألقت الحرب بظلالها على الأطفال كونهم يمثّلون أكثر من ثُلث الفئات العمرية من السوريين، حيث ارتفعت نسبة حالات الانتهاكات بحقّ الأطفال، ويمكن تمييزها بـ 3 أنواع، الأول انتهاكات وقعت أثناء الاشتباك المسلَّح، والثاني انتهاكات تسبّبت فيها الجهة الحاكمة للمنطقة التي يوجد فيها مدنيون، والثالث انتهاكات تسبّب فيها المجتمع المحيط بالطفل”.
الأطفال في سوريا ضحية الحرب
يبدو واقع الأطفال السوريين أليمًا جرّاء استمرار الحرب الدامية منذ عقد مضى، حيث فرضت الحرب العديد من التحديات على واقع الأطفال السوريين، ما جعلهم عرضةً للتجنيد والتعنيف والخطف والاعتقال والاغتصاب.
ولعلّ أبرز الأسباب التي ساهمت في استمرار الانتهاكات بحقّ الأطفال، بحسب ما أوضح فضل عبد الغني لـ”نون بوست”، هي:
– استمرار الصراعات المسلحة بين القوى المسيطرة على الجغرافيا السورية، ما يجعل الأطفال عرضة للتجنيد والقتل والاعتقال.
– انتشار السلاح واستخدام الأطفال ذريعة للحصول على المال كالفدية.
– عدم قدرة الجهات المسيطرة على ضبط الفلتان الأمني الحاصل في جميع المناطق.
– التهجير والنزوح لعائلات يشكّل الأطفال أكثر من ثلثها، ما يجعل الأطفال عرضةً للاغتصاب والاستغلال.
– اضطرار الأطفال للانخراط في العمل لإعالة أنفسهم وعائلاتهم، ما يؤدّي إلى استغلالهم نفسيًّا وجسديًّا وجنسيًّا.
– انعدام الدور التعليمي والتوعية الحقيقية لحقوق الطفل بين المجتمع نتيجة تدمير البنية التعليمية.
– غياب الرقابة الاجتماعية على الانتهاكات التي يمارسها المجتمع نفسه بحقّ الطفل.
هذه الأسباب أسهمت في استمرار الانتهاكات بحقّ الطفل السوري، والتي يمكن أن تسهم مع مرور الزمن -لا قدّر الله- في خلق جيل سوري غير سوي يعاني من أمراض نفسية وجسدية وأخلاقية، حتّمت عليه الظروف أن يكون هكذا، وسط عجز الأوساط المجتمعية المحيطة به عن تقديم أدنى حقوقه التي تُعتبر من رفاهيات المكان.
يشكل أطفال سوريا جزءًا وازنًا من ضحايا الحرب السورية التي أنهكت الجميع، ويمثل التركيز عليها ضرورة ملحة كونها أكثر الفئات هشاشة وضعفًا، ما يوجب على السلطات المحلية توجيه جل اهتمامها لحماية هذه الفئة البريئة، وصون حقوقها من كل الانتهاكات، كأولوية وطنية لكيلا يُدمر مستقبل البلاد كما دُمّر حاضرها.