شهدت السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا في مسار تمدد البوذية في دول جنوب شرق آسيا، حيث يشكّل أبناء تلك الطائفة 93% من سكان تايلاند، و88% من سكان ميانمار، وقرابة 70% من سكّان سريلانكا، هذا بخلاف نسبتهم الكبيرة في اليابان ولاوس وفيتنام وكمبوديا.
وبعيدًا عن مساعي تجميل الصورة وتصدير الجانب المشرق منها بشأن سلمية هذا المعتقد وتعايشه مع الآخر، فإن الواقع ينافي ذلك جملةً وتفصيلًا، وهو ما يوثّقه الصعود المتنامي للحركات القومية البوذية الراديكالية في تلك البلدان، الضالعة في عشرات الجرائم بحقّ الأقليات وفي المقدمة منهم المسلمين.
وتنقسم البوذية إلى عدة مذاهب، أبرزها “الماهايانا” الذي ينتشر في بوتان ونيبال والصين وكوريا واليابان وفيتنام، بجانب مذهب “الثيرافادا” الذي يدين به أغلبية السكّان في سريلانكا ودول الهند الصينية كتايلاند ولاوس وميانمار (بورما) وكمبوديا. وكلا المذهبَين شهدا خلال السنوات الأخيرة تيارًا متطرفًا يتبنّى العنف منهجًا وعقيدةً، مستهدفًا الأقليات بالتحريض والإساءة، الأمر الذي وضع منطقة جنوب شرق آسيا فوق فوهة بركان شعبوي قابل للاشتعال في أي وقت، في ظلّ الصمت العالمي حيال صعود هذا التيار واتّساع رقعة جرائمه.
سريلانكا البداية
حققت البوذية انتشارًا غير مسبوق خلال السنوات الماضية، وضعها على رأس المذاهب الدينية الأكثر نفوذًا في معظم بلدان تلك المنطقة من القارة الآسيوية، ولعلّ أقدم حضور مسجَّل لهذا المذهب في بلدان جنوب شرق القارة كان في سريلانكا، حين ظهرت البوذية في القرن الثاني قبل الميلاد على يد نجل الإمبراطور أشوكا الذي حكم جنوب آسيا لفترة طويلة.
سريلانكا الذي ينتمي أكثر من 70% من سكانها البالغين 22 مليون نسمة إلى عرق السنهاليين الذي يدين بالبوذية، بينما 10% فقط من المسلمين و7% من المسيحية، تعدّ النموذج الأكثر تطرفًا في التمدُّد البوذي، حيث الصلاحيات المطلقة لقادة وزعماء هذا التيار مقارنة بالأقليات الأخرى.
يمنح الدستور السريلانكي البوذيين المكانة الكبرى ويحمّل الدولة مسؤولية حماية حكم بوذا، هذا بخلاف وجود وزارة خاصة بشؤون الرهبان البوذيين، ونتاجًا لذلك تهيمن البوذية على الخطاب الثقافي والسياسي في البلاد، حيث يسمح للرهبان بدخول المعترك السياسي وتكوين أحزاب سياسية والترشيح لمناصب رفيعة، وهو ما لم يُسمح به لغيرهم.
ومنذ عام 2009، وبعد انتصار القوات المسلحة على جماعة نمور التاميل، تبنّى النظام الحاكم في البلاد استراتيجية ترويجية رسمية للتسويق للبوذية المتطرفة، ما يمنح ممارساتها التي تخالف القانون والدستور وكافة الأعراف شرعيةً اجتماعية وسياسية، وتمَّ تصوير الجرائم التي يقوم بها أنصار هذا المذهب ضد المسلمين والمسيحيين على أنه انتصار مؤزِّر للبوذية.
تنامي التيار القومي
ومن سريلانكا إلى ميانمار، حيث الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الحركة الوطنية البوذية المتطرفة ضد مسلمي الروهينغا، وأسفرت عن مقتل عشرات الآلاف فيما هناك أكثر من 3 ملايين مسلم من الروهينغا مشرّدين في الداخل والخارج، فارّين بأرواحهم وحياتهم من بطش البوذيين.
بدأ تصاعد التيار المتطرف لبوذيي ميانمار منذ حصولها على الاستقلال عام 2011، حيث سيطرت الحركة القومية المتطرفة على مقاليد الأمور هناك، فيما عمدت السلطات الحاكمة في البلاد إلى تعزيز فكرة أن البوذيين هم الفئة الأعلى ممّا سواهم، ما جعلهم يهيمنون على الأجهزة الأمنية والسيادية، في واحدة من أقبح الانتهاكات العنصرية في آسيا.
اللافت للنظر أن البوذيين يشعرون بالقلق من احتمالية أن يسيطر المسلمون على مقاليد الأمور، رغم أن نسبتهم لا تشكّل أكثر من 4% من إجمالي السكان ذوي الأكثرية البوذية، وهو ما دفع أنصار هذا التيار إلى تدشين عشرات الحركات العنصرية المتطرفة ضد المسلمين.
ولا يختلف الوضع كثيرًا في تايلاند عن ميانمار وسريلانكا، حيث أسفرت المواجهات بين البوذيين ذوي الأغلبية وغيرهم من الأقليات الأخرى عن سقوط أكثر من 6000 تايلاندي، فيما يتمتّع أبناء هذا المذهب بصلاحيات كبيرة على كافة المسارات، وسط دعم قانوني وتشريعي كبير لمنحهم الأفضلية في كل شيء مقارنة بالأقليات الأخرى.
انتقلت عدوى التطرف البوذي من تلك الدول إلى باقي دول الهند الصينية، ورغم أن كل تلك الدول بلا استثناء لم تواجه أي تهديد مسلَّح مباشر أو غير مباشر من المسلمين، إلا أنها اتّفقت فيما بينها على استهداف الأقلية المسلمة استهدافًا جذريًّا، بما يزيل ما علقَ في أذهانهم من هواجس بشأن سيطرة المسلمين على البلاد خلال السنوات القادمة، وإن كان الأمر يشوبه التسييس أكثر منه الأصولية الدينية والمذهبية.
“حركة 969”
من أشهر الحركات البوذية المتطرفة “حركة 969” في بورما التي نشأت عام 1999 على أيدي مجموعة من الرهبان البوذيين المتطرفين، أبرزهم الراهب المتطرف كياو لوين، وتدعو إلى استخدام العنف ضد المسلمين وتعزيز النفوذ البوذي في شتى أرجاء البلاد.
تستمدُّ الحركة اسمها الرقمي من دلالات دينية بوذية، 9 يرمز إلى 9 سمات خاصة لبوذا، و6 تشير إلى تعاليم بوذا التي تُسمّى دارما، و9 الأخرى تشير إلى 9 سمات لسانغا (الرهبان)، فبوذا وسانغا ودارما هي الجواهر الثلاثة للديانة البوذية، وعليه فإن استخدام تلك الأرقام الثلاثة يمثّل الجواهر الثلاثة البوذية.
بدأت الحركة بدور تعليمي للأطفال، لكن رويدًا رويدًا تحوّل الأمر إلى زرع الكراهية في نفوس أبناء المجتمع البورمي، وإشعال الحقد والكراهية للمسلمين، وبثّ روح التعصُّب الأعمى ضدهم، وفي عام 2001 انضمَّ الراهب المتطرف المعروف، أسين وارثو، إليها، وهو الذي وصفَ نفسه بأنه “ابن لادن بورما”، فيما وصفته مجلة “ذا تايم” الأمريكية بـ”وجه الإرهاب البوذي”.
قاد وارثو، الراهب المتعصب الأعمى، عام 2011 حملة مقاطعة اقتصادية ضد متاجر المسلمين، الذين وصفهم بأنهم “كلاب مجنونة” واتّهمهم باغتصاب النساء في بورما والتكاثر بسرعة فائقة، كما اعتبر المساجد “قواعد للعدو”، وتسبّب بقيادته لحملات الكراهية والعنصرية في نزوح أكثر من 700 ألف شخص إلى بنغلاديش المجاورة.
يفترض أن حركة 969 سرّية تعمل في الخفاء باسم منظمة اجتماعية خاضعة للحكومة، وتهدف في المقام الأول إلى تنفيذ المخططات المرسومة لبرمنة بورما وطرد المسلمين من أراكان، واستهداف المسلمين بدعوات المقاطعة ونشر العصبية وتشويه صورة المسلمين والإسلام، وتحويل بورما إلى قِبلة للبوذيين في مختلف أنحاء العالم.
“بي بي إس”
تُدعى الجماعة البوذية الأكثر تطرفًا في سريلانكا بـ “قوة القوة البوذية” أو “بي بي سي”، والتي نشأت عام 2012 ورفعت شعارات العودة إلى البوصلة الأخلاقية للبوذية، ومناهضة الأقليات التي تسبّبت في إبعادهم عن هدفهم الأسمى، في إشارة إلى المسلمين.
واستطاع أمين عام الحركة، غناناسارا ثيرو، البوذي المتطرف، أن يلعب دورًا محوريًّا في تأجيج وإطالة أمد الكراهية ضد المسلمين في سريلانكا، حيث قادَ حملات شعواء ضد ارتداء النساء الحجاب وحصول متاجر على شهادات الطعام الحلال.
وتتمتّع تلك الحركة المتطرفة بنفوذ كبير داخل البلاد، فحين حُكم على زعيمها ثيرو بالسجن 6 سنوات بسبب إهانته لهيئة قضائية، تدخّل الرئيس مايتريبالا سيريسينا بنفسه لإطلاق سراحه، حين أصدرَ قرارًا بالعفو عنه بعد أسبوع واحد فقط من مهاجمة أنصاره منازل ومتاجر ومساجد المسلمين، أسفرت عن سقوط الكثير من القتلى والمصابين.
أثار إطلاق سراح ثيرو جدلًا كبيرًا لدى المنظمات الحقوقية، التي اعتبرت أن هذه الخطوة تحمل رسالة رسمية من السلطات الحاكمة بأن البوذيين يمكنهم مواصلة انتهاكاتهم ضد المسلمين والتحريض ضدهم دون أي عواقب قانونية، حتى إن اعتبرها البعض استمالة سياسية للبوذيين خلال الانتخابات الرئاسية فيما بعد.
الدعم الرسمي من حكومات دول جنوب شرق آسيا للبوذيين، سواء كان من منطلق أيديولوجي أو سياسي، منحَ البوذيين وحركاتهم المتطرفة الضوء الأخضر للانتقام من المسلمين والتنكيل بهم، هذا الانتقام الذي وإن طال أمده فلن يمكن أن يمرَّ دون تداعيات وارتدادات ولو من باب ردّ الفعل الانتقامي على الأقل، طالما أن الأمر لا يحرك ساكنًا لدى أي من اللاعبين المؤثرين على الساحة، ما يعني أن عدم تغير المعطيات الحالية ستساهم مع مرور الوقت في تفاقُم التوتر في تلك المنطقة، الأمر الذي يجعلها فوق فوهة بركان، قابلة للانفجار في أي وقت، وهو ما يتطلّب تدخُّل عاجل من المجتمع الدولي والحكومات الإسلامية لمناهضة هذا التمدد الذي يهدد مفاهيم الحرية الدينية والمعتقد.