للحياة منطق ملغز، مضطرب، عصيّ على الاستقراء، يتبدّى الإنسان أمامه كمخلوق مغفَّل، لا يعرف إلى أين تقوده الأقدار، وفي أي محطة سينتهي به الأمر، حتى رحلة القطار المخطَّط لها مسبقًا تتحول إلى مجموعة مكثَّفة من الأقاصيص الجانبية والمواقف العرضية، تتواتر في متوالية لتصيغ قصة حب طارئة، وقودها: المكان المؤلَّف من كابينة قطار تحفظ في داخلها أرواحًا هشة، وزمن سائل لا نثمّنه إلا من منطلق كونه امتدادًا لا نهائيًّا لفرص ضائعة، ومساحة هائلة للتورُّط في صدف عابرة، ووحشة سفر تفصل بين الإنسان ووجهته، بالإضافة إلى كمّيات هائلة من الملل تدفعنا إلى معرفة الآخر.
يتحرك القطار في المكان بمعناه الشمولي الأوسع، وفي جوفه يتجمّد الزمن وليس ثمة مساحة كبيرة ليتحرّك المسافرون في المقصورة أو في الرواق، تؤسِّس طبيعة الرحلة لمنطقة محايدة، مساحة ملتبسة بين نقطتَين، رقعة عشوائية لا تخضع لقواعد أي من عوالم الركّاب بشكل فردي، سواء المحطة القادم منها أو الوجهة الوافد إليها.
في فيلم “مقصورة رقم 6″، يُزجّ بالأبطال على متن قطار لأغراض مختلفة، برحلة تتضارب فيها المصائر بشكل اعتباطي، وبطريقة استبدادية، لتخلق أرضية مشترَكة بين فردَين في غير اتساق، قادمَين من خلفيات ثقافية مختلفة، يجدا نفسيهما في مواجهة بعضهما، بلزوم قسري وفقًا لجوهرية السفر، بحيث لا يستطيع أي منهما إقصاء الآخر، فيضطر لقبول وجوده بشكل مؤقت، وهذا ما يصنع الدراما.
في فيلمه الروائي الطويل الثالث، يرسِّخ المخرج يوهو كوسمانين، من خلال قصة تبدو مألوفة للمشاهد، لشعور الوحدة، ويؤسِّس هيكل فيلمه الخارجي على حقيقة الاغتراب ما بعد الحداثية، يقيسُ المخرج تلك الحقيقة بالمسافات الهائلة، ويرصد حركة الأفراد نحو أهدافهم المختلفة التي تعزِّز شعورًا بالانفصال.
من موسكو، حيث بدأت لورا رحلتها (الممثلة سيدي هارلا)، هناك عدة بدائل، حشد من الخيارات المغرية، متشابهة في أوجُه كثيرة، بحيث لا تتأثّر علاقة حب قائمة على منفعة جنسية، لأن البديل البيولوجي حاضر، على عكس لورا التي تعاني روحيًّا من أثر الانفصال، وتتوسّل كلمة حب أو شعورًا ثانويًّا بالاهتمام.
الرحلة والحب
منذ البداية، تختبر لورا هذا الشعور بالانفصال، تحتفظ به على مدار رحلة طويلة من العاصمة موسكو إلى مدينة مورمانسك في مسافة لا تقلُّ عن 1950 كيلومترًا، بيد أن رقعة القطار تنبثق كمنطقة محايدة، لا تتقيّد بالعلاقات الخارجية أو العاطفة المستقلة، بقدر ما تخلق مشاعرها الخاصة بين المسافرين، مشاعر معيَّنة تنتج عن مواقف غير معنية بالشخص، إنما معنية بالموقف ذاته وكيفية إدارته بحيث تكتمل الرحلة في سلام.
لهذا يظهر كل شيء في القطار عرضيًّا، كل العلاقات والمشاعر هي خفقان طارئ، وعليه لا تبدو قصة حب طارئة مثل قصص الحب العادية، ولا يمكن تصنيفها على أنها قصة حب في الأساس، إنها مجرد تفريغ صادق، وشعور بالحب المحقَّق، بيدَ أن ما يخلقُ أقاصيص الحب هو الامتداد والمكاشفة والاحتفاظ بالقيمة الروحية لأكثر مدة ممكنة، أي أن الزمن هو ما يمنح قصص الحب مسمّياتها.
فلا يمكن اعتبار قبلة مختلَسة في مقصورة قطار هي منتهى الحب، ربما لأن في مقصورة القطار لا يتقيّد المسافرون بالزمن بقدر ما يراوغونه، ربما تتهيَّأ لهم الساعات أيام، والأيام لحظات قليلة، فهم يحاولون دائمًا تناسي الزمن الظاهري الذي يحكم الرحلة حتى نقطة الوصول، ينتبهون للساعة عن طريق مُشرفة القطار التي تلقّنهم المواعيد في آذانهم، مثل أطفال صغار يحملون الكثير من الحزن.
تدور قصة الفيلم حول لورا التي تترك حبيبتها في موسكو وتتّجه إلى ميناء مدينة مورمانسك الجليدي، لرؤية نقوش تاريخية على كتلة صخرية؛ يُفتتح الفيلم بمشهد للورا وهي تحتفل على استحياء وسط حشد من المثقفين، لا يبدو عليها أمارات الارتياح إلا لحبيبتها إيرينا (الممثلة دينارا دوركاروفا) التي تتخلّى عن فكرة مصاحبتها خلال الرحلة، نظرًا إلى انشغالها بأعمال أخرى لا نعرفها.
تركبُ لورا القطار المتوجِّه إلى مورمانسك، لتجدَ نفسها مضطرة مشاركة مقصورة القطار مع شابّ روسي يُدعى ليوها (الممثل يوري بوريسوف)، لا يفعل شيئًا سوى الشراب، يعبّ الكحول عبًّا كأنه يريد أن ينسى شيئًا ما، أن يفقد الوعي بوجوده.
من الوهلة الأولى تشعر لورا أنها تورّطت مع رجل أهوج، بيدَ أنها واجهت قساوة المواقف بكاميراتها المحمولة، التي كانت أشبه بعين ثالثة، وذاكرة مستقلة، تستدعي من خلالها مقاطع وصورًا لذكريات سعيدة، وتوثِّق أخرى، كبابٍ خلفي لعالم موازٍ يتيحُ لها التقاط أنفاسها، ويطمئنها من خلال آليات الذوبان في الماضي واستحضار العاطفة المرتبطة بمواقف سعيدة.
في الليل، وبعد جرعات مكثَّفة من الشراب، ينهارُ ليوها تحت وطأة الكحول، ويهذي دون وعي بكلمات عشوائية، ليبدو كرمز تعبيري لحقبته، حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي المفكَّكة، بعقلية مشوَّهة، فخور بأوهام وأمجاد تغذّت عليها العقول لسنوات ما قبل التفكُّك، ليبدو في نظر لورا كمتحرِّش يحاول المساس بها فتخرج إلى الرواق وتحاول إيجاد مكان آخر للمكوث غير المقصورة، لكنها لا تنجح، وعندما تعود تجده منطرحًا على الأريكة، يغرق في نوم عميق.
يقفُ القطار في عدة محطات، وفي كل محطة تحاول اختلاس مكالمة مع حبيبتها، بيدَ أنها لا تجدُ إلا انفعالات صورية، وردًّا باردًا على أشواقها، لتتيقّن مع الوقت أنها ضحية لزيف وفراغ عاطفي، فتعود إلى القطار وقد نفضت عنها فكرة الرجوع إلى موسكو، وأيقنت ضرورة إكمال الرحلة.
الاختلاف والائتلاف
مع مرور الوقت، يحثُّ مناخ القطار المنغلق على البوح، ليس بمعناه الأصلي، ربما لا يصل الحديث إلى درجة المكاشفة، وعلى الأرجح لن يتعدّى كونه مجرد تفريج عن النفس، بيدَ أنه يسمح بمدّ أوصال علاقة بين نقيضَين، لورا القادمة من وسط ثقافي وعلمي سامق يتميّز بغرور طبقي واحتكار استعلائي ربما لا نراه في لورا نفسها، وليوها الذي سنعرف بعدها أنه عامل في أحد مرافق التعدين والمعالجة، شيء أقرب إلى منجم، أي أنه ينتمي إلى طبقة عمّالية بروليتارية.
أنتجَ هذا التناقض أمارات انهيار العلاقة قبل تكوُّنها، فتولّدت على استحياء، لكلٍّ عالمه الخاص، وثقافته للتعاطي مع المواقف، بيد أن عدة أشياء وفّقت بين الشخصيتَين، وحفظتهما من الانهيار حتى نهاية الرحلة: وحشة وكآبة العالم، الاغتراب والألم النفسي، والاستجابة للعزلة والبحث عن ونيس لليالي الشتاء باردة، والسبب الأهم من كل ذلك هو إمضاء الوقت.
تتطور العلاقة بين الاثنين، بعد أن يتجاذبا أطراف الحديث، ليقف القطار في محطة أخرى، ومثل كل مرة تحاول لورا اختلاس الطمأنينة في كابينة الهاتف، كما يلقي الطائر نظرة على أولاده بين الفينة والأخرى، تسترق لورا حبيبتها من خلال المهاتفة، تمنح نفسها شعورًا بالأمان أنها ما زالت موجودة، وهذا ضمان مزيف لوجود الحب، حيث إن إيرينا لم ترُدَّ.
تم َّاستغلال ذلك المشهد كنقطة تحول درامية، فقبلها بلحظات عرضَ عليها ليوها من باب إمضاء الوقت، أن ترافقه إلى المدينة لزيارة صديقة مسنّة في مقام أمه، بيد أنها رفضت، ولكن بعد مكوثها لدقائق داخل كابينة الهاتف، في محاولة للتواصُل مع عالم مثالي، ربما تأثرت بفكرة التخلي عن تحفُّظها لشخص لا تعرفه، لأنها شعرت لوهلة أن حبيبتها قد هجرتها.
ربما كان هذا الشعور ابن لحظته، ليس له علاقة بذكرياتها المحفوظة في اللاوعي أو في آلة التصوير كأداة إعادة للماضي وترسيخ للعاطفة عن طريق الصور، وإنما له علاقة بمعنى الحب ذاته، كحقيقة شاملة للارتباط العاطفي في أسمى معانيه، حتى لو من طرف لورا وحدها، فالمحبّ دائمًا يتطلّع إلى الاهتمام بحبيبه، ولكنها وجدت نفسها بمفردها محاطة بجدران الكابينة الشفافة، فيما ينتصب ليوها وحيدًا في فضاء جليدي ومساحة مجهولة بالنسبة إليها، فقررت أن تنصرف عن الارتماء في أحضان الماضي، وألقت نفسها في معية تصاريف العالم، لعلّه يطيّبها.
طوّر المخرج تلك العلاقة بشكل طارئ، والحقيقة أن كل شيء يبدو طارئًا في عالم المسافرين، كل المواقف تبدو نوعًا من التطفُّل على كيانات أخرى، ولكن هذه طبيعة الحياة الاجتماعية، التفاعل القسري بين أفراد المجتمع هو ما يصنع الإنسان في كل الأحوال.
يزور الرفيقان السيدة المسنّة، يتجرعان الشراب وينامان كالموتى، ثم يغادران في الصباح لتودّعهم -هي المسنّة التي خبرت الحياة- كعشيقَين، ليس كرفيقَين جمعتهما صدفةٌ في مقصورة قطار منذ يوم واحد، وهذا ما يطوِّر العلاقة إلى منحى آخر، منحى الحب العرضي شكلًا ومضمونًا، مثل خفقة في وسط الركود.
يظهر بعدها رجل فنلندي، يحمل غيتارًا على ظهره، ويشاركهم المقصورة، يتبادل شعور باللطف مع لورا، ولكن يقابله ليوها بالرفض، ويولي وجهه عنه، مصوِّبًا نحوه عينًا حذرة، تحيط به تحسُّبًا لأي شيء، بعد عزف عدة أغانٍ رومانسية في الطريق، ينصرف الرجل صاحب الغيتار في محطته، وتفقد لورا آلة التصوير، تفتّش عنها بعصبية، ويتكشّف لها أن الفتى الرقيق حامل الغيتار قد سرق لحظاتها السعيدة وغادر ليبيعها ببعض الأوراق النقدية.
هذا يوضِّح مدى سذاجة لورا، التي تظهر كفتاة دخيلة على المجتمع الروسي، لا تتحدث الروسية بطلاقة، ولا تفطن للأيدي الممتدة في جيوبها، فتصبح صيدًا سهلًا في بيئة قاسية، ودائمًا ما يضعنا المخرج في مقارنات، بين مدّعي الثقافة واللطافة والعامل غريب الأطوار ليوها، بين الطبقة الاجتماعية المتنورة في موسكو والطبقة العمّالية الكامنة في الظلام.
الحب كشعور بالواجب
يبرز ليوها كطرف ينتهج منهجية كانطية، نسبةً إلى الفيلسوف إيمانويل كانط، في الفلسفة الكانطية يمكن أن يختلط معنى الحب مع مصطلحات أخرى، مثل الاهتمام والرحمة والإعانة وغيرها من السمات الإنسانية الراقية.
مع الوقت يثبت ليوها أنه شخص جيد، يحتفظ بقلب طيب بين ضلوعه، وعليه يبادر بالمساعدة دون شروط، ويمنح اهتمامًا بمواقف ابنة لحظتها، يضمُّ من خلالها لفظة الحب مع مسمّيات أخرى، فكانط يؤكّد أن الإرادة الخيرة والواجب الأخلاقي هو ما يحرِّك الإنسان، وعليه جوهر الحب هو الشعور بالواجب الداخلي اتجاه الحبيب، والاعتناء به دون النظر إلى المقابل، لأن هذه ماهية الإنسان، وواجبه نحو الآخر.
وهذا بالضبط ما يفعله ليوها، عندما يعلم أن لورا لم تستطع الوصول إلى الكتلة الصخرية بسبب كثافة الجليد في فصل الشتاء، يجدِّد فيها الأمل عبر شبكة علاقاته في المدينة، ويصحبها في طقس قارس نحو الكتلة الصخرية، رغم أنه لم يعرفها سوى منذ أيام، هذا التفاعل يوضِّح مدى اكتراث ليوها لرفيقته، بيد أنه على الناحية الأخرى يفرغ شحنة عاطفية وإنسانية لديه، فهو لا يعامل لورا كوسيلة، بل كغاية في ذاتها، غاية يرى فيها نفسه كإنسان قادر على المنح والتضحية.
عندما نُشلَت آلة التصوير، وفي لحظات من البوح الاضطراري، ترسِّخ لورا لصدمة ضياع الماضي، تتحدث عن مقاطع الفيديو المخزَّنة داخل الكاميرا كذاكرة محدودة، ترتبط ارتباطًا كاملًا بموسكو، حفلات وتجمعات وضحكات، وتقتصر على ضيق العلاقة بين لورا وإيرينا.
بيد أن ضياع الكاميرا فتحَ مجالًا لرؤية أوسع للعلاقة من الداخل، وأتاحت للورا أن تنتزع رأسها من محبس الشاشة الصغيرة، وتدرك دون مؤثرات بصرية كيف كانت علاقتها بإيرينا مبتورة، وقائمة على أُسُس معيَّنة وشروط استهلاكية ترتبطُ بجودة الحياة ذاتها والرغبة في المتعة، لدرجة أنها لامت نفسها، فهي لم تفتقد إيرينا ككيان مستقل وطرف مؤثر في علاقة الحب، لم تشتَق إليها كحبيب، بل تشتاق إلى نظرتها إليها كإنسان، كيف تبدو في عينَيها، وإلى أي مدى ترى نفسها في أفعال إيرينا وأسلوب حياتها.
لا يوجد موضع شكلي للحب، لا يمكن وصفه في روشتة، أو بيعه في قناني زجاجية لدى العطّار، ولا يمكن أن نصنِّف العلاقة بين ليوها ولورا على أنها علاقة حب كامل، فهي الأخرى مقطوعة الامتداد والتوازن الزمني.
لذلك هي نوع خاصّ من الحب، حب عرضي، له حضور في محله فقط، وجوده يتلخّص في حدود فضاء المرور المحايد، في نطاق القطار أو الرحلة، أي أن ذلك الحب أسير العبور بين نقطتَين، لا يستطيع التحرر من الوجهة الأخيرة لأنه يتوقف بالوصول إليها، ويتحقق بسدّ الفراغ العاطفي الوقتي.
بيدَ أنه لا يملك النضج الكافي ليتحوِّر إلى علاقة طويلة المدى، فهي مجرد تفريغ عاطفي لا أكثر ولا أقل، إخلاء لمشاعر معيَّنة برقّة متناهية، وهذا ما يمنح الفيلم تفرُّدًا، لأن المخرج تمكّن في بيئة محدودة وضيّقة أن يصنع الكثير من لحظات التفريغ، الكثير من تطوير الدراما حدث في هذه الأفلمة لرواية صدرت بالاسم نفسه للكاتبة الفنلندية روزا ليكسوم، وقد فاز الفيلم بالجائزة الكبرى بمهرجان كان السينمائي في نسخته الـ 74، مناصفة مع فيلم المخرج أصغر فرهادي.