في العقل الجمعي العربي، خاصة في ظلّ دول ديكتاتورية، يضرب العرب الإعلام الغربي مثالًا للإعلام النزيه والشجاع، غير المواري للأنظمة الحكومية والضغوط السياسية، و”الصوت الحر” كما يسمّيه أساتذة الإعلام في الجامعات العربية، حين يضربونه نموذجًا لطلابهم حول كيف يجب أن تكون الوسيلة الإعلامية مهنيًّا، وكيف لا بدَّ للأنظمة أن تكون في حرّية سقفها السماء.
لكن المعادلة ليست بعالم وردي كما يخيَّل للمتلهفين، فخلال مراحل مقاومة الفلسطيني لمحتلّه، لم يكن العالم الغربي قادرًا على فهم مشروع النضال الفلسطيني و تأييد الحق الفلسطيني بكامل أرضه، بل رفع المقام ليساوي ما بين الضحية والجاني، والمقاومة والإرهاب، والآن معاداة الصهيونية بمعاداة السامية.
قبل يومين تقريبًا، فصلت شبكة “دوتشيه فيله” الألمانية 5 صحفيين عرب من لبنان وسوريا وفلسطين، على إثر منشورات انتموا فيها إلى القضية والحق الفلسطينيَّين، وأخضعوهم لتحقيق “بأثر رجعي” على كتابات لم يكونوا حينها موظفين في الشبكة، أو حتى زوار على الأرض الألمانية، والتهمة التي وجّهتها لهم الشبكة: “معاداة السامية”.
ألمانيا تعيش “عقدة الذنب”
قد تكون تهمة معاداة السامية ليست بالأمر الجديد في الساحة الغربية، تحديدًا ألمانيا، التي تنتمي في أفعالها إلى “إسرائيل” قلبًا وقالبًا، بحجّة التكفير عن خطئها في الهولوكست، حيث تتعاون ألمانيا بحكوماتها المتعاقبة مع الاحتلال الإسرائيلي سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، مزودةً الاحتلال بالسفن الحربية وغواصات “دولفين” التي يستخدمها في قصف قطاع غزة من أعماق البحر المتوسط.
في حديث سابق لرئيس كنيست الاحتلال الأسبق أفراهام بورغ، قال: “العلاقة الحميمية بين ألمانيا و”إسرائيل” تتجاوز اعتبارات المصالح وتعود جذورها للهولوكوست”، مشيرًا إلى أن ألمانيا ما زالت عالقة بعقدة الذنب في علاقاتها مع اليهود و”إسرائيل”، وأن “إسرائيل” تستثمر المحرقة لأغراض سياسية، ومصمِّمة على التمسُّك بثوب الضحية.
ورغم ادّعاء الشبكة معاداة الصحفيين المفصولين للسامية، إلا أن التحقيق أخذ منحى آخر أكثر عنصرية، ينمُّ عن رؤية تتواءم مع الفكر الصهيوني ضد القضية الفلسطينية، ففي حديثها لموقع “نون بوست”، تقول مرام سالم، إحدى الصحفيين الذين أصدرت شبكة “دوتشيه فيله” قرارًا بفصلهم، إن طبيعة الأسئلة التي وُجِّهت لها كانت عنصرية، حتى أنهم سألوها عن طبيعة نشأتها، وعلى أي مبادئ ترعرعت في ظلّ والدَيها، وعن حركة مقاطعة “إسرائيل” (BDS).
وتضيف سالم أنه لم يكن يوجد أي علامات وإشارات سابقة لقرار التحقيق والفصل، توحي بوجود حملة ضد الصحفيين الفلسطينيين، “ولكن هناك حملة لإسكات الصوت الفلسطيني بشكل عام، حيث أصدرت الشبكة بيانًا داخليًّا خلال فترة أحداث الشيخ جراح في مايو/ أيار 2021، يعمل على تقويض الرواية الفلسطينية والتأكيد على الرواية الإسرائيلية، وتمَّ تعميمه على جميع الموظفين، إضافة إلى أن “دوتشيه فيله” تستضيف كثيرًا ضيوفًا إسرائيليين دون استضافة الفلسطينيين، فهم دائمًا لديهم خطة على تأكيد الرواية الإسرائيلية”.
تهمة “معاداة السامية” ليست بالجديدة في الساحة الغربية، ولطالما طالت كل الأصوات المؤيدة للقضية الفلسطينية، وكانت دموع “إسرائيل” الكاذبة في الغرب.
بعد قرار الفصل، أعلن الصحفيون الخمسة نيتهم التوجُّه إلى القضاء الألماني، لرفع قضيتهم والمطالبة بإنصافهم، وحول ذلك تعبّر سالم عن أملها في إنصاف القضاء الألماني لهذه القضية الحساسة، وعن وجود ضغطٍ وحملة رأي عامٍّ لحمل الشبكة على تغيير سياساتها بحقّ الصحفيين الفلسطينيين، مؤكدةً على عدم نشرها ما يعادي السامية.
في الوقت ذاته، كانت لجنة التحقيق التي استجوبت الصحفيين مكوَّنة من أحمد منصور أبرز محاربي “الإسلام الراديكالي” في ألمانيا، ووزيرة العدل الألمانية السابقة زابينه لويتهويزر شنارنبرغر المسؤولة حاليًّا عن ملف معاداة السامية في ألمانيا، وقد أوصيا على إثر التحقيق بتنظيم زيارات للموظفين إلى “إسرائيل” وأماكن الهولوكست، في انكشاف واضحٍ لخيوط المؤامرة ضد الفلسطينيين.
تغلغل اللوبي الصهيوني
لطالما طالت اتهامات “معاداة السامية” كل الأصوات المؤيدة للقضية الفلسطينية، وخاصةً في الغرب، ففي منتصف يوليو/ تموز 2021، فصلت أمّ المدارس في المهنية الصحفية، شبكة “بي بي سي” البريطانية، الصحفية الفلسطينية تالا أبو حلاوة، بسبب منشورات لها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك حول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، واتهمتها بـ”معاداة السامية” حينها.
إن هذا التصعيد في الهجوم ضد الصحفيين الفلسطينيين والمؤيدين للقضية الفلسطينية، يعيد إلى المشهد حديث يهوشفاط هركابي، مستشار الأمن القومي في حكومة الاحتلال خلال سبعينيات القرن الماضي، حين قال: “لقد كان الرواد يعطون أهمية مضافة للإعلام ووسائل الاتصال، باعتبارها المرتكزات والمداميك للمشروع الصهيوني، ولذا ما زلنا نعمل بوسائل إعلامنا الكفوءة والمرتكزة على أيديولوجيتنا في الرأي العام وعرض قضيتنا العادلة على العالم”، وهو تحديدًا ما تقوم به جماعات الضغط الصهيونية “اللوبي الصهيوني” حاليًّا، لإسكات الرواية الفلسطينية عبر وسائل الإعلام الغربية.
خلف الكواليس، لم تصعد تهمة “معاداة السامية” إلى العلن بمحض الصدفة، بل تعكس جهودًا حثيثة يقوم بها “اللوبي الصهيوني” في الضغط على الأنظمة والمؤسسات، مستغلّة تنامي روح الحرية والمبادئ الإنسانية والعدالة الاجتماعية في العالم الغربي، لإثارة تهمة معاداة السامية وعداء اليهود كديانة، لتلاحق بها منتقدي سياساتها، والمناهضين لـ”إسرائيل” كاحتلال ارتكب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية، مع إدراكها عدم إمكانية وقوف الغرب أمام ادّعاء معاداة السامية، وغياب احتمالية صعود أصوات غربية -على الأقل- تستنكر محاربة “إسرائيل” لمعادي السامية.
ومن خلال زجّ مصطلح “معاداة السامية” في أدبيات الرواية الإسرائيلية المتباكية، تمكّن الإسرائيليون من إسكات جميع النقاشات حول الاحتلال، رغم المحاولات الفلسطينية الجادة لكسر إحكام “إسرائيل” والسيطرة الصهيونية على السردية المتعلقة بفلسطين والشرق الأوسط في وسائل الإعلام والحكومة والمجتمع ككلّ، وعليه تواصلُ “إسرائيل” الحفاظ على اليد العليا، كما فعلت على مدى عقود.
من ينصف الصحفي الفلسطيني؟
تسلِّط حادثة فصل الصحفيين الخمسة من “دوتشيه فيله” الضوء على واقع الصحفي الفلسطيني، الذي يتعرّض لمحاولات تكميم أفواه متكررة من قبل الاحتلال الإسرائيلي الذي يخشى من فضح جرائمه، ومن قبل السلطة الفلسطينية التي تتماهى مع السياسات الإسرائيلية في تنسيق أمني متواصل، وتنتهك الحريات والفضاء العام، وعندما يخرج الفلسطيني إلى الخارج طامعًا في مؤسسة تسند حقه، يواجه التطبيع في الدول العربية، و”معاداة السامية” في الدول الغربية، والهدف واحد: إسكات الرواية الفلسطينية.
وفي ظل غيابٍ للدعم الرسمي الفلسطيني، وعدم وجود سندٍ للفلسطيني سوى شعبه، وتواطؤ الدول حكومات وأنظمة على القضية الفلسطينية، يشعر الصحفي الفلسطيني بالعجز وغياب الحل أمام هذه التضييقات التي ترافقها محاربة مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما فيسبوك، للرواية الفلسطينية من خلال حذف الحسابات والمنشورات.
إلا أن الحل الذي أثبتَ نجاعته، خاصة في السنة الأخيرة، هو مواصلة الحديث الرقمي عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وتفعيل حملات الضغط والمناصرة عبرها، ولعلّنا جميعنا نذكر حين اجتاح العلم الفلسطيني كبرى عواصم العالم خلال الاعتداءات الإسرائيلية في مايو/ أيار 2021، نتيجة تفعيل القضية بشكل مكثّف رقميًّا، بالنهاية قيادات العالم تجتمع علينا، ونحن صوت أنفسنا.
في الوقت ذاته، أثبتت حركة مقاطعة “إسرائيل” (BDS) جدارتها في الميدان الغربي، حتى وصل صوت إزعاجها للجماعات الصهيونية مرامي أروقة صنع القرار، لتصنِّفها عدد من الدول كمنظمة إرهابية، منها ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعدما نجحت الحركة في سحب استثمارات العديد من المؤسسات الاستيطانية، وفعاليتها في تأليب الشعوب الغربية تجاه القضية الفلسطينية والحق الفلسطيني، وترسيخ فكرة دولة الاحتلال كدولة عنصرية استعمارية.
قبل 80 عامًا، ارتكبت دولة ألمانيا كبرى جرائمها النازية بحقّ اليهود فيما يُعرَف باسم الهولوكوست، واليوم ما زالت ألمانيا تعاني من “عقدة الذنب” وتفتح للصهيونية أبوابها، وتوصدها أمام الفلسطينيين وكل متضامن مع قضيتهم بحجّة “معاداة السامية”، غافلة أن جرائم الاحتلال المرتكبة بحقّ الفلسطينيين مستمر منذ أكثر من 70 عامًا، وما زالت حتى اللحظة مخضَّبة بالدماء الفلسطينية الزكية.