تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بإغلاق خط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم 2” كتحذير مباشر لروسيا حال غزوها لأوكرانيا، وذلك على هامش المحادثات التي أجراها مع المستشار الألماني أولاف شولتز في واشنطن لبحث سبل ردع التهديدات الروسية شرق أوروبا. ويأتي لقاء بايدن – شولتز في إطار التنسيق الغربي لمواجهة التصعيد في الأزمة الأوكرانية في أعقاب الحشد العسكري الروسي على الحدود، متزامنًا مع اجتماع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة موسكو، أمس الإثنين.
ويمثل مشروع نقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق بأنبوب مزدوج “نورد ستريم 2” أو “السيل الشمالي 2” (يتجاوز طول كل فرع منه 1230 كيلومترًا، وبذلك يكون أطول خط أنابيب تحت مياه البحر) أهميةً كبرى في تقليص حجم أزمة الطاقة في أوروبا، وسط مخاوف أمريكية أوكرانية من توظيفه كورقة ضغط جيوسياسية بيد الروس.
التلويح بغلق المشروع الذي تم الإعلان عنه في 2017، وبدأ العمل عليه في 2018 بميزانية 10 مليارات يورو (11.5 مليار دولار)، ويستطيع نقل نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز لأوروبا سنويًا، يحمل الكثير من الخسائر الاقتصادية والسياسية لبعض القوى، مقارنة بحجم المكاسب التي يمكن أن تحققها دول أخرى حال إغلاقه بالفعل أو عرقلة عمله في الوقت الراهن.
يذكر أن المشروع اكتمل بصورة نهائية من تدشين بنيته التحتية في سبتمبر/أيلول الماضي، ويتوقف تشغيله فعليًا على موافقة الهيئات التنظيمية في ألمانيا والاتحاد الأوروبي، والمتوقع الحصول عليها في النصف الثاني من العام الحاليّ، ما لم يطرأ طارئ يعيد جدولة الخطة المرسومة لتشغيل الخط.
أوكرانيا: الأكثر تأثرًا
يمثل هذا المشروع ضربةً موجعةً للاقتصاد الأوكراني، فدخوله حيز التنفيذ سيكبد كييف خسائر بنحو مليارين إلى 3 مليارات دولار سنويًا من رسوم العبور، كما سيحول شبكات نقل الغاز في أوكرانيا التي تمثل موردًا مهمًا لإنعاش خزانة البلاد إلى “خردة” بجانب خسارة آلاف الأوكرانيين لوظائفهم في تلك الشبكات، فضلًا عن تقليص ثقلها اللوجستي كونها الممر الآمن للربط بين مصادر الطاقة الروسية والسوق الأوروبي.
وتمتلك أوكرانيا ثاني أكبر شبكة لنقل وتوزيع الغاز في أوروبا، إذ تضم نحو 37.1 ألف كيلومتر من الأنابيب الرئيسية، بجانب أكثر من 70 محطةً للضغط، ونحو 13 منشأةً للتخزين تحت الأرض، بقدرات استيعابية تبلغ نحو 32 مليار متر مكعب (حوالي 21.3% من الحاجة السنوية للغاز في أوروبا).
تجد ألمانيا نفسها في مأزق أمام دورها السياسي إزاء تلك الأزمة المندلعة الآن في أوكرانيا، وسط ضغوط تتعرض لها من الولايات المتحدة وبعض الدول الأعضاء في الناتو لاستخدام خط الغاز “نورد ستريم 2” كورقة ضغط في مواجهة روسيا لردعها عن أي توغل يستهدف الدولة الأوكرانية
وتواجه كييف أزمة غير مسبوقة في الطاقة، فرغم امتلاكها 4 محطات للطاقة النووية وعشرات محطات توليد الطاقة الحرارية والكهربائية، بجانب عدد من محطات توليد الطاقة الكهرومائية على نهري دنيبر ودنيستر، فضلًا عن مناجم الفحم التي كانت تقدم المواد الخام لتوليد الطاقة الحرارية والكهربائية، فإنها تعاني من نقص حاد في المصادر لا سيما الغاز والفحم، وتعمقت تلك الأزمة مع تدهور العلاقات مع روسيا منذ احتلال شبه جزيرة القرم في 2014.
كان الأوكرانيون يعولون على المقابل المادي المحصل من رسوم عبور الغاز الروسي إلى أوروبا لتعويض العجز في الطاقة من خلال استيرادها من الدول الأوروبية، غير أن تشغيل خط “نورد ستريم 2” سيفقدها هذا المورد المهم وربما يدفعها لتقديم تنازلات للحصول على موارد الطاقة من روسيا ذاتها ودول الجوار.
وكان اعتماد شركة “غازبروم” الروسية على خطوط نقل الغاز الأوكرانية لتوصيل الغاز الروسي للاتحاد الأوروبي، الضمانة الأبرز والرادع الأقوى ضد اتخاذ موسكو أي إجراء أو تحرك يزعزع الاستقرار في أوكرانيا، إلا أنه ومع دخول خط الغاز الجديد حيز التنفيذ ستفقد أوكرانيا تلك الضمانة، ما يجعلها عرضة للاستهداف الروسي.
برلين: خسائر متنوعة
تواجه ألمانيا موقفًا صعبًا إزاء تلك المسألة، فالمشروع الذي وافقت عليه قبل 5 سنوات وباتت على بعد أمتار قليلة من منحه الضوء الأخضر للتشغيل الذي من المتوقع أن يعالج أزمة الطاقة المتفاقمة التي تعاني منها منذ قرارها الابتعاد عن الوقود الأحفوري والتخلي عن الطاقة النووية، يواجه عقبات وتحديات سياسية.
ترى برلين في “نورد ستريم 2” وسيلةً لضمان أمن الطاقة في البلاد، تزامنًا مع القفزات الجنونية في معدلات احتياجات ألمانيا من الطاقة النظيفة الذي يعد الغاز الطبيعي أحد أبرز أضلاعها، بما يعوض التداعيات المرتقبة للتخلي التدريجي عن الطاقة النووية وإغلاق جميع محطات توليد الكهرباء العاملة بالفحم بحلول عام 2038.
وتتمثل أهمية المشروع الجديد بالنسبة لأوروبا بصفة عامة كونه يلبي ثلث الطلب المستقبلي من الغاز لدول الاتحاد، وبكلفة أقل بـ25% عن فاتورة استيراده الحاليّة عبر الخطوط الأوكرانية المكلفة إلى حد ما في رسوم عبورها، كونه يربط بين روسيا وألمانيا مباشرة عبر بحر البلطيق.
وفي الجهة الأخرى تجد ألمانيا نفسها في مأزق أمام دورها السياسي إزاء تلك الأزمة المندلعة الآن في أوكرانيا، وسط ضغوط تتعرض لها من الولايات المتحدة وبعض الدول الأعضاء في الناتو لاستخدام خط الغاز “نورد ستريم 2” كورقة ضغط في مواجهة روسيا لردعها عن أي توغل يستهدف الدولة الأوكرانية، وهو ما قد يعرضها لخسارة اقتصادية كبيرة حال وقف المشروع عن التشغيل.
هدف روسيا المحوري من وراء هذا المشروع، بجانب تعزيز وجودها في السوق الأوروبي، هو تقسيم الوحدة في الاتحاد الأوروبي والناتو
وردًا على مخاوف برلين من خسارة المكاسب المتوقع تحقيقها حال دخول الخط الجديد حيز التنفيذ، ذهب البعض إلى أن دول أوروبا لن تتأثر كثيرًا مع تعليق العمل في المشروع أو إلغائه في الوقت الراهن، فتلك البلدان ستحصل على الغاز عبر الخطوط التقليدية القادمة عبر الأراضي الأوكرانية حتى لو كانت بكلفة أعلى في مقابل المكاسب السياسية المتوقعة باستخدام هذا المشروع كورقة ضغط ضد موسكو.
وكانت واشنطن قد عرقلت المشروع شهورًا عدة خلال ولاية دونالد ترامب وذلك بفرض عقوبات على الشركات المنفذة والمشاركة في بنائه، لكن بعد انتخاب جو بايدن رفعت تلك العقوبات بحجة أن المشروع “بات أمرًا واقعًا”، إذ كان يهدف الرئيس الجديد لتحسين علاقات بلاده مع برلين التي ساءت خلال حكم ترامب، لكنه اشترط حينها تقديم ضمانات ألمانية لكييف بعدم استخدام روسيا المشروع للضغط على أوكرانيا.
روسيا: تهديد نفوذها أوروبيًا
منذ أن تم الإعلان عن المشروع لأول مرة في 2015 عارضته الولايات المتحدة وأوكرانيا وبريطانيا في ذلك الوقت رغم موافقة بعض دول الاتحاد الأوروبي، محذرين من أن المشروع بصيغته المطروحة سيزيد من نفوذ موسكو في الداخل الأوروبي ويجعلها وصيةً على أسواق الطاقة في القارة العجوز.
بعض المحللين أشاروا إلى أن هدف روسيا المحوري من وراء هذا المشروع، بجانب تعزيز وجودها في السوق الأوروبي، هو تقسيم الوحدة في الاتحاد الأوروبي والناتو، إذ كان خط الأنابيب الجديد هو الوسيلة المثلى لتحقيق هذا الهدف كما ذهبت الباحثة البارزة في مركز أبحاث صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة، كريستين بيرزينا، في تصريح لـ”سي إن إن” يناير/كانون الثاني الماضي.
ويتفق مع هذا الرأي الخبير الاقتصادي في مركز صوفيا للدراسات، أندري يرمولايف، الذي ألمح إلى أن روسيا وعبر ورقة الغاز تمارس ضغوطًا قويةً على أوروبا تدفعها لإعادة التطبيع معها بعد القطيعة في 2014، وذلك حين تهيمن بشكل كبير على سوق الطاقة الأوروبي الذي يعاني من نقص حاد في إمدادات الغاز في ظل الاحتياجات المتصاعدة.
الأمر ذاته مع الأوكرانيين، حيث تدفع موسكو عبر تحول مسار نقل الغاز من شبكات النقل الأوكرانية إلى الأنابيب المزدوجة تحت بحر البلطيق، كييف إلى تطبيع العلاقات مع الانفصاليين الداعمين للروس في الشرق، فيما يبدو كأنه اعتراف رسمي بهم، وذلك عبر استيراد الفحم منهم لتعويض العجز الذي تعاني منه، المتوقع أن يتفاقم بعد فقدانها العملة الصعبة التي كانت تحصل عليها كرسوم عبور للغاز الروسي عبر أراضيها.
وهكذا يمارس طرفا النزاع في الأزمة الأوكرانية، روسيا والغرب، لعبة “شد الحبل” بشكل سجالي، كل طرف يستخدم ما لديه من أوراق ضغط لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، مع الحفاظ على شعرة معاوية التي تجنب إحراق الحبل بطرفيه، فيما يقف الأوكرانيون في انتظار مصيرهم الذي بات على الأرجح بأيدي لاعبين من الخارج.