ترجمة وتحرير: نون بوست
بحلول تموز/ يوليو القادم، تكون قد مرت على مصر 70 سنة من الحكم العسكري. وباستثناء الفترة الانتقالية التي دامت سنة واحدة ما بين 2012 و2013 مع الرئيس الراحل المنتخب محمد مرسي الذي أطاح به الجيش في انقلاب عسكري، تمتع الضباط في مصر بسلطة مطلقة وقبضة من حديد مُسجّلين رقمًا قياسيًا كأطول حكم ديكتاتوري عسكري.
لكن هذه الاستمرارية السياسية للحكم العسكري لا تعزى إلى إنجازات ما وصفه المحلل يزيد صايغ بـ “جمهورية الضباط“. في الواقع، تشهد التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية النسبية لمصر، سواء بمقارنتها إقليميًا أو عالميًا، حالة تدهور منذ فترة طويلة وإن كانت مستوياتها متفاوتة باختلاف الفترات الزمنية. لقد انحدرت مصر من كونها الدولة العربية الأكثر تطورًا في سنة 1952 القادرة على إبراز قوتها الصلبة والناعمة على الصعيد الإقليمي العالمي، إلى لاعب ثانوي في العالم بل وحتى في منطقة الشرق الأوسط.
في الوقت الحالي، باتت مصر تتأثر بما يحدث في البلدان المجاورة مثل لبنان وسوريا والسودان وليبيا، بعد أن كانت تضطلع بدور فاعل في تشكيل سياسة المنطقة. تعاني الموارد البشرية المصرية، التي كانت الأكبر والأكثر تطورًا في العالم العربي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تدهورًا قياسيًا بعد فشل النظام التعليمي والصناعي وقطاع الخدمات في مجاراة الدول المنافسة لها على المستوى الإقليمي.
تعثر أداء جمهورية الضباط يثير عدة تساؤلات حول العوامل التي ساهمت في بقائهم في الحكم، خاصة بالنظر إلى أن الجيوش التي لم تُحسن إدارة السلطة في إسبانيا واليونان والأرجنتين والبرازيل وتشيلي ونيجيريا وكوريا الجنوبية وتايوان وأماكن أخرى جرى الإطاحة بها.
حتى الهزائم العسكرية الكارثية، على غرار تلك التي حفّزت التمردات الشعبية ضد العقيد اليوناني والجنرالات في الأرجنتين، لم تُطح بجمال عبد الناصر أو أنور السادات في مصر – على الرغم من اتعاظ كل من حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي منها بعدم إشراك القوات المسلحة في أي معركة.
الحفاظ على السلطة
منذ ذلك الحين، تبدد التبرير الأيديولوجي للحكم العسكري الذي تعود جذوره في الأصل إلى مناهضة الاستعمار والقومية العربية وبات من الصعب تحديد موقف الجيش المصري عدا الحفاظ على سلطته ونفوذه – أو ضمان تماسك الأمة على حد تعبير ضباطه. لكن تحقيق الهدف الأول يتناقض مع الهدف الثاني. وحتى لو كان صائبًا، فإن تبرير الحكم العسكري القائم على المبدأ الفرنسي “من بعدنا الطوفان” يفتقر إلى جاذبية الأيديولوجيات التحفيزية التي روّج لها الجيش سابقًا.
في ظل غياب عوامل إيجابية تكسبه شرعيّة، يعتبر القمع من العوامل السلبية التي تُفسّر تواصل الحكم العسكري في مصر طيلة 70 سنة. لا شك أن القمع منتشر منذ استخدمه عبد ناصر لأول مرة الذي مزج بين الممارسات الاستعمارية البريطانية ومؤسساتها وممارسات النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية ومؤسساته لخلق جهاز أمن ضخم حقيقي.
من الناحية التنظيمية، لم يشهد النظام المصري تغييرات ملحوظة عدا عن كونه يسجل حاليًا أرقامًا قياسية قاتمة من حيث تزايد أعداد السجناء السياسيين وجرائم التعذيب وأحكام الإعدام والرقابة وقمع أي شكل من أشكال التعبير السياسي المستقل.
مع أن القمع من السياسات الأساسية التي تقوم عليها الديكتاتوريات العسكرية، إلا أنه غير كافٍ لتفسير سرّ صمود الحكم العسكري في مصر لفترة طويلة. كان بقية الضباط العرب الذين أصبحوا “رؤساء مدى الحياة”، على غرار الرئيس اليمني علي عبد الله صالح والرئيس الليبي معمر القذافي، يتسمون بنفس القدر من الوحشية مثل نظرائهم المصريين الذين تولوا الحكم بعد عبد الناصر – لكن على عكسهم، لم يرثوا السلطة ولم يورّثوها.
وحتى مع تصفية آلاف المعارضين بما في ذلك رميهم في المحيط الأطلسي من طائرات الهليكوبتر، تمت الإطاحة بحكم جنرالات الأرجنتين. ومثلما توضح هذه الحالات وعدد لا يحصى من الحالات الأخرى، يظل القمع أداة حتمية لديمومة أي حكم العسكري.
التكيّف مع العصر
حسب ما تكشفه تجارب الإطاحة بالحكم العسكري، فإن القمع لا يكفي لضمان بقاء في السلطة إلى الأبد. في حين أن الجهاز القمعي في مصر لا يعلى عليه، تُظهر شجاعة ملايين المصريين الذين خرجوا إلى الشوارع احتجاجًا على هذا النظام في 2011-2012 أنه ليس حصنًا منيعًا يمكن الاختباء خلفه إلى أجل غير مسمى.
حسب المحللة زينب أبو المجد، فإن السر وراء النجاح السياسي الدائم للجيش المصري هو قدرته على التكيّف مع مختلف الأنظمة المتعاقبة. لم يسر الرؤساء العسكريون على خطى أسلافهم بشكل أعمى، وإنما عمل كل منهم على إيجاد تبريرات أيديولوجية تتناسب مع حكمه وتتكيّف مع عصره. كما سعى كل رئيس مصري عسكري إلى إجراء تعديلات في النموذج الاقتصادي مع التلاعب بالمؤسسات والمنظمات السياسية.
عدّل الرؤساء المصريون المتعاقبون استراتيجياتهم المضادة للانقلابات على ضوء شبكة العلاقات التي نسجُوها مع الأجهزة العسكرية والأمنية. كما سعى كل رئيس إلى تشكيل علاقات خارجية من شأنها أن تضمن الدعم لنظامه، وهو عامل على نفس القدر من الأهمية عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على السُّلطة.
تبنى الحكم العسكري في عهد عبد الناصر نظام الاشتراكية واتبع سياسة التصنيع لاستبدال الواردات إلى جانب الاعتماد الشديد على الاتحاد السوفيتي ومناشدة القومية العربية. وحتى صيف 1967، استند عبد الناصر في وضع استراتيجية مضادة للانقلابات على صديقه المقرّب عبد الحكيم عامر، في حين استمد قوته من القاعدة السياسية لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي كان نسخة عن الحزب الشيوعي اليوغوسلافي.
تخلى السادات عن معظم أعباء العلاقات الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والخارجية من خلال تبني سياسة نيو ليبرالية اقتصادية، والتحالف مع الولايات المتحدة وإرساء نظام سياسي متعدد الأحزاب. لدرء مخاطر الانقلابات المحتملة، عمل السادات على تغيير القيادات العليا بشكل مستمر وتصفية من كان لهم طموحات سياسية مقلقة.
من جانبه، دمج مبارك نهج عبد الناصر والسادات من خلال إيجاد أرضية مشتركة بينهما من حيث السياسات الاقتصادية والخارجية والترتيبات السياسية الداخلية. وفيما يتعلق بالاستراتيجية المضادة للانقلاب فقد نسج على منوال عبد الناصر من خلال منح وزير الدفاع اللواء محمد حسين طنطاوي سيطرة شبه مطلقة على الجيش إلى جانب التمتع بالحوافز الاقتصادية التي قدمها الاقتصاد العسكري ممتد الأذرع.
كسر النمطية
لابد من تجنب المبالغة في تقدير قدرة هؤلاء الرؤساء الثلاثة على التكيّف مع عصورهم. بحلول سنة 2011، كان النظام العسكري لا يزال يشبه إلى حد كبير النظام الذي تأسس في أعقاب انقلاب 1952. وقد استند إلى الثقل المؤسسي وتماسك الأجهزة العسكرية والأمنية التي استُبعد منها أبناء الرؤساء، على عكس نظرائهم في العراق واليمن وليبيا حيث كان الأبناء يهيئون لخلافة آبائهم.
ظلت الأجهزة الحكومية والقطاع العام مترامي الأطراف من الجهات المشرفة الرئيسية للدولة واقتصادها ومثلت القواعد الرئيسية للدعم السياسي، لا سيما في الانتخابات. انتقلت سياسة العلاقة الخارجية الرئيسية لمصر من التحالف مع الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة، مع الحفاظ على مبدأ الاعتماد على قوة أجنبية واحدة داعمة.
كان السيسي أكثرهم تكيّفًا، من خلال القطع مع نمط الحكم العسكري المتوارث – أو بالأحرى إعادة تشكيل نموذج حكم يتماشى مع أجندته. لم يتخذ أحدًا من أسلافه قدوةً له، وإنما حذى حذو ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وكان ذلك جليًا في نهج الحكم الذي تبنّاه السيسي.
بقدر أهمية آل نهيان بالنسبة لبن زايد، فإن الجيش يمثل بالنسبة للسيسي الحاشية المقربة التي تدعم أجندته السياسية. وكما هو الحال في أبو ظبي والإمارات، حيث يشغل أعضاء من العائلة مناصب عليا في مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية، يتمتع ضباط الجيش في نظام السيسي بنفس الامتيازات. وفي كلتا الحالتين، يضطلع أبناؤهما بأدوار رئيسية في الأجهزة القمعية.
منح الأبناء أدوارًا قيادية يضمن استمرارية الحكم، ويعدهم كخلفاء. كما يلعب هؤلاء الأبناء دورا في منع حدوث انقلابات على حكم آبائهم، ويشرفون على نظام المخابرات الذي تعود جذوره إلى العلاقات الشخصية التي طورها كل من بن زايد والسيسي أثناء الخدمة العسكرية.
أنشأ كلاهما مؤسسات تعليمية واقتصادية وشبكة ولاءات تقوم على توظيف كوادر على قدر من الكفاءة تكون موالية للنظام الحاكم. وهو نهج يشبه إلى حد كبير السياسة المتبعة في الصين لتجنيد وإعداد كوادر موالية للحزب الشيوعي.
هوس العظمة
إن فلسفة السيسي الاقتصادية قائمة على نموذج مشايخ الخليج، وأساسها هوس العظمة، وهو ما ترمز له المباني الشاهقة والمشاريع الضخمة، التي يظهر من خلالها الحاكم القدرة على الانتقال بالبلد من الصفر إلى مرحلة الازدهار والمنافسة.
ومن شأن المشاريع الضخمة تعظيم صورة الحاكم ورؤيته ناهيك عن كونها تقدّم فرصًا مجزية للمقّربين منه. لكن الوضع المالي مختلف، فمصر تعاني من شح الموارد اللازمة لتمويل هذه المشاريع وتحتاج إلى الاقتراض مقابل توفّرها بسهولة في دول الخليج بفضل الإيرادات الضخمة للنفط. وهذه النزعة التنموية المشوهة ليست سوى أداة أيديولوجية سياسية لترهيب السكان وإخضاعهم.
هذا النموذج المستمد من الخليج لا يترك مجالًا كبيرًا في مصر للخدمة المدنية التقليدية أو القطاع العام أو الحزب السياسي المهيمن أو حتى البرلمان. وبالفعل، يظهر السيسي ازدراءً لجميع هذه العناصر ولا يرى أهمية لوجودها وذلك بسبب اعتماده في إدارة الحكومة والاقتصاد والنظام السياسي على الأجهزة الأمنية والاستخبارات العسكرية، التي جردت المؤسسات المدنية من الكثير من صلاحياتها.
إلى جانب العديد من الهيئات المالية المستقلة الأخرى، يُدار صندوق الثروة السيادي مثل صندوق “تحيا مصر” مباشرة من قبل الرئيس ـ وليس من قبل الإدارة أو البرلمان أو أي هيئة عامة أخرى.
لا يشعر السيسي بأنه مضطر إلى تكوين دوائر انتخابية سياسية كما فعل أسلافه. وفي الأثناء، تُترك الطبقة الوسطى للتشبث بوظائف القطاع العام التي تشهد تقلّصا؛ وتتخلى النقابات عن دعم العمال في ظل فقدان أهميتها؛ أما رجال الأعمال فلم يبق لهم سوى نصيب متضائل من الاقتصاد الذي يهيمن عليه الجيش؛ فيما يفتقر المزارعون إلى خدمات المؤسسات الزراعية بسبب تفضيل الدولة دعم المشاريع الزراعية الضخمة التي تسيطر عليها الشركات المرتبطة بالجيش أو المستثمرون الأثرياء.
بدائل محتملة للوضع الراهن
إن السبب وراء بقاء السيسي في الحكم لا يعود إلى تكوين شبكة ولاءات وتحالفات قبلية كما هو الحال بالنسبة لمعظم حكام الخليج. تُثار الأسئلة والشكوك حول ما إذا كان الجيش قادرًا على الاحتفاظ بولاء المواطنين مع تقويض العقد الاجتماعي الذي كان يرتكز عليه سابقًا.
هناك بديلان للوضع الراهن، إما استبدال الجيش للسيسي أو الإطاحة به هو وجيشه معًا. ينطبق السيناريو الأول على مبارك، نظرا لأن مصلحة الجيش في ذلك الوقت اقتضت التخلص من الرئيس الذي أصبح هدفا للاحتجاجات الشعبية. ربما يحدث انقلاب استباقي بقيادة الإدارة العليا، كما حدث في سنة 2011، أو انقلاب ينفذه فصيل منشق من الجيش يكون مستاءً من سياسات الرئيس والقيادة العليا.
لعل الهوة بين الضباط الملتزمين بالخدمة العسكرية وبين أولئك – الذين هم عادة أعلى رتبة – المسؤولون عن جني المكاسب من الاقتصاد العسكري تمثل أحد خطوط الصدع المحتملة. يمكن أن تتفاقم التوترات بين هذه المعسكرات بسبب الفشل في التصدي بشكل مناسب لبعض التحديات العسكرية، التي قد تنشأ في الدول المجاورة مثل ليبيا والسودان وإثيوبيا.
يبدو السيناريو الأول أقل احتمالاً، بالنظر إلى أن درجة تغلغل السيسي وسيطرته على سلك الضباط – الذي أسسه خلال خدمته في المخابرات العسكرية – واستخدامه لأبنائه وزملائه السابقين كعملاء للتجسس وتوظيفه للضباط على أساس المحسوبية يتجاوز إلى حد كبير ما فعله مبارك. ومن المرجح أن تظل القيادة العليا للسيسي موالية له، بينما من غير المرجح أن ينطبق ذلك على صغار الضباط.
مفارقة عجيبة
من الصعب تصوّر تنحي السيسي والجيش عن السلطة. ولن يتكرر ما حدث في في سنة 2011. كما تبين في سنة 2013، فإن نظام السيسي كان مستعدًا لإطلاق النار على المعارضين، وقام بتحييد الإسلام السياسي المنظم، على الأقل في المستقبل المنظور. وهذا يترك سيناريوهات أكثر راديكالية مثل الانهيار الشامل للنظام في ظل تنامي الأزمات الاقتصادية أو السياسية مما يؤدي إلى تفكك الأجهزة العسكرية والأمنية.
من بين التطورات التي قد تطرأ على هذا السيناريو ضلوع جهة خارجية في زعزعة استقرار نظام السيسي. أما السيناريو شبه المستحيل، فهو أن يقرر السيسي التنحي لصالح حكومة مدنية، لكن المعطيات على أرض الواقع تشير إلى أن هذا لن يحصل.
تكمن المفارقة العجيبة في استمرار الحكم العسكري في مصر في الوقت التي تشهد فيه البلاد تدهورًا نسبيًا. وكلما استمر التدهور وازدادت الظروف سوءًا، زادت قدرة الجيش على تبرير دوره باعتباره حامي الأمة.
ربما يكون هذا التناقض أفضل تفسير لطول مدة الحكم العسكري في مصر. ولو أنه نجح في دفع عجلة التنمية في البلاد – كما فعل الحكم العسكري في كوريا الجنوبية إلى حد ما – لربما توّلدت قوة ملتزمة بما يكفي لتحل محله. لكن للأسف، إن قصور الحكم هو السبب في قدرة النظام العسكري على الصمود حتى الآن.
المصدر: ميدل إيست آي