تسعى حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الوقت الراهن إلى العودة نحو تبنّي سياسة “تصفير المشاكل” مع كافة جيرانها، ومدّ جسور التعاون المتبادل والعلاقات الودّية مع مختلف خصومها على الساحة الإقليمية والدولية، وتسوية الخلافات والنزاعات المريرة التي انخرطت فيها أنقرة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي.
ويكشف النشاط الدبلوماسي المحموم والزيارات المكوكية لكل من الرئيس أردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، والتصريحات الودّية الصادرة من قبل قيادات الحكومة التركية؛ بجلاء جهود ومساعي أنقرة الدؤوبة من أجل إنهاء صراعاتها المريرة وأزماتها المتعددة مع الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، وإنهاء تلك النزاعات التي استنزفت الكثير من إمكانات ومقدرات كافة الأطراف، وخرج الجميع منها خاسرًا.
مساعي التقارب مع الإمارات والسعودية والبحرين، والتطبيع مع “إسرائيل”، وإعادة العلاقات مع مصر وإنهاء الخلافات بين البلدَين، والتفاوض مع اليونان، وتطبيع العلاقات مع أرمينيا، والتهدئة بين طرفَي الصراع في ليبيا، وتقديم مبادرة للوساطة بين أوكرانيا وروسيا، تأتي في إطار إحياء حكومة أردوغان للسياسة الخارجية التي تبنّتها وطبّقتها في العقد الأول من حكم حزب التنمية والعدالة، أي تصفير المشاكل مع الجيران وإقامة علاقات إقليمية متوزانة، ومدّ جسور التعاون الاقتصادي وتسوية الخلافات بالطرق السلمية، والوقوف على مسافة واحدة بين كافة أطراف الصراعات والأزمات الإقليمية والدولية.
نظرية تصفير المشاكل
في كتابه “العمق الاستراتيجي”، الصادر عام 2001، طرح رئيس الوزراء التركي الأسبق والقيادي السابق بحزب العدالة والتنمية، أحمد دواد أوغلو، ملخّصًا لسياسة “تصفير المشاكل”، التي تتمحور حول “بناء علاقات إقليمية تقوم على الاحترام المتبادل، والحوار، والتعاون الاقتصادي، وحلّ الخلافات بالطرق السلمية، واستيعاب التنوع العرقي والديني”.
وبالفعل بدأت حكومة التنمية والعدالة تطبيق تلك السياسة مع تولّيها السلطة عام 2002، واتّجهت نحو تحسين علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، حيث ازداد حجم التبادلات الاقتصادية مع الدول العربية وإيران، كما رفعت أنقرة القيود التي كانت مفروضة للحصول على تأشيراتها لدول جوارها.
بالإضافة إلى الاضطلاع بدور الوسيط في أعقد الصراعات في المنطقة، عبر التفاوض على استئناف المحادثات بين باكستان وأفغانستان، وسوريا و”إسرائيل”، وكذلك فتح وحماس، ودفع السنّة العراقيين للانخراط في العملية السياسية الوليدة في العراق، ومحاولات الوساطة بين الفرقاء في لبنان.
ومن أبرز الاتفاقيات التجارية اتفاقية التجارة الحرة مع سوريا وتونس والمغرب عام 2004، ومصر والسلطة الوطنية الفلسطينية عام 2005، كما وقّعت على عدة اتفاقيات اقتصادية مع المملكة العربية السعودية التي تمثّل الشريك التجاري الأكبر في المنطقة، ووقّعت اتفاقية مع دول مجلس التعاون الخليجي في مايو/ أيار 2005، كما اتّجه الأتراك إلى تحسين العلاقات مع روسيا، وهو ما تجسّد في إنشاء “مجلس التعاون عالي المستوى” عام 2010.
وفيما يتعلق بمنطقة القوقاز، التزمت السياسة الخارجية التركية بمبدأ الحفاظ على وحدة أراضي بلاد القوقاز واستقرارها السياسي والاقتصادي، وهو ما تُرجم إلى إحياء مبادرة “منبر التعاون والاستقرار في القوقاز”، كما تحسّنت كثيرًا علاقات تركيا مع جارتَيها في البلقان بلغاريا ورومانيا، وحلّت مشاكلها الأساسية معهما.
ووفقًا للسياسة نفسها كانت المبادرة التركية عام 2005 بالموافقة على خطة كوفي أنان لحلّ المشكلة القبرصية، وكادت تركيا أن تحقِّقَ انفراجة كبيرة ومعجزة تاريخية في ملفّ الأزمة الأرمينية، بل عقد تسوية تاريخية مع حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان.
سياسة المسافة الواحدة
رفعت حكومات حزب العدالة والتنمية شعار سياسة المسافة الواحدة من كل القوى والدول، ونجحت في ذلك لفترة معيّنة بدا خلالها المشهد الإقليمي متقدمًا نحو وضع يسوده الاستقرار، نتيجة الدور الإيجابي الذي لعبته أنقرة في النزاعات الإقليمية، وبعضها كان ولا يزال من النوع التاريخي والحسّاس جدًّا، مثل الصراع العربي الإسرائيلي والعلاقات بين الدول العربية والصراعات الإثنية والدينية في البلقان والقوقاز.
تحول دراماتيكي
مع اندلاع ثورات الربيع العربي وسقوط بعض الأنظمة العربية العتيدة في تونس ومصر وليبيا واليمن، وتحوُّل الثورة الشعبية في سوريا إلى ساحة حرب دامية، انخرطت الحكومة التركية في تلك الصراعات المريرة، وأعلنت انحيازها للثورات الشعبية، غير أن دعم أنقرة لثورات الربيع العربي أدخلها في صراعات مع الأنظمة العربية في دول الخليج، المعادية لتلك الثورات ولتطلُّعات الشعوب العربية نحو الديمقراطية.
ومع الفشل الذريع والسريع لثورات الربيع العربي، وهزيمة وسقوط الإسلاميين في مصر ومن بعدها تونس، وتدهور الأوضاع في اليمن وسوريا وتكريس الانقسام في ليبيا، وانتصار قوى الثورة المضادة والأطراف الداعمة لها، باتت الحكومة التركية في وضع أشبه بالعزلة والخصومة مع مختلف الأطراف الفاعلة على الساحة الإقليمية والدولية.
ومع اتّهام حكومة أردوغان للإمارات بالوقوف وراء الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016، ثم حدوث أزمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، تدهورت بشدّة علاقات أنقرة مع الرياض وأبوظبي، ومن قبلها مع مصر منذ الإطاحة بالرئيس الإسلامي الراحل محمد مرسي.
كما كرّس دعم أنقرة لقطر في الأزمة الخليجية، الخصومة بين تركيا وكل من السعودية والإمارات والبحرين، ومعهم مصر فيما سُمّي برباعي المقاطعة العربية.
كما تجدّدت أزمات تركيا مع “إسرائيل”، وفشلت محاولات التطبيع بين البلدَين إثر الاحتجاج التركي البالغ على اعتداءات “إسرائيل” المتكررة على قطاع غزة المحاصر، وتوتّرت الأوضاع كثيرًا مع اليونان وقبرص إثر النزاع على حقول الغاز في البحر المتوسط.
ولم يكن الأمر أفضل مع الولايات المتحدة بسبب صفقة الصورايخ الروسية، وتلويح الرئيس الأمريكي بدعم المعارضة التركية، كما تجدّد النزاع وتصاعدَ مع الاتحاد الأوروبي، وتكرر التلاسُن الحادّ بين أردوغان والرئيس الفرنسي ماكرون، ولم تكن العلاقات مع ألمانيا في أفضل حالاتها.
الاقتصاد التركي
سريعًا انعكس توتُّر علاقات تركيا مع القوى الإقليمية والدولية على اقتصادها القائم على السياحة والتجارة والاستثمار، مع تنامي حملات شعبية في بعض الدول المتخاصمة مع أنقرة لمقاطعة المنتجات التركية، وسحب الاستثمارات وعدم السفر والسياحة الى بلاد الأناضول.
وجاءت أزمة فيروس كورونا التي أصابت الاقتصاد العالمي ببعض الشلل ونالت من السياحة في مقتل، لينعكس سلبًا على الاقتصاد التركي، المفتقد بطبيعة الحال إلى موارد الطاقة، والمتعطِّش إلى تفجُّر الغاز في شرق المتوسط ومدّ خطوط الطاقة إلى أوروبا عبر أراضيه.
ولمّا كان النجاح الاقتصادي والتجربة الرائدة والفريدة التي قدمتها حكومة التنمية والعدالة المسوغَين الأكبرَين لاستمرار نجاحها في نيل ثقة الناخب التركي، فإن التراجع الدراماتيكي لليرة وتضاعف معدلات التضخُّم وضعا أردوغان وحزبه وحكومته في موقف حرج للغاية، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية المصيرية العام المقبل.
العودة من جديد
في ظلّ تلك التحديات التي تواجهها حكومة أردوغان داخليًّا وخارجيًّا، وفي ظل موجة المصالحات والتسويات التي شهدتها المنطقة، والصراعات التي بدأت تهدأ نيرانها عقب تولّي الرئيس الأمريكي جون بايدن مقاليد الحكم في واشنطن، وانتهاء الأزمة الخليجية مطلع العام الماضي، شرعت أنقرة في بدء صفحة جديدة ومحاولة طيّ خلافاتها مع جيرانها والعودة مجددًا لسياسة تصفير المشاكل، بغية تنشيط اقتصادها المنهَك والنهضة بعملتها المثقلة، والاستعداد للمعركة الانتخابية المقبلة.
طريق المصالحة
مع مطلع العام الماضي، بدأت تركيا حراكًا دبلوماسيًّا واسعًا لإنهاء الخلافات مع العديد من دول المنطقة، وإعادة تطبيع العلاقات مع تلك الدول.
وفي مايو/ أيار الماضي أجرى الرئيس التركي اتصالًا هاتفيًّا بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وبعد الاتصال بأيام زار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الرياض، فيما زار وزير التجارة السعودي ماجد القصبي إسطنبول في نوفمبر/ تشرين الثاني، كما أعلن أردوغان مؤخرًا عزمه زيارة السعودية في فبراير/ شباط الجاري.
وفي أغسطس/ آب 2021، زارَ مستشار الأمن الوطني بدولة الإمارات أنقرة والتقى الرئيس التركي، وتمَّ الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لبحث ملفات الخلاف العالقة بينهما.
وعقب الزيارة بأسبوعَين، أُعلن عن اتصال هاتفي بين أردوغان وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، أعادَ التأكيد على توجُّهات المصالحة، ودعا خلاله أرودغان الشيخ محمد بن زايد لزيارة تركيا، وهو ما تمَّ في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني، حين بحثا في أنقرة “سُبل فتح آفاق جديدة للتعاون والعمل المشترك بين الإمارات وتركيا في جميع المجالات التي تخدم مصالحهما المتبادلة”.
واعتبر الرئيس التركي أن الزيارة “تمهّد لمرحلة جديدة مزدهرة وواعدة من العلاقات والتعاون، اللذين يصبّان في مصلحة البلدَين وشعبيهما والمنطقة”، فيما أعلنت الإمارات عن تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات والاقتصاد التركي وتوثيق التعاون بين البلدَين.
سعيًا نحو تأمين نصيبها من عقود إعادة إعمار ليبيا، اتخذت أنقرة خطوات واسعة نحو التقارب مع السلطات في شرق ليبيا بعد زيارة وفد من البرلمان الليبي لأنقرة.
وعاد الرئيس التركي ليؤكِّد في زيارة له إلى قطر في 7 ديسمبر/ كانون الأول عن رغبته في تطوير العلاقات مع دول الخليج، مؤكّدًا أن بلاده ستفعل كل ما يلزم من أجل توطيد هذه العلاقات، وأعلن أنه سيزور أبوظبي في فبراير/ شباط الجاري.
مساعي المصالحة التركية مع الخليج امتدّت أيضًا إلى مصر، لتتطور الاتصالات الاستكشافية التي بدأت على المستوى الأمني في نهاية عام 2020، إلى مسار تفاوضي لتصحيح العلاقات.
وشهدت القاهرة في مايو/ أيار الماضي أولى الجولات الرسمية المعلنة بين وفدَين من الخارجية المصرية والتركية لبحث ملفات الخلاف، والتمهيد لعودة العلاقات الدبلوماسية، وأعقبتها جولة ثانية عُقدت في أنقرة في سبتمبر/ أيلول، وأعلن الرئيس التركي في نوفمبر/ تشرين الثاني اعتزام بلاده التقرُّب تدريجيًّا من مصر، بعد فتحه صفحة جديدة مع الإمارات، مشيرًا إلى استعداده لتسمية السفراء وفق جدول زمني محدَّد عند اتخاذ هذا القرار.
وسعيًا نحو تأمين نصيبها من عقود إعادة إعمار ليبيا، اتخذت أنقرة خطوات واسعة نحو التقارب مع السلطات في شرق ليبيا، بعد زيارة وفد من البرلمان الليبي لأنقرة، وزيارة السفير التركي بطرابلس مع وفد من رجال الأعمال الأتراك لمدينة بنغازي وإعادة فتح القنصلية التركية هناك.
الأزمة الأوكرانية
في مطلع فيراير/ شباط الجاري، زار الرئيس التركي أوكرانيا لبحث الأزمة الأوكرانية مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي، وأطلق أردوغان دعوة لاستضافة حوار بين الرئيسَين الروسي والأوكراني في أنقرة، وبعد أيام من تأكيد مصادر أوكرانية انفتاحها على العرض التركي، أعلن الكرملين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيلبّي دعوة الرئيس التركي لزيارة أنقرة.
العلاقات مع “إسرائيل”
وفي أحدث تطور، أكّد أردوغان أن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ سيزور أنقرة في مارس/ آذار، وقال أردوغان إن “إسرائيل اتخذت بعض الخطوات المتعلقة بالتعاون في شرقي المتوسط، وتركيا بدورها مستعدّة لاتخاذ الخطوات اللازمة أيضًا”.
وأطلق أردوغان إشارات متلاحقة عن رغبة بلاده في تسريع خطوات تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، من أجل الدخول في مباحثات بين أنقرة وتل أبيب حول إمكانية توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية، والاتفاق على مشروع لنقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا عبر تركيا.
ورغم استمرار التوتر مع اليونان حول قضية شرق المتوسط، فإن خطوات مهمة تمّت من أجل الحوار، واُستؤنفت الجولة الـ 61 من المباحثات الاستكشافية بين تركيا واليونان حول الوضع في بحر إيجة، حيث اقترحت تركيا عقد “مؤتمر شرق المتوسط” لبحث سُبل حلّ الخلافات القائمة بين دول المنطقة.
أرمينيا والولايات المتحدة
تسعى تركيا نحو تطبيع علاقاتها مع أرمينيا، وقد أعلن وزير خارجية تركيا أن المرحلة القادمة ستشهد تبادلَ تعيين ممثّلين خاصين لتركيا في أرمينيا، مبيّنًا أن شركات طيران تركية وأرمينية ستبدأ بتسيير رحلات جوية مباشرة بين البلدَين.
ورغم التوتُّر والبرود الذي يسود العلاقات بين أنقرة وواشنطن، فقد قرّرَ أردوغان وبايدن تشكيل آلية مشتركة لتعزيز العلاقات التركية الأميركية وتطويرها، وذلك خلال اجتماعهما على هامش قمة مجموعة الـ 20 أواخر عام 2021.
أخيرًا..
لا شك أن التغير الجوهري في السياسة الخارجية التركية منذ مطلع العام الماضي، قد أسفر عن تهدئة العديد من الصراعات العاصفة في المنطقة، وهدّأ من حدة التراشق الإعلامي بين مختلف الأطراف.
ويبقى التساؤل الأهم، هل تنجح حكومة أردوغان في مساعيها وتحسين علاقاتها مع خصوم الأمس؟ وهل يمكنها تصفية أزماتها مع جيرانها؟ وهل تنجح في تحقيق أهدافها المتعلقة بجذب الاستثمارات والسياحة الخليجية والحصول على نصيب مرض من كعكة غاز شرق المتوسط؟ وهل ستنعكس تلك الجهود على الاقتصاد التركي؟.. تسأؤلات تبدو إجاباتها حاضرة في ظل حرض الحكومة التركية على تواكب تحسين وتهدئة علاقاتها السياسية مع توقيع اتفاقيات للتعاون الاقتصادي، ولعل ثمار زيارة ابن زايد لتركيا خير دليل وتوسيع دائرة الاستثمارات التركية في شرق ليبيا شاهد على الهدف الاقتصادي المنشود لعودة أنقرة لسياسة “صفر مشاكل”.