حملت مشاركة رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، في حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية ببكين، الذي أقيم في 4 فبراير/شباط الحاليّ، الكثير من الدلالات مقارنة بالحضور التقليدي لبقية قادة الدول، كونها تتويجًا للعلاقات الدافئة بين البلدين التي تحيا حالة من الوئام والتناغم غير المسبوق في تاريخها.
الزيارة أسفرت عن توقيع اتفاقية تعاون صناعي مشترك تخدم إستراتيجية جذب الاستثمارات الأجنبية لتنمية البنية الصناعية للشمال الباكستاني، بهدف تحويلها إلى منطقة استثمارات عالمية وقبلة لرؤوس أموال الكيانات الدولية وكبار رجال الأعمال للاستفادة من إمكاناتها السياحية والصناعية الكبيرة.
اهتمام باكستاني صيني واضح بمنطقة جيلجيت بالتستان (المناطق الشمالية) في إطار مشروع الممر الاقتصادي بين البلدين كجزء من مبادرة الحزام والطريق التي توليها بكين اهتمامًا كبيرًا، وتنفق عليها مئات المليارات من الدولارات، وهو الأمر الذي يستفز الهند بشكل كبير، في ظل الادعاء بخضوع تلك المنطقة لسيطرتها التاريخية، وسط قلق وترقب لاحتمالية الولوج في مواجهات عسكرية صادمة بين بكين ونيودلهي.
وتمثل جيلجيت بالتستان أحد أضلاع النزاع الهندي الباكستاني الحدودي، وواحدة من بؤر الصراع الساخنة في إقليم كشمير، وتتميز بموقع إستراتيجي محوري كونها تتشارك حدوديًا مع أفغانستان والصين، وزادت قيمتها الاقتصادية بعد توقيع اتفاقية الممر الاقتصادي بين بكين وإسلام آباد.
منطقة استثمارية عالمية
تسابق باكستان الزمن من أجل تحويل تلك البقعة الخلابة في أهميتها الجيوسياسية إلى منطقة استثمارية عالمية، ففتحت قنوات اتصال مع العديد من الدول والقوى الاقتصادية الكبرى لوضع تلك المنطقة تحت مجهر العناية والاهتمام لما تمتلكه من مقومات تؤهلها لمكانة اقتصادية كبيرة.
وفي 7 من الشهر الحاليّ، عقد الوزير الأول بالحكومة سردار خان، اجتماعًا موسعًا مع الوزير الفيدرالي لشؤون كشمير وجيلجيت – بالتستان علي أمين غاندابور، لمناقشة إستراتيجية تطوير المنطقة ووضعها على خريطة الاستثمار العالمي.
وتضمنت الإستراتيجية تدشين حزمة من مشروعات تعزيز السياحة والتمدن العصري، مع وضع خطة شاملة للتطوير، مستغلة إمكانات وقدرات الإقليم، الجغرافية والبيئية، لتوفير فرص الاستثمار أمام رؤوس الأموال العالمية، لا سيما بعد المكانة الاقتصادية الكبيرة التي باتت عليها بعد اتفاقية الممر الاقتصادي مع بكين.
أهمية تلك المنطقة بالنسبة للصين لا تتوقف عند قيمتها الإستراتيجية في الممر الاقتصادي مع باكستان فقط، فهناك أبعاد أخرى أكثر خطورة، إذ من الممكن أن تكون منصةً محوريةً لاستهداف الهند إذا اندلعت مواجهات مسلحة
وتعد المناطق الاقتصادية أحد أبرز مسارات الممر الصيني الباكستاني، وهي عبارة عن شبكة ضخمة من الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب، تربط بين إقليم تركستان الشرقية شمال غربي الصين، بميناء “جوادر” في إقليم “بلوشستان” جنوب غربي باكستان، فيما تعتبر “جلجيت بالتستان” الجبلية الواقعة على الحدود مع الصين حدود الصين بوابة الممر الرئيسية وهنا قيمتها المحورية.
وكان رئيس الوزراء الباكستاني قد افتتح في ديسمبر/كانون الأول 2021 مطار سكاردو الدولي الذي يقع في الشمال عند مرتفعات الهمالايا على ارتفاع 7000 متر من سطح الأرض، في خطوة سعى من خلالها لتذليل العقبات أمام المستثمرين والسائحين للوصول إلى تلك المنطقة المرتفعة، أملًا في تهيئتها لتنافس سويسرا في مداخيل السياحة التي تدر على البلاد سنويًا قرابة 70 مليار دولار.
وفي أغسطس/آب 2020 دعت الحكومة الباكستانية رجال الأعمال الأتراك للاستثمار في المناطق الشمالية، كما جاء على لسان وزير شؤون كشمير وجيلجيت بالتستان، أمين غاندابور، خلال اجتماعه برئيس الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا” في باكستان، جوكهان أوموت.
واستعرض الوزير الباكستاني العديد من مقومات المنطقة ومغرياتها أمام المستثمرين الأتراك، أبرزها ما تتمتع به من إمكانات سياحية هائلة، إذ يزورها سنويًا نحو مليوني سائح، هذا بخلاف إسراع الخطى لتدشين مناطق اقتصادية متميزة لفتح آفاق للتعاون والاستثمار، وهو ما دفع أوموت للإعرب عن استعداد الوكالة للاستثمار في المناطق التابعة للإدارة الباكستانية في الشمال خاصة “جيلجيت بالتستان”.
دعم صيني
تدعم بكين كل جهود إسلام آباد في تحويل تلك المنطقة إلى كيان استثماري كبير وقبلة لمستثمري العالم، كون ذلك الضمانة الأبرز للحفاظ على استقرارها وردع أي محاولات أو استفزازات هندية لما قد يترتب على ذلك من تبعات سلبية على نيودلهي التي قد تصل أحيانًا إلى عقوبات دولية وتهدد علاقاتها بالعديد من الدول.
ينظر الصينيون لتلك البقعة السحرية كونها الممر الرئيسي للممر الاقتصادي الذي يدعم مبادرة الحزام والطريق التي أنفقت فيها بكين أموالًا طائلةً ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخسرها أو تعرضها للتهديد، وعليه تقف مع باكستان في صف واحد للحفاظ عليها في مواجهة أي توترات إقليمية، سواء من الهند أم الحركات المسلحة الحدودية في أفغانستان وغيرها.
وتشير بعض المصادر الهندية إلى وجود صيني كبير في جيلجيت بالتستان، سواء في صورة مستثمرين أم عُمال، هذا بخلاف ما يثار بشأن نشر أفراد عسكريين ينتمون إلى جيش التحرير الشعبي الصيني، في زي العمال المدنيين، الأمر الذي أثار قلق السلطات الهندية، وعليه جاءت التحرشات والمناوشات الأخيرة بينهما.
استفزاز هندي
يعتبر الضابط المتقاعد في صفوف الجيش الهندي، باتيال آر سي، أن الضغط الصيني هو ما شجع إسلام آباد على تغيير وضع تلك المنطقة المتنازع عليها، لافتًا في مقال له على موقع “أوراسيا ريفيو” أن مطالبة الهند المستمرة بجيلجيت دفع بكين للتفكير جليًا في فك ارتباطها رسميًا من كشمير حتى لا يظل استثمارها رهينة إمكانية اندلاع جولة أخرى من الأعمال العدائية بين الهند وباكستان بشأن الإقليم.
ويرى آر سي أن أهمية تلك المنطقة للصين لا تتوقف عند قيمتها الإستراتيجية في الممر الاقتصادي مع باكستان فقط، فهناك أبعاد أخرى أكثر خطورة، إذ من الممكن أن تكون منصةً محوريةً لاستهداف الهند إذا اندلعت مواجهات مسلحة، نظرًا لقربها الشديد من ولايتي “لداخ” و”شينجيانغ”.
بعيدًا عن التصريحات الوردية الصادرة عن حكومتي البلدين بشأن جهود التهدئة، فإن ارتفاع درجة حرارة الأزمة في تلك البقعة الإستراتيجية الذي تكشفه العديد من الشواهد الأخيرة ينذر ببرميل بارود قابل للاشتعال في أي وقت
وتتصاعد التحذيرات في الفترة الأخيرة بشأن مخطط الصين لفك ارتباط المنطقة بنزاع كشمير، فهذا الأمر حالة حدوثه سينعكس سلبًا على البيئة الإستراتيجية للهند، ويجعلها في مرمى الاستهداف الصيني والباكستاني على حد سواء، وسط دعوات لمراقبة نيودلهي لأي تحركات في هذا الشأن بجانب ما يثار حيال مسعى إسلام آباد إقامة دورة ألعاب شتوية أولمبية في تلك المنطقة أسوة ببكين.
صدام عسكري ليس ببعيد
التنازع إزاء تلك المنطقة الشمالية يهدد باستمرار التصعيد العسكري بين الصين وباكستان من جانب، والهند من جانب آخر، إذ يعتبر الضابط الهندي المتقاعد أن إصرار بكين وإسلام آباد على إستراتيجية عزل الإقليم الشمالي برمته عن السيطرة الهندية، من خلال تحويله إلى منطقة استثمارية عالمية، قد يشعل الأجواء مرة أخرى.
وبالعودة للوراء قليلًا يلاحظ أن الصدام العسكري بين الهند والصين في تلك المنطقة ليس جديدًا ولا مستبعدًا، إذ شهدت السنوات القليلة الماضية موجات متتالية من التحرشات المتبادلة، أسفرت عن سقوط عشرات القتلى هنا وهناك، وسط تربص كل طرف بالآخر.
ففي 25 يناير/كانون الثاني 2021 نشبت مواجهات بين قوات صينية وأخرى هندية في المناطق الحدودية الشمالية، لا سيما في ولاية سيكيم، أسفرت عن سقوط العديد من الجرحى والقتلى من الجانبين، وسط تبادل الاتهامات بين الطرفين بمسؤولية كل جانب عن التصعيد.
المناوشات ذاتها تكررت قبل ذلك في يونيو/حزيران 2020 في ولاية لداخ بهضبة التبت، حين اقتحمت قوات هندية الحدود الصينية، حسب رواية خارجية بكين، وأسفرت عن سقوط 20 قتيلًا من صفوف الجيش الهندي، فيما نفت الحكومة الهندية تلك الرواية مؤكدة أن قواتها لم تقتحم أي حدود.
وبعيدًا عن التصريحات الوردية الصادرة عن حكومتي البلدين بشأن جهود التهدئة، فإن ارتفاع درجة حرارة الأزمة في تلك البقعة الإستراتيجية الذي تكشفه العديد من الشواهد الأخيرة ينذر ببرميل بارود قابل للاشتعال في أي وقت، في ظل استماتة كل طرف في الزود عن مصالحه وسمعته الإقليمية.