لا تزال المأساة الإنسانية المروعة للمهاجرين وطالبي اللجوء العالقين على الحدود التركية واليونانية، والطارقين لأبواب دول الاتحاد الأوروبي، تتجدد فصولها، ويسقط معها كل حين وآخر عشرات الضحايا من أولئك الضعفاء الذين هربوا من ساحات الحرب والصراع في بلدانهم، طمعًا في الاستقرار بالقارة العجوز.
وفيما تتقاذف مياه بحر إيجه قوارب المهاجرين وتبتلع أمواجه العشرات منهم، تتراشق كافة الأطراف المعنية الاتهامات والمسؤولية عن تلك المأساة، وبين تركيا واليونان وثالثهما الاتحاد الأوروبي يظلّ المهاجرون واللاجئون ورقة تائهة، يستخدمها الجميع في تحقيق أهدافه والمزيد من المكاسب على حساب أرواح هؤلاء المساكين.
ومع كل حادث أليم يسقط فيه ضحايا من المهاجرين، تتجدّد المطالب الإنسانية العادلة بوضع حدّ لتلك المأساة، والتوقُّف عن استغلالها من كافة الأطراف، وتوفير الحماية لأولئك المهاجرين وتأمين حياتهم وتوفير المعاملة الإنسانية اللائقة لهم، أيًّا كان مصيرهم.
فاجعة الـ 19
ما أثار مجددًا تلك المأساة المستمرة منذ بضع سنوات، والتي لم تنجح جهود ومساعي مختلف الأطراف في حلّها، الفاجعةُ الأليمةُ التي حدثت مطلع الشهر الجاري، والمتمثلة في مصرع 19 مهاجرًا متجمّدين من عاصفة ثلجية ضربت الحدود التركية اليونانية.
حيث عثرَت السلطات التركية على جثث الضحايا في إحدى المناطق الحدودية بين البلدَين، مؤكّدة أن قوات حرس الحدود اليونانية طاردتهم وجرّدتهم من متعلّقاتهم وملابسهم، مطالبة القوات اليونانية بوضع حدّ فوري لمعاملتها غير الإنسانية للمهاجرين، سواء على الحدود البرّية أو البحرية.
السقوط في بحر إيجه
تنطلقُ قوارب الهجرة من الأراضي التركية نحو الجزر اليونانية المختلفة في بحر إيجه، وتتزايد معها الاتهامات بالمسؤولية عن دفع قوارب المهاجرين لإخراجها من المياه الإقليمية للبلدَين، حيث يسعى كل طرف لإبقاء القوارب التي يتمُّ رصدها في المياه الإقليمية للطرف الآخر، وذلك لإخلاء المسؤولية القانونية والأخلاقية عن المهاجرين، سواء وصلوا إلى اليابسة أو كان مصيرهم الغرق كما يحصل في كثير من الحالات.
الحدود البرّية
في الفترة الأخيرة، سلك المهاجرون طريق الحدود البرّية بين البلدَين، مع تشديد المراقبة على جزر بحر إيجه، وتردّي الظروف المعيشية في مخيمات الجزر.
يخاطر المهاجرون بحياتهم بين الغابات والجبال، ويلقى البعض مصرعهم في مناطق شبه نائية تكسوها الأشجار ولا تزورها سوى بعض الحيوانات.
و خلال العام 2021، ولأول مرة، كان عدد الوافدين إلى اليونان عبر هذه الحدود البرّية يفوق عدد أولئك الذين يصلون إلى الجزر اليونانية عبر البحر، بحسب أرقام مفوضية اللاجئين، إذ دخل اليونان حوالي 4.800 شخص عبر منطقة إيفروس، بنسبة 53% من إجمالي عدد الوافدين.
وأثناء عبور نهر إيفروس الحدودي من تركيا إلى اليونان، يخاطر المهاجرون بحياتهم بين الغابات والجبال، ويلقى البعض مصرعهم في مناطق شبه نائية تكسوها الأشجار ولا تزورها سوى بعض الحيوانات، حيث خلال العام الماضي توفي ما لا يقلّ عن 40 مهاجرًا في منطقة إيفروس على الجانب اليوناني.
انتهاكات متكررة
يتعرض اللاجئون العالقون على الحدود اليونانية إلى انتهاكات متكررة، تبدأ بالضرب المبرح والسجن وسرقة أموالهم وهواتفهم وتركهم بالعراء، أو إغراق قواربهم وإبقائهم على الجزر المهجورة ليموتوا جوعًا وعطشًا، ما يشكّل جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات يعاقب عليها القانون الدولي.
وتحت عنوان “اليونان: العنف والأكاذيب والإعادة القسرية”، وثّق تقرير لمنظمة العفو الدولية أصدرته في يونيو/ حزيران الماضي، عمليات الإعادة غير القانونية للاجئين والمهاجرين التي تقوم بها السلطات اليونانية في البرّ والبحر.
وكشفت العفو الدولية أن قوات الحدود اليونانية تحتجز مجموعات من اللاجئين والمهاجرين بأسلوب عنيف، وبصورة غير قانونية، ثم تعيدهم إلى تركيا على الفور، ما يخلّ بالتزاماتها إزاء حقوق الإنسان بموجب قوانين الاتحاد الأوروبي والقانون الدولي.
وركّز التقرير، في المقام الأول، على العمليات غير المشروعة التي تجري في منطقة إيفروس على الحدود البرّية بين اليونان وتركيا، فخلال شهرَي فبراير/ شباط ومارس/ آذار 2020، قامت اليونان بإعادة اللاجئين والمهاجرين بأسلوب عنيف، ردًّا على قرار تركيا الأحادي بفتح الحدود البرّية بين البلدَين.
وفي معظم الحالات، كانت أعمال العنف المذكورة تنتهكُ الحظر الدولي للمعاملة اللاإنسانية أو المهينة، كما كانت الأفعال المرتكبة في بعض الحالات تبلغ حد التعذيب، بالنظر إلى شدّتها أو نية الإذلال أو العقاب الكامنة وراء هذه الممارسات.
الموقف التركي
تتّهمُ تركيا، التي تنطلق منها سفن المهاجرين، اليونان بأنها تتبع منذ أشهر سياسة دفع قوارب المهاجرين لإعادتهم إلى المياه الإقليمية التركية، وما يرافق ذلك من تعريض حياة المهاجرين للخطر والموت في أحيان مختلفة.
ووجّهت تركيا مرارًا انتقادات لقوات خفر السواحل الأوروبية التي اتّهمتها بمشاركة اليونان انتهاكاتها ضد المهاجرين، وتحدّث مهاجرون أُعيدوا إلى المياه التركية وأنقذتهم قوات خفر السواحل التركية، عن أنهم تعرّضوا لتنكيل شديد قبيل إجبارهم على العودة، وفي كثير من الحالات قالوا إنهم فقدوا رفقاء مهاجرين لهم قضوا غرقًا عقب إجبارهم على العودة للمياه التركية.
تطالب اليونان تركيا ببذل المزيد من الجهد لوقف دخول المهاجرين إلى أراضيها بصورة غير قانونية.
وتلوِّح تركيا التي تأوي قرابة الـ 4 ملايين لاجئ أغلبهم من سوريا، من حين إلى آخر بفتح حدودها أمام المهاجرين الراغبين في التوجُّه نحو الاتحاد الأوروبي، وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن الاتحاد الأوروبي لم يقدّم مساعدة في إعادة توطين اللاجئين السوريين في مناطق آمنة داخل سوريا، وتنبّأ بأن يتّجه “ملايين” المهاجرين إلى الاتحاد الاوروبي.
الموقف اليوناني
في المقابل، تتّهم اليونان السلطات التركية بالتساهُل مع المهاجرين و”تشجيعهم” على الوصول إلى اليونان بحرًا، كما تتّهمها باستغلال المهاجرين لابتزاز اليونان والاتحاد الأوروبي، مؤكدة أن تركيا لم تفِ بالتزاماتها فيما يتعلق باتفاقية إعادة اللاجئين الموقّعة مع الاتحاد الأوروبي عام 2016.
وتطالب اليونان تركيا ببذل المزيد من الجهد لوقف دخول المهاجرين إلى أراضيها بصورة غير قانونية، وتقول إن وصول المهاجرين في الفترة الأخيرة يبدو منسّقًا.
وأكّدت وزارة الهجرة اليونانية أن “تركيا آمنة لمعظم طالبي اللجوء المقيمين لديها”، مشيرة إلى أنهم ليسوا في خطر، ويمكنهم طلب اللجوء في تركيا وليس في اليونان.
اتفاقية إعادة القبول
طُرحت هذه الاتفاقية كحلٍّ لأزمة المهاجرين حين وصل نحو مليون لاجئ ومهاجر إلى الاتحاد الأوروبي عام 2015، بينما مات الآلاف في حوادث غرق جماعي.
ففي آذار/ مارس 2016، عقد الاتحاد الأوروبي وتركيا اتفاقية نصّت على إعادة اللاجئين السوريين، الذين وصلوا إلى الجزر اليونانية، إلى تركيا، وفي المقابل تلقّت تركيا 6 مليارات يورو في صورة معونة من الاتحاد الأوروبي للمهاجرين واللاجئين.
وبعد الموافقة على الاتفاقية، انخفضت أرقام المهاجرين الواصلين من تركيا إلى اليونان انخفاضًا حادًّا، قبل أن تتصاعد الخلافات بين البلدَين، حيث لم تشهد السنوات الأخيرة استقبال تركيا أي من اللاجئين من اليونان رغم المطالبات والضغوط اليونانية المكثفة، وترفض أنقرة استعادة طالبي اللجوء غير النظاميين، مبرِّرة موقفها بفيروس كورونا.
ومع إعلان تركيا، في مطلع مارس/ آذار 2020، رفع القيود المفروضة على المهاجرين، وتدفُّق عشرات الآلاف منهم نحو الحدود اليونانية، أرسلت المفوضية الأوروبية رسالة قوية لدعم اليونان في محاولاتها منع المهاجرين القادمين من تركيا دخول أراضيها، ووعدت اليونان، التي سمّتها “الدرع الأوروبي”، بمعونة مالية قدرها 700 مليون يورو (780 مليون دولار).
وأكّد الاتحاد الأوروبي “رفضه الشديد لاستخدام تركيا الضغط الناتج من المهاجرين لأغراض سياسية”، فيما حثّت اليونان الاتحاد الأوروبي، في يوليو/ تموز الماضي، على التأكُّد من وفاء تركيا بالتزاماتها بموجب اتفاق عام 2016 بشأن اللاجئين.
هل من حلول؟
تظلُّ أزمة المهاجرين وطالبي اللجوء العالقين على الحدود التركية اليونانية مأساة إنسانية في المقام الأول، يجري توظيفها واستثمارها سياسيًّا من كافة الأطراف، والضحية في النهاية هؤلاء الأبرياء الضعفاء الذين يتساقطون صرعى وجرحى، وتهان كرامتهم وتهدر آدميتهم.
على الاتحاد الاوروبي الخائف من تدفق المهاجرين واللاجئين الى أراضيه، أن يعمل بصدق على المساهمة في حلّ النزاعات الدموية في مختلف مناطق الصراعات الملتهبة.
وتتمثّل أهم الحلول لتلك المأساة في التعامل معها كقضية إنسانية بحتة، والتوقُّف عن استخدامها كورقة تفاوضية من مختلف الأطراف، وضرورة أن يتمثّل الهدف الأول لحلّ تلك الأزمة في حفظ حياة وأمن وكرامة وحقوق أولئك المهاجرين قبل كل شيء.
وأنقرة مطالَبة بدورها بضبط مناطقها الحدودية البحرية والبرّية، وعدم التساهُل أو دفع المهاجرين نحو تلك المغامرات المحفوفة بالمخاطر، وألّا تستخدم أولئك المهاجرين من حين إلى آخر كورقة ضغط على أثنيا وبروكسل.
ويتوجب على اليونان الحرص على تأمين حياة أولئك المهاجرين وصون كرامتهم واحترام حقوقهم، قبل التفكير في مطاردتهم أو منعهم من دخول أراضيها، ويمكن تحقيق ذلك خلال اتفاق جديد يحترمه الجميع، وإيجاد آلية تضمن تنفيذ بنوده.
وعلى الاتحاد الأوروبي الخائف من تدفُّق المهاجرين واللاجئين إلى أراضيه، أن يعمل بصدق على المساهمة في حلّ النزاعات الدموية في مختلف مناطق الصراعات الملتهبة؛ فحلّ الأزمة السورية وعودة المهاجرين واللاجئين السوريين إلى ديارهم كفيلان بإنهاء جزء كبير من تلك المأساة.