ترجمة وتحرير: نون بوست
اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا إبرام اتفاق أمني أوروبي جديد يتماشى مع اقتراحه القديم بشأن إنشاء جيش أوروبي. من جانب آخر، تحاول دول أخرى إظهار قوة عسكرية أوروبية من نوع مختلف من خلال إرسال أسلحة إلى أوكرانيا وقوات إلى دول الناتو المجاورة.
ولكن بعيدًا عن الأضواء، يحقق الجيشان الهولندي والألماني اندماجًا مذهلًا. في سابقة هي الأولى من نوعها في أوروبا، توشك وحدة ثنائية القومية تتكون من جنود هولنديين وألمان على إكمال نشر قواتها ضمن حلف الناتو. ينبغي أن تتعلم بقية الدول من الاندماج الهولندي الألماني، الذي وإن كان ناجعًا فإنه ينطوي أيضًا على بذل جهود مضنية حتى لو كانت الدولتان متشابهتان فكريًا.
في التاسع من شباط/ فبراير، أنهت وحدة عسكرية رائدة عملية تناوب رائدة بنفس القدر كجزء من الوجود الأمامي المعزز لحلف الناتو في ليتوانيا. تتكون كتيبة الدبابات 414 من 300 جندي ألماني و100 جندي هولندي يخدِمون في ليتوانيا منذ تموز/ يوليو الماضي. وهي أول وحدة دائمة ثنائية القومية يتم نشرها كجزء من الوجود الأمامي المعزز لحلف الناتو في بولندا ودول البلطيق لردع روسيا.
تمثل فرقة بانزر الأولى إحدى ثلاث فرق في الجيش الألماني. كما أن اللواء الميكانيكي الهولندي 43، هو أحد الألويات القتالية الثلاثة التابعة للجيش الهولندي. في سنة 2014، كان الجيش الهولندي على وشك خسارة دباباته القليلة المتبقية، الأمر الذي كان سيجعل اللواء 43 عاجزًا نسبيًا. في سنة 2016، وقع دمج فرقة بانزر الأولى التي تتمركز في أولدنبورغ مع اللواء الميكانيكي 43 الذي يتمركز في هافيلتي التي تبعد حوالي ساعتين بالسيارة عن أولدنبورغ.
صرح قائد اللواء الميكانيكي 43، الجنرال رولاند دي يونغ “لقد سعيت أنا وقائد فرقتي للضغط على سلاسل القيادة لنشر كتيبة الدبابات 414 لأننا شعرنا أن هذا سيضع اندماجنا تحت الاختبار. والآن أثبتنا أنها ناجعة”. في الواقع، كان نجاح هذا الاندماج واضحًا لدرجة أن رئيس ليتوانيا دعا ألمانيا في وقت سابق من هذا الشهر إلى إرسال مزيد من القوات إلى بلاده. وهذا ما دفع الألمان للتعهد بإرسال 350 جندي إضافي. (ويبدو أنه لا يدرك الدور الذي تضطلع به القوات الهولندية في الوحدة).
أول نموذج مصغر فعلي لفكرة الجيش الأوروبي هو كتيبة الدبابات الأولى الألمانية
من غير المستغرب أن يكون الاندماج العسكري بين الدول اقتراحًا شائعًا بين مراكز التفكير والسياسيين. في كثير من الأحيان، تُطرح فكرة إنشاء جيش أوروبي عندما تلوح أزمة في الأفق. وخلال زيارة إلى مدينة فردان الفرنسية في 2018 للاحتفال بمرور 100 سنة على هدنة الحرب العالمية الأولى، جادل ماكرون بأنه لا يمكن حماية أوروبا دون “جيش أوروبي حقيقي”. منذ ذلك الحين، لم تسع أي دولة لتنفيذ هذا المقترح على أرض الواقع. وبصرف النظر عن دعوات ماكرون لمزيد من الدبلوماسية، آثرت فرنسا على نحو غريب التزام الصمت بشأن الأزمات الراهنة التي تواجهها أوروبا، بما في ذلك هجوم روسي محتمل واسع النطاق على أوكرانيا.
أول نموذج مصغر فعلي لفكرة الجيش الأوروبي هو كتيبة الدبابات الأولى الألمانية أو بالأحرى الفرقة الأولى الألمانية والهولندية، التي أضحت مندمجة بشكل كامل. خلال مقابلة أجراها مع الصحفية أليزابيث براو الشهر الماضي، أوضح دي يونغ آلية عمل الفرقة: “الألمانية هي اللغة الرسميّة في كتيبة دبابات 414. ومع أن درجة إتقان اللغة الألمانية بين صفوف الضباط وضباط الصف أفضل مقارنة بالجنود، إلا أنهم جميعًا يفهمون الأوامر. يوجد في كتيبتي ستة ضباط ألمان يتحدثون اللغة الهولندية، ناهيك عن أن نائب قائد العمليات يتحدث الهولندية بطلاقة. ونحن [الهولنديون] لدينا عقيد وتسعة ضباط في فرقة بانزر الأولى يتحدثون الألمانية”.
كانت عملية الاندماج أكثر تعقيدًا بكثير مما يعتقده المراقبون. يوضح دي يونغ أنه “لجعل الاندماج قابلا للتنفيذ، لابد من الاستمرار في الاستثمار في استراتيجيات التشغيل المشتركة”. ويضيف دي يونغ “على المستوى التقني، إذا لم يكن لديك أجهزة لاسلكي قابلة للتشغيل المتبادل، فلا يمكن أن ينجح التواصل بين الوحدات. لذلك، قدمنا للألمان نظام الاتصالات الذي نعتمده في ساحة المعركة”.
ولكن هذا ليس سوى الجزء الأول والأسهل في الاندماج. ويتابع دي يونغ “هناك تقنيات وتكتيكات وإجراءات خاصة بالنظام العسكري الألماني يقع تدريب ضباطنا وضباط الصف عليها. وينضاف إلى ذلك مسألة قابلية التبادل الثقافي. فعلى الرغم من أننا ننتمي لدول مجاورة، إلا أننا مختلفون عن بعضنا… في بعض الأحيان، يتسبب ذلك في خلق التوترات التي يجب العمل على حلّها”.
وعلى رأس المسائل التي ينبغي حلها، المسائل ذات الطابع العملي التي تتعلق بالمؤهلات التعليمية والشهادات. فعلى سبيل المثال، على كل جانب أن يقرر قبول رخص القيادة الخاصة بالجنود الآخرين، وما إذا كان من المقبول أن يعالج مسعف ألماني الجنود الهولنديين في جميع الحالات وليس فقط في حالات الطوارئ، وإن كان مسموحًا للجنود الميكانيكيين الهولنديين إصلاح الدبابات الألمانية؟
بعد ست سنوات، أكملت كتيبة الدبابات 414 نشر قواتها في ليتوانيا، وهي المرة الأولى في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية التي يتم فيها نشر وحدة مندمجة بشكل دائم تضم قوات دولتين في دولة ثالثة أخرى. هذا مؤشر جيد بالنظر إلى أن ماكرون والعديد من القادة الأوروبيين الآخرين – في الماضي والحاضر – كانوا على مدى سنوات يروّجون لفكرة إنشاء قوة عسكرية أوروبية مشتركة.
في حال أمر الزعيم الروسي فلاديمير بوتين هذه المرة قواته بالتراجع عن الحدود الأوكرانية، فإن الفضل في ذلك يعود لواشنطن. فلا تستطيع الدول الأوروبية ردع روسيا بهياكلها العسكرية الحالية. وهو السبب الذي دفع ماكرون وقادة آخرين إلى التشديد على ضرورة إنشاء “جيش أوروبي حقيقي”.
يدرك دي يونغ وقواته – والسياسيون الأوروبيون وبقية المسؤولين العسكريين – أن الاندماج العسكري ليس عملية هينة. وأفضل ما تمكنت أوروبا من فعله حتى الآن هو تكوين مجموعات القتال التابعة للاتحاد الأوروبي دون نشرها وتشكيل الفيلق الأوروبي الذي يعرف باسم “يوروكوربس”، وهو عبارة عن مقر لمجموعات القتال التابعة للاتحاد الأوروبي. من جانب آخر، تشكّل هولندا وبلجيكا أسطولًا بحريًا مشتركًا تقوم سفنه بدوريات في مياه مختلفة. لا يعد ذلك إنجازًا عظيمًا، لكنه ليس بمثل تعقيد عمل جنود من جنسيتين مختلفتين بشكل دائم جنبًا إلى جنب.
لم يكن الاندماج مثاليًا. من أجل نشرها لأول مرة، كان على كتيبة الدبابات 414 استعارة معدات من وحدات هولندية وألمانية أخرى، ومن المرجح أن فرقة بانزر الأولى ستحتاج سنتين إضافيتين قبل أن تكون جاهزة للقتال بالكامل بمعداتها الخاصة. ولكن في المناوبة التالية، ستكون الكتيبة 414 تحت قيادة ضابط هولندي.
يعمل الحليفان على عملية دمج لواءين قتاليين آخرين تابعين للجيش الهولندي في الجيش الألماني. وقد وقع دمج اللواء الجوي الحادي عشر الهولندي التابع لفرقة قوات التدخل السريع ضمن الجيش الألماني، على غرار ما حدث عند دمج اللواء الميكانيكي 43 بالكامل، الذي وقع إدراجه بالكامل حتى في قائمة الوحدات الخاصة بقوات التدخل السريع.
في انتظار موافقة الحكومتين الجديدتين في برلين ولاهاي، سيتم دمج اللواء الخفيف الثالث عشر التابع للجيش الهولندي في الجيش الألماني – وهي قوة قتالية مدمجة في جيش بلد آخر. هذا إنجاز فذٌ من الناحية اللوجستية والسياسية على حد سواء، بالنظر إلى أن ألمانيا النازية كانت تستعمر هولندا قبل 82 سنة.
يعمل الجيشان في الوقت الحالي على صياغة رؤية مشتركة. وقد أوضح المتحدث باسم الجيش الألماني أن “الجيشين الألماني والهولندي على اتصال دائم ببعضهما البعض لمناقشة سبل التعاون من خلال كيان رسمي يسمى “الفريق التوجيهي للجيش”.
يتطلب الاندماج بين قوات جيشين من جنسيات مختلفة بناء ثقة كبيرة. وحسب بارت غروثويس، خبير دفاع هولندي وعضو البرلمان الأوروبي عن حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية اليمني الوسطي، فإن “الاندماج الهولندي الألماني فريد من نوعه؛ فهو غير مشروط ويعمل بشكل جيد للغاية. لكن في حال جدّت أزمة مثلا في دول البلطيق، هل سيكون لدينا الإمكانات اللوجستية لإعادة إمدادها؟ في الحقيقة لا نستطيع. لذلك ما من داع لكل هذا التفاؤل؟”.
من المؤكد أن فرقة بانزر الأولى لن تحل محل القوات الأمريكية في أوروبا في أي وقت قريب: تضم القيادة الأمريكية الأوروبية أكثر من 60 ألف عنصر عسكري ومدني، ناهيك عن أن عتادها القوي مخزن في دول أوروبية مختلفة. وعندما تلوح الأزمات في الأفق، يمكن لواشنطن أن ترسل المزيد من القوات والعتاد. وفي السادس من شباط/ فبراير، وقع نشر 1700 جندي من الفرقة 82 المحمولة جوًا التابعة للقوات الأمريكية من فورت براغ إلى بولندا.
لاشك أن تحقيق مستوى اندماج فرقة بانزر الأولى يعد إنجازًا رائعًا لأي دولتين. بناء الثقة (ناهيك عن التغلب على حواجز اللغة) ليست سوى جزءًا من التحدي الذي يواجهه الاتحاد الأوروبي. أشار دي يونغ إلى أنه “لابد من وجود إرادة وعزيمة عسكرية وسياسية لتحقيق هذا الاندماج”، موضحا أنه “إذا كان السياسيون مهتمين فقط بالجانب الشكلي لهذه المسألة والجدل الإعلامي الذي سيُثار حولها، فإن هذا الاندماج سيكون محكوما عليه بالفشل”.
سينهار هذا الاندماج إذا اختلفت الدول حول دواعي الاستعانة بهذا الجيش العسكري المشترك. إذا أرادت ألمانيا إرسال كتيبة الدبابات 414 إلى ليتوانيا ورفضت هولندا، ستكون هذه الكتيبة عديمة الفائدة. وقد صرحت المتحدثة باسم الناتو أوانا لونجيسكو بأن “نشر الوحدة يكشف مدى التزام ألمانيا وهولندا وحجم قوتهما العسكرية. وفي وقت يشهد فيه العالم تحديات أمنية غير مسبوقة، تظل قدرة الحلفاء على التحرك معًا بسرعة وفعالية ضرورية”.
لم تعرب أي دولة عن رغبتها في النسج على منوال هذه المبادرة
بفضل الجيش الألماني، زاد الجيش الهولندي من سرعة تدخله وقدراته الهجومية دون الحاجة إلى نفقات مكلفة، بينما اكتسب الجيش الألماني جنودًا وضباطًا جددًا. بات كلا الجانبين يتقاسمان المعدات ذاتها. وعلى الرغم من قابلية التشغيل المشترك والعقبات الثقافية، سيساهم حدوث اندماج عسكري أوروبي في تحوّل القوات المسلحة الأوروبية المختلفة إلى قوة ضخمة قادرة على حماية القارة بأكملها ودعم الدول المجاورة عن الحاجة.
تخيّل ما يمكن للقوات المسلحة الأوروبية المندمجة بالكامل أن تفعله الآن بعد أن تستعرض روسيا عضلاتها. في الواقع، تعمل فنلندا والسويد بجد للجمع بين التخطيط الدفاعي واستخدام المطارات. لكن إمكانيات الاندماج تكون أكبر إذا كان بين دولة كبيرة وأخرى صغيرة. تعمل ألمانيا على تكرار نجاح كتيبة الدبابات الأولى. وربما ينبغي على ماكرون البدء في تشجيع فرنسا على التعاون مع بلجيكا.
يمكن للقوات المسلحة الأوروبية الأخرى ببساطة إجراء زيارات لفرقة بانزر الأولى لمعرفة سر ناجح الوحدات الهولندية والألمانية في العمل معًا. ويرى المتحدث باسم الجيش الألماني أن “التعاون الهولندي الألماني يمكن أن يوضح للدول الأوروبية الأخرى الأعضاء في الناتو كيفية إنشاء وحدات متعددة الجنسيات قابلة للنشر في المعارك. ويمكن لحلفائنا الاستفادة من التجارب الهولندية الألمانية لتحديد الاستراتيجيات التي تتوافق معهم. من شأن ذلك أن يساعد القوات المسلحة الأوروبية على إنشاء وحدات مشتركة بشكل متزايد للدفاع عن أوروبا”.
رغم الاهتمام المتزايد الذي تحظى به الوحدة الهولندية الألمانية، أكد دي يونغ أنه لم تعرب أي دولة عن رغبتها في النسج على منوال هذه المبادرة، مؤكدا أنه حتى الدول الصديقة والمجاورة لبعضها جغرافيا مثل السويد وفنلندا لم تجرؤ على إحداث اندماج كامل بين قواتهما. وعندما سُئل دي يونغ عن النصيحة التي يمكن أن يقدمها للدول الأخرى، أجاب “ينبغي البحث عن سبل التعاون المناسبة قبل التفكير في الاندماج الكامل!”.