تخيم أجواء الحرب على المشهد الأوكراني بعد التصعيد العسكري الروسي الذي قابلته دعوة أمريكية صريحة لمغادرة رعاياها الأراضي الأوكرانية في أسرع وقت في ظل احتمالية شن موسكو عملية عسكرية خلال الأيام القليلة القادمة حسبما جاء على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان.
سوليفان خلال تصريحاته بالأمس أشار إلى أن “الغزو الروسي قد يحدث في أي لحظة حتى في ظل الألعاب الأولمبية الشتوية في الصين المقرر انتهاؤها في 20 فبراير/شباط الحاليّ” وفق معلومات أجهزة استخبارات بلاده التي أكد ثقته بها وإن لم يفصح عنها بشكل واضح.
تصاعد حدة التوتر بين الغرب وروسيا التي اتهمت واشنطن بنشر معلومات “كاذبة” فيما يتعلق باقتراب شن هجوم عسكري ضد كييف، ألقى بظلاله القاتمة على أسواق الطاقة، إذ يحبس العالم أنفاسه في انتظار ما يمكن أن يؤول إليه هذا السجال الذي من المتوقع أن يحدث هزة عنيفة في أسعار النفط التي ارتفعت خلال الآونة الأخيرة لأعلى مستوى لها منذ 7 سنوات.
ارتباك في أسواق الطاقة
منذ تصاعد الأزمة نهاية العام الماضي وتعاني أسواق الطاقة من موجات متأرجحة بين الصعود والهبوط، فقد وصل سعر برميل النفط إلى 95 دولارًا خلال تعاملات الجمعة 11 فبراير/شباط مسجلًا على مدار الأسبوع الأخير صعودًا هو الأكبر منذ أواخر 2014، وسط توقعات بتخطي السعر حاجز الـ100 دولار حال استمرت الأزمة عند درجات حرارتها المرتفعة.
وفي حال شن روسيا هجوم عسكري على أوكرانيا فمن المحتمل ارتفاع سعر برميل النفط إلى 150 دولارًا للبرميل وفق توقعات بنك الاستثمار الأمريكي “جيه بي مورغان” حسبما نقلت وكالة “رويترز”، علمًا بأن أوروبا ربما تكون الأكثر تضررًا من هذا الارتفاع في ظل تزايد الإقبال على مصادر الطاقة خلال فصل الشتاء الحاليّ.
تلعب روسيا وأوكرانيا دورًا محوريًا في تشكيل خريطة الطاقة العالمية، الأولى تعد موردًا رئيسيًا للطاقة لدى الغرب والثانية كونها مركز النقل الرئيسي لمصادر الطاقة الروسية إلى أوروبا
أما عن أسعار الغاز فمن المرجح أن تشهد قفزات جنونية هي الأخرى حال اندلاع حرب عسكرية في أوكرانيا، زيادة يتوقع البعض أن تصل إلى المستويات القياسية التي سُجلت عام 2021 حين ارتفع سعر العقود الآجلة من 18 يورو (20.3 دولار) لكل ميغاوات/ساعة بداية العام إلى 180 يورو (203.4 دولار) في نهايته، بزيادة قدرها 1000%.
الارتدادات العكسية للتوتر في الملف الأوكراني تجاوزت أسواق الطاقة إلى أسواق المال والأعمال، إذ أغلقت جلسة الجمعة على انخفاض حاد في بورصة “وول ستريت”، فيما تراجعت مؤشرات “ستاندرد آند بورز” و”ناسداك” و”داو جونز”، مع تزايد حالة القلق لدى المستثمرين بشأن استمرار هذا التهاوي.
روسيا وأوكرانيا على خريطة الطاقة العالمية
يعد سوق الطاقة في العموم من الأسواق الرخوة التي تتأثر سريعًا بأي توترات، خاصة مع اتساع رقعة خريطته الجغرافية الممتدة من أقصى شرق العالم إلى أقصى غربه، وما بينهما من منافذ إنتاج أو شبكات نقل، وهو ما يجعله من أسرع الأسواق استجابةً لأي متغيرات، صعودًا وهبوطًا.
اليوم يحبس العالم أنفاسه مع تصاعد الموقف في أوكرانيا، انطلاقًا من الأهمية الكبيرة لطرفي الأزمة في خريطة سوق الطاقة العالمي، فروسيا وأوكرانيا كلتاهما تلعب دورًا محوريًا في تشكيل تلك الخريطة، الأولى تعد موردًا رئيسيًا للطاقة لدى الغرب والثانية كونها مركز النقل الرئيسي لمصادر الطاقة الروسية إلى أوروبا.
فروسيا تعد ثاني أكبر منتج للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة بإنتاج يبلغ 10.5 مليون برميل يوميًا، كذلك فهي ثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي بأكثر من 760 مليار متر مكعب، بحسب مؤشرات العام الماضي، وذلك بعد تراجع معدلات إنتاج السعودية التزامًا بسياسة الخفض الطوعي داخل أوبك.
أما على الجانب الأوكراني، فتملك كييف واحدةً من أكبر شبكات نقل الطاقة في العالم (تضم نحو 37.1 ألف كيلومتر من الأنابيب الرئيسية، وأكثر من 70 محطةً للضغط، ونحو 13 منشأةً للتخزين تحت الأرض، بقدرات استيعابية تبلغ نحو 32 مليار متر مكعب) كما أنها الممر الرئيسي للغاز الروسي، إذ تنقل منه سنويًا قرابة 40 مليار متر مكعب إلى أسواق أوروبا، وعليه فإن أي تصعيد جديد داخل أراضيها سينعكس بالطبع على عملية النقل.
من هنا.. فإنه إذا ما نفذت واشنطن تهديداتها بشأن فرض عقوبات على موسكو – حال شن حرب ضد أوكرانيا – التي من بينها وقف خط أنابيب “نورد ستريم 2” الرابط بين روسيا وألمانيا والمتوقع حال تشغيله تلبية ثلث الطلب المستقبلي من الغاز لدول الاتحاد الأوروبي، وبكلفة أقل بـ25% عن فاتورة استيراده الحاليّة -، ربما تلجأ شركة “غاز بروم” الروسية إلى قطع إمدادات الغاز عن أوروبا، كرد فعل انتقامي، الأمر الذي سيضرب أنظمة الطاقة في القارة ويقود أسعار الغاز إلى ارتفاع جنوني، سيكبدها خسائر طائلة.
أجواء حرب
العديد من المؤشرات تذهب إلى اقتراب اندلاع حرب في أوكرانيا، فبعيدًا عن تصريحات مستشار الأمن القومي سوليفان بأن الحرب باتت وشيكة، أكد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أن الهجوم الروسي قد يبدأ في أي وقت، مستعرضًا خلال لقائه ونظرائه في بولندا وألمانيا وكندا وفرنسا ورومانيا وإيطاليا الخطوات الأمريكية للاستعداد للسيناروهات المحتملة، مشددًا على الالتزام بالدفاع الجماعي عن أمن ومصالح حلف الناتو.
وفي ذات الإطار حشدت موسكو أكثر من 100 ألف جندي من قواتها على الحدود مع أوكرانيا، فيما تواصل قوات التحالف دعمها العسكري واللوجستي لكييف، فأرسلت البحرية الأمريكية 4 سفن مدمرة (“سوليفانس” و”غونزاليز” و”دونالد كوك” و”يو إس إس ميتشر”) إلى منطقة عمليات أوروبا تحسبًا لأي هجوم روسي.
هذه ليست المرة الأولى التي تتسبب فيها الأزمة الأوكرانية في إرباك أسعار الطاقة، إذ سبقتها ثلاث عواصف في 2006 و2009 و2014 أدت إلى خلل في إمداد أوروبا بالغاز الروسي
وبالتزامن مع هذا الحشد والحشد المضاد طالبت أمريكا وبريطانيا ودولة الاحتلال بمغادرة رعاياها في أقرب وقت من الأراضي الأوكرانية، فيما طالب رئيس وفد الاتحاد الأوروبي لدى أوكرانيا جميع الموظفين الدبلوماسيين في البلاد للمغادرة فيما عدا من لديهم أولوية قصوى، في مؤشر يعكس حجم ما وصلت إليه معدلات التوتر.
وفي الجهة المقابلة رفضت الخارجية الروسية التصريحات الأمريكية بشأن اجتياج روسي قريب، متهمة الغرب بتعمد نشر أخبار مضللة، للتغطية على ما وصفته “خطواته العدائية”، منوهة في بيان لها أن موسكو تتعرض لـ”هجمة إعلامية منسقة غير مسبوقة” تستهدف ضمانتها الأمنية التي على رأسها عدم توسع نفوذ حلف الناتو شرقًا بما يهدد أمنها القومي، متهمة حكومات الغرب وإعلامه بالتآمر “لتأجيج التوترات المفتعلة حول أوكرانيا”.
ومن المحتمل أن يجري الرئيس الروسي اتصالين هاتفيين اليوم، مع نظيريه الأمريكي والفرنسي، لبحث تلك التصريحات التي من شأنها زيادة درجة غليان الأزمة، في محاولة لتغليب الجهود الدبلوماسية لنزع فتيل الأزمة في أمتارها الأخيرة، مع استمرار الحشد والحشد المضاد ترقبًا لإطلاق الرصاصة الأولى.
رغم أنها ليست المرة الأولى التي تتسبب فيها الأزمة الأوكرانية في إرباك أسعار الطاقة، إذ سبقها ثلاث عواصف في 2006 و2009 و2014 أدت إلى خلل في إمداد أوروبا بالغاز الروسي، فإن الأزمة الراهنة ربما تكون الأعنف في ظل الزخم الحاليّ غير المسبوق.