ترجمة وتحرير: نون بوست
في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2017، وفي أثناء رحلة إلى تركيا، فوجئ رجل سنشير إليه هنا بالرمز ن3 بمكالمة هاتفية غيرت مجرى حياته.
هذه المكالمة جاءت من أمه، الموجودة في بريطانيا أين كان يعيش معظم سنوات حياته، وقد أخبرته بتلقي إخطار يعلمه بأنه تم تجريده من الجنسية البريطانية. هذا الرجل كان متهما بالانتماء لمجموعة مرتبطة بتنظيم القاعدة. ولكن حتى بعد أن تم إسقاط هذه التهم الموجهة إليه، لم يتم إخباره أبدا بالأدلة التي تم الاعتماد عليها.
هذا الرجل الذي تم إخفاء إسمه بسبب الإجراءات القانونية ولحماية خصوصيته، والذي يشار إليه بالرمز ن3، كان ينوي البقاء في تركيا بضعة أسابيع فقط. وهو يقول إن غرضه من السفر كان الانتهاء من بعض المشاريع، باعتبار أنه يعمل مع منظمة خيرية بريطانية لتوفير المأوى للأيتام والأرامل السوريين في تركيا، إلى جانب عمله على تطوير بدائل بلاستيكية صديقة للبيئة يمكن أن تسهل التجارة بين بنغلاديش وتركيا. ولكن عندما تمت مصادرة جنسيته، بات هذا الرجل لا يعلم متى سيتمكن من العودة إلى منزله وأمه وأطفاله الثلاثة.
ويقول ن3 في حوار مع التايم أجري عبر وساطة محاميه، في أول لقاء صحفي له بعد عودته إلى بريطانيا: “خلال الأيام الأولى كنت في حالة ذهول تام.” هذا الرجل قضى ثلاث سنوات ونصف في حالة ضياع، في تركيا أولا ثم في فرنسا في أثناء معركته ضد الحكومة البريطانية لاستعادة جنسيته والعودة إلى منزله وعائلته.
ويخشى النشطاء من أن التجربة المريرة التي خاضها ن3 يمكن أن يتزايد عدد ضحاياها في بريطانيا، خاصة وأن السلطات تتجه نحو مزيد تسهيل قرار التجريد من الجنسية. ولا يعرف على وجه التحديد حجم هذه الممارسة، باعتبار أن الحكومة لا تكشف عن أرقام محددة حول من تم تجريدهم من جنسيتهم، أو مبررات اتخاذ هذا القرار.
ويقول محمد رباني، المدير التنفيذي لمؤسسة كايج، وهي مجموعة محامين تقدم الدعم لضحايا الحرب على الإرهاب، وقد ساعدت ن3 خلال محنته: “عندما بدأنا تنظيم حملات حول هذه المسألة قبل عشر سنوات، لاحظنا وجود رابط بين التجريد من الجنسية والتدخلات خارج إطار القضاء، إما من خلال غارات الطائرات المسيرة أو عمليات التسليم غير القانونية، والسجن والتعذيب. إن استخدام هذه الصلاحيات تزايد بشكل مقلق في السنوات الأخيرة، وأثر على عمال الإغاثة والمسافرين من أجل السياحة، وحتى عائلات بأكملها.”
وتشير تقديرات منظمة الحركة الحرة، التي تقدم معلومات حول الهجرة وقانون اللجوء في بريطانيا، إلى أن ما لا يقل عن 464 شخص حرموا من جنسيتهم منذ 2006. وفي العام 2017 الذي تعرض فيه ن3 إلى هذا الإجراء، شهدت بريطانيا 148 حادثة من هذا النوع.
وقعت أكثر من 100 جمعية خيرية وشخصية مهنية على بيانا مشتركا، يندد بمشروع القانون باعتباره عنصريا بشكل واضحاً
والآن مع وجود قانون الجنسية والحدود، الذي يشق طريقه عبر البرلمان، هنالك مساع لتمكين الحكومة من صلاحيات أكبر في قضايا التجريد من الجنسية. يذكر أن البند التاسع من هذا القانون، الذي تمت إضافته بشكل مستعجل قبل العرض على مجلس العموم بدقائق قليلة، يسمح للحكومة بتجريد الأفراد من الجنسية البريطانية دون تقديم أي تحذير، في حال لم يكن هذا الأمر مناسبا من الناحية العملية، ما دام الشخص المعني يمكنه الحصول على جنسية بلد آخر.
وقد وقعت أكثر من 100 جمعية خيرية وشخصية مهنية على بيانا مشتركا، يندد بمشروع القانون باعتباره عنصريا بشكل واضح، مع الدعوة لإنهاء ممارسة الحرمان من الجنسية. وقد تم تمرير عريضة في نهاية العام المنقضي، تطالب بحذف البند التاسع، جمعت أكثر من 300 ألف توقيع.
ويقول رباني: “إن مشروع قانون الجنسية والحدود هو اعتداء مشين على الحق في اللجوء والمواطنة. إن البند التاسع يكرس وجود العنصرية ونظام مواطنة الدرجة الثانية، وتطلق أيادي وزارة الداخلية لحرمان الناس من حقوقهم دون أن تكلف نفسها حتى عناء إعلامهم بذلك.”
وينص القانون الحالي في بريطانيا على ضرورة إعلام الشخص إذا تم إسقاط جنسيته. وما إن يصبح المعني بالأمر على علم بهذا الإسقاط، يمكنه أن يستأنف القرار عبر اللجنة الخاصة لاستئناف قرارات الهجرة. ولكن غالبا ما يتم إصدار قرارات إسقاط الجنسية عندما يكون الشخص خارج البلاد، كما هو الحال مع السيد ن3، وهو ما يصعب عليه الاستئناف. كما لا يتم إخبار المعني بالأمر بالأدلة التي تم الاعتماد عليها ضده.
فهد الأنصاري هو محام متخصص في قضايا إسقاط الجنسية، وقام بتمثيل ن3 خلال أطوار القضية، وهو يشير إلى أن تمرير القانون الجديد سوف يزيد من تعقيد عمليات الاستئناف، لأن الضحايا لن يتم إعلامهم بما يتعرضون له.
وفي بيان عبر البريد الإلكتروني قال المتحدث باسم وزارة الداخلية البريطانية: “إن أولويتنا هي ضمان سلامة وأمن بريطانيا. وقرارات الحرمان من الجنسية البريطانية لا تحدث إلا بعد فحص دقيق للحقائق مع احترام القانون الدولي.”
“ولا تقدم وزارة الداخلية تعليقات حول قضايا فردية، إلا أن هذا المتحدث أشار إلى أن كل قضية يتم تقييمها بشكل انفرادي بناء على مضمونها، حتى يتم دائما التوصل للقرار الصحيح.”
وبحسب القانون الدولي، لا يمكن حرمان الشخص من جنسيته إذا كان ذلك سيجعله بلا جنسية. وقد أصدرت الحكومة البريطانية قرارها بإسقاط جنسية ن3 بناء على الافتراض بأنه سيطلب جنسية بنغلاديش، بما أنه ينحدر من هذا البلد. وفي إطار استئنافه ضد قرار الحكومة، احتج ن3 بأنه لم يكن قد طلب جنسية بنغلاديش عندما وصل لسن 21، وبالتالي فإنه فقد الحق في هذا الأمر.
وفي إطار ملاحظات قانونية نشرت في كانون الثاني/ يناير، كان رئيس المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قد حذر من أن مشروع القانون المعروض في البرلمان البريطاني يقوض اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، التي وقعت عليها بريطانيا.
كما أن البند التاسع سيزيد من خطر تعرض مواطنين بريطانيين، من بينهم أطفال، للبقاء بدون جنسية، في تناقض مع الالتزامات الدولية لبريطانيا.
أخبرني ضباط المخابرات التركية بكل وضوح أنني لو كنت أحمل إسما انجليزيا لتم منحي ميدالية نظير العمل العظيم الذي أقوم به. لقد شعرت بالحزن لأنه حتى الأتراك لاحظوا العنصرية التي تعرضت لها
كما جاء في هذه الملاحظات: “هنالك توافق دولي قوي على أن الحق في الجنسية ومنع إسقاطها بشكل تعسفي هما من المبادئ الأساسية للقانون الدولية.”
ومباشرة بعد أن علم بقرار الإسقاط، جاء عناصر المخابرات التركية ليدقوا باب ن3. إذ أن اسمه تمت إثارته من طرف السلطات البريطانية، ولكن بعد القيام بالتحقق والأبحاث، منحته المخابرات التركية حرية العيش في تركيا بقية حياته، مع قيام الشرطة بتفقد أحواله مرة كل بضعة أسابيع. ورغم ذلك فإنه خاف من أن يتم ترحيله أو احتجازه في أية لحظة، في حال تغيرت الأوضاع. إذ أن جوازه البريطاني بات لاغيا بعد قرار إسقاط الجنسية، وهو ما جعله غير قادر على طلب إقامة أو تأشيرة في تركيا.
وفي لقاءات لاحقة مع ضباط المخابرات التركية، قام هؤلاء بطرح أسئلة حول أسماء وأماكن يبدو من خلالها أنهم يستقون معلوماتهم من طرف آخر. ومع بطء إجراءات استئناف القضية، حاول ن3 أن يعيش حياة طبيعية رغم تلك الظروف، والتركيز على العمل الخيري وباقي المشاريع الصغيرة التي كان مهتما بها، حتى يحصل على ما يكفي من المال ليعيش.
ويقول ن3: “لقد أخبرني ضباط المخابرات التركية بكل وضوح أنني لو كنت أحمل إسما انجليزيا لتم منحي ميدالية نظير العمل العظيم الذي أقوم به. لقد شعرت بالحزن لأنه حتى الأتراك لاحظوا العنصرية التي تعرضت لها.”
تراجع حقوق الجنسية في بريطانيا
لطالما امتلكت السلطات البريطانية حق تجريد الأشخاص من الجنسية، ولكنها بدأت تطبق هذا الأمر بشكل متكرر خلال العقود الأخيرة. ويقول دفياني رابات، الباحث القانوني في جامعة بريستول والمتخصص في قانون الجنسية: “إن هذه الممارسة تعود إلى فترة الحرب العالمية، عندما استخدمت لاستهداف المواطنين الذين يقيمون علاقات مع دول معادية.”
وكان قانون الجنسية البريطانية ووضع الأجانب للعام 1918 قد فتح الباب أمام ممارسة إسقاط الجنسية بسبب الخيانة أو عدم الولاء، رغم أن هذا القانون وما تلاه من تشريعات لم يتم تطبيقهم على من ولدوا في بريطانيا. ويقول رابات: “هذه الفكرة سبقت الإعلام العالمي لحقوق الإنسان، وسبقت فكرة العولمة، في ذلك الوقت كان يعتقد أن الانتماء لأكثر من بلد يعرض الأمن القومي للخطر.”
وخلال الفترة بين 1973 و2006، لم يتم تجريد أي شخص في بريطانيا من جنسيته. ولكن في 2003، بعد وقت قصير من الغزو الذي قادته بريطانيا والولايات المتحدة على العراق، قام حزب العمال بتحرير هذا القانون من خلال إزالة التحفظات والقيود التي تمنع تطبيقه ضد الحاصلين على الجنسية منذ الولادة، وبالتالي فقد سمحوا بإسقاط الجنسية عن أي شخص ينظر إليه على أنه يشكل تهديدا للمصالح الحيوية للمملكة المتحدة والأراضي التابعة لها.” جرى ذلك في أثناء محاولات لترحيل الإمام أبو حمزة من لندن، بعد أن أدى خطاب الكراهية الذي ينشره إلى دعوات على الصعيد الوطني لترحيله.
وفي 2006 تم اتخاذ إجراءات إضافية لتحرير هذا القانون، حتى تتمكن الحكومة من إسقاط الجنسية إذا كان الشخص ينظر إليه على أن وجوده لا يخدم الصالح العام. ويرى رابات أن هذه الخطوة منحت الحكومة المزيد من الحرية لتقرر من سوف يتعرض لهذه الممارسة، وبات من السهل جدا إسقاط الجنسية عن أي شخص، دون شرط أو قيد.
ويشير الأنصاري إلى أن هذا القانون لا يمكن استخدامه ضد الأشخاص الذين يمتلكون جنسية واحدة، وبالتالي فإن تأثيره الأكبر يقع على المواطنين غير البيض، الذين غالبا ما ينتمون إلى أكثر من بلد. ومن خلال السماح لوزير الداخلية بتجريد شخص من جنسيته، لأن وجوده بكل بساطة “لا يخدم الصالح العام” في رأي السلطات، فإن البرلمان منح الحكومة صلاحيات غير مسبوقة لتتصرف مثل القاضي وهيئة المحكمة والسلطة التنفيذية، دون أن تكون هنالك أية ضمانات حول مراقبة استخدام هذه السلطة.”
لم يكن ن3 على علم بممارسة إسقاط الجنسية، ولم يتخيل يوما أن يكون هو ضحيتها. فهو يعتبر بريطانيا موطنه الوحيد في هذا العالم
وتعتقد بعض الجماعات الحقوقية أن هذه الحملة مرتبطة بتزايد الإسلاموفوبيا والمخاوف من الإرهاب، بعد أن سافر بعض المواطنين البريطانيين للقتال في سوريا والعراق في السنوات الأخيرة. ولكن بما أن الحكومة لا تفصح عن تفاصيل هذه القضايا، أو أية أدلة يتم استخدامها ضد الأفراد، فإن هذه الملفات تضل غامضة. ويشير الأنصاري إلى أن الكثير من القضايا الأخيرة شملت أفراد موجودين في جنوب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا.
في نفس الإطار يرى رباني أن “هذه القرارات هي غالبا وسيلة لدى وزارة الداخلية للتملص من مسؤوليتها القانونية تجاه مواطنيها، كما شاهدنا مع الأطفال الذين تم التخلي عنهم وتركوا عالقين في سجون سوريا.”
وكانت قضية شميمة بيغوم، الذي تم تجريدها من الجنسية بعد أن غادرت بريطانيا للقتال في صفوف تنظيم الدولة في بريطانيا في 2015، قد أثارت جدلا كبيرا لدى الرأي العام حول هذا القانون، عندما سعت لاحقا لاستعادة جنسيتها.
ويقول الأنصاري: “إن القضايا الأخيرة أظهرت أن هذه السلطة يتم استخدامها في قضايا لا علاقة لها بالأمن القومي، وبالتالي فقد بتنا أمام منزلق قانوني خطير. إن التطبيق الحالي للقانون بعيد كل البعد عن تعهدات الحكومة أمام البرلمان عندما سعت لتغييره في 2002، حين ادعت أنها ستستخدم القانون فقط في قضايا عدم الولاء الأكثر وضوحا.”
ويقول رابات: “إذا كان هنالك وزير يمكنه تجريدك من جنسيتك دون أن يظهر لك أية أدلة أو يعلمك بذلك، فإن السؤال يطرح حول قيمة المواطنة”.
وقبل أن يأتي دوره ليكون الضحية، لم يكن ن3 على علم بممارسة إسقاط الجنسية، ولم يتخيل يوما أن يكون هو ضحيتها. فهو يعتبر بريطانيا موطنه الوحيد في هذا العالم. فرغم أنه ولد في بنغلاديش، كان قد انتقل إلى بريطانيا مع عائلته عندما كان يبلغ ثلاث سنوات. وبدأ مسيرته في الوساطة بين العصابات لفائدة مجلس مدينة لندن في الحي الذي نشأ فيه. ولاحقا انضم ن3 لمنظمة خيرية تركز على تقديم المساعدة في أنحاء العالم. وكانت معظم أنشطته في سوريا، أين نظم عمليات طارئة لتقديم المساعدة الطبية وتوزيع الغذاء وتوفير المأوى لضحايا الصراع.
ويقول ن3: “لقد زادتني هذه التجارب تواضعا وخبرة. فأنت تتعلم الكثير من التواضع من خلال خدمة الآخرين، وتشعر بالامتنان لكونك في هذا الموقع.”
وفي 2003، أثناء توجهه نحو سوريا، تم إيقاف ن3 من طرف ضباط المخابرات البريطانية في المطار، وقد أظهروا أنهم مهتمون بسلامته، وسألوه حول ترتيبات السفر وكمية المال التي يحملها، والوثائق. وقال له أحدهم: “أنت تقوم بعمل مذهل. واصل هذه الجهود وأتمنى لك التوفيق”.
ولكن عندما تم إيقافه مرة أخرى في صيف 2017، بناء على المادة السابعة من قانون الإرهاب، كان الأمر مزعجا ولكن غير مثير للقلق. فقد وصف هو ما تعرض له من إجراءات بأنه “إزعاج دوري يتعرض له المسلمون المسافرون من وإلى بريطانيا”. وتوقع أن يتم استجوابه حول عمله في سوريا، ولكن عوضا عن ذلك سألوه عن آرائه السياسية ومعتقداته الشخصية. ورغم كل ذلك فإنه لم يشعر بالخطر، واعتبر أنهم فقط يحاولون أن يكونوا حذرين.
ولاحقا عاد إلى تركيا دون وقوع أي تعقيدات أخرى، ولذلك فهو لم ير أي داع ليشعر بالخطر.
استئناف قرار إسقاط الجنسية
وبعد عام من بداية إجراءات الاستئناف، قررت اللجنة الخاصة لاستئناف قرارات الهجرة أن الحكومة خالفت القانون بتجريد ن3 من جنسيته. وفي خلال أسابيع، قامت وزارة الداخلية البريطانية باستئناف القرار مرة أخرى. وقد قرر ن3 أن ينتظر في تركيا، وهو قلق من أن يؤثر هذا الاستئناف على قدرته على السفر بجوازه. ولكن عندما جاء وقت جلسة الاستماع في المحكمة، شعر ن3 بالحاجة ليكون موجودا على عين المكان.
وهو يقول: “أردت العودة إلى بريطانيا والحضور في المحكمة لمواجهة خصومي، وأيضا لأظهر للقضاة أن هنالك إنسانا يتأثر بكل هذا، ليس فقط مجرد أرقام وأسماء.”
وكان ن3 خائفا من أخذ رحلة مباشرة إلى بريطانيا، لإمكانية أن يتم رفض دخوله وبالتالي يتم ترحيله إلى تركيا مجددا، أين سيواجه السجن لعامين، “لقد عرفت ما يكفي عن تركيا لأفهم أن ظروف السجن فيها كانت صعبة.”
عوضا عن ذلك استقل ن3 أول رحلة نحو أوروبا، ونزل في ألمانيا دون أية مشاكل. ثم شق طريقه نحو كالي، الميناء الفرنسي القريب من الساحل الإنجليزي، وهناك تسلل عبر الحراس بكل سهولة.
وعندما وصل إلى الجانب البريطاني من ميناء العبارات أين يقف المسافرون لبريطانيا، سلم جواز سفره وأوراقه لمكتب الهجرة، الذي رفض السماح له بالمرور.
عرضت عليه صورة ادعت الشرطة أنها تعود لمخيم عسكري، رغم أنها في الواقع تعود لعطلة قضاها في تركيا
وهو يقول: “لقد اعتبر ضابط الهجرة أنني لا أمتلك ما يكفي من أوراق إثبات الهوية، وأنني مجرد شخص من بنغلاديش أحاول دخول بريطانيا بشكل غير قانوني. لقد كان كلامه بالنسبة لي غريبا جدا.”
وباعتباره ليس مواطنا بريطانيا، فقد تم تسليم ن3 لضباط الهجرة الفرنسيين. وفي أثناء احتجازه في فرنسا، أصدرت محكمة الاستئناف البريطانية قرارا لصالح وزارة الداخلية، بناء على بعض التفاصيل التقنية في ملف القضية، وهنا شعر ن3 بأن جنسيته سحبت منه للمرة الثانية.
بعد ذلك تم احتجازه في مركز ترحيل، بينما كانت السلطات الفرنسية تعمل على إتمام إجراءات إرساله إلى بنغلاديش. وعندما طلب ن3 اللجوء في فرنسا، تم تعليق إجراءات ترحيله في أثناء النظر في طلبه، وتم الإفراج عنه مع فرض الإقامة الجبرية في إحدى القرى المعزولة. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من 2020، تم إيقاف ن3 مجددا بسبب ما زعم أنها إجراءات متعلقة بفيروس كورونا. وتم احتجازه في السجن لمدة أسبوعين، قبل أن يفرج عنه ويعود للإقامة الجبرية.
وقد اضطر خلال تلك الفترة للمشي ستة أميال كل يوم، للتوقيع على استمارة في مركز الشرطة، كما حرم من الرعاية الطبية عندما أصيب بفيروس كورونا في ذروة الجائحة. ومر بمعاناة شديدة لأنه كان معزولا عن عائلته.
وهو يقول حول تلك الفترة: “رغم أنك قريب جدا من بريطانيا التي تعيش فيها عائلتك، تشعر بأنك بعيد عنها ولا تزال محروما منها. هو شعور مختلط بين الحرية والسجن.”
ولم تبدأ الأحوال في التغيير إلا في 20 نيسان/ أبريل 2021، حيث أن وزيرة الداخلية بريتي باتيل سحبت قرار حرمان ن3 من جنسيته، بعد أن فاز ثلاثة مواطنين آخرين من أصول بنغالية بقضاياهم إثر استئناف قرارات مشابهة. ورغم أن ن3 تمكن من العودة إلى بريطانيا، فإن معظم ضحايا إسقاط الجنسية الآخرين فشلوا في الاستئناف.
ومباشرة بعد أن اتصل به مركز الترحيل ليطلب منه أن يحزم أمتعته ويستعد للسفر، تم تسليمه في اليوم الموالي للشرطة البريطانية.
بعد ذلك تم اصطحابه إلى مركز شرطة ساوثوارك في لندن، أين تم احتجازه بناء على قانون الإرهاب. وللمرة الأولى تم استجوابه حول الادعاءات التي أدت إلى بقائه في المنفى لمدة أربع سنوات.
وفي إحدى المناسبات عرضت عليه صورة ادعت الشرطة أنها تعود لمخيم عسكري، رغم أنها في الواقع تعود لعطلة قضاها في تركيا. وهو يقول: “تخيلوا أن مثل هذه الأشياء كانت تصنف على أنها أدلة سرية. كيف يمكنك أن تدافع عن نفسك ضد هذه الأمور!”
كما يقول ن3 أن منزل زوجته السابقة تعرض للتفتيش من الشرطة التي أخذت كل الأجهزة الإلكترونية، ومنها حتى التي يستخدمها أطفاله للقيام بالواجب المدرسي ومشاهدة أفلام الكرتون. كما تدخلت إدارة الخدمة الاجتماعية، لتقييم ما إذا كان الأطفال يواجهون خطر تعلم التطرف من ن3، وهو يعتبر أن “هذا الأمر كان سخيفا مثل النكتة، وكل ما في الأمر أن السلطات كانت تحاول إدانتي بأي شيء”.
وتم الإفراج عن ن3 من الإيقاف بعد أسبوعين دون أن توجه له أية تهم. وفي النهاية توصل مكتب الخدمة الاجتماعية إلى عدم وجود أي خطر متعلق بالتطرف، وتم إيقاف التحقيق.
ويقول رباني: “إن قضية ن3 استثنائية، لأنه كان واحدا من قلة تمكنوا من نقض قرار إسقاط الجنسية.”
والآن بعد عودته إلى منزله مجددا، حصل ن3 على بعض الراحة، قبل أن يفكر في البدء مجددا. وهو يقول: “الآن علي أن أبدأ من الصفر. لقد خسرت كل شيء، ولم يعد بإمكاني الآن العودة للعمل الخيري الذي كرست له كل حياتي.”
كما أن ن3 حرم من عديد اللحظات المتعلقة بالأبوة، مثل لعب كرة القدم مع أطفاله في الحديقة، وجلب احتياجاتهم، والتحدث معهم حول مشاغلهم. وهو يقول: “ابنتي التي تركتها طفلة صغيرة باتت الآن شابة.”
واليوم يعاني ن3 من التبعات النفسية لهذا الغدر والمحنة التي تعرض لها، والتي يقول إنها “كانت تهدف لتعريضه لأقصى ضرر ممكن. وقد عانى خلالها من فقدان الذاكرة لفترة قصيرة، ولا يزال إلى اليوم يواجه صعوبة في النوم.”
ويتذكر ن3 أنه في أيام طفولته كان والداه دائما يحذرانه من أنهم قد يطردون من هذا البلد يوما ما. واليوم يبدو انعدام الثقة أمرا منطقيا، باعتبار أن كثيرين من أبناء الجيل الأول والثاني من المهاجرين من جنوب آسيا نحو بريطانيا يتعرضون للعنصرية وكراهية الأجانب بعدة أشكال. ويقول ن3: “لأكون صريحا أنا لم أشعر أبدا بهذا الأمر، وكنت أؤمن بأن بريطانيا هي بلدي. ولكن الآن أرى أنني مواطن من الدرجة الثانية، وما ذكره لي والدي كان صحيحا. ويبدو لي أن كل تلك العنصرية عادت اليوم ولكن من خلال أشكال جديدة.”
المصدر: صحيفة تايم