يقول مدير مكتبات البودليان في جامعة أكسفورد، ريتشارد أوفندن، في كتابه “إحراق الكتب: تاريخ الهجوم على المعرفة” إن الحفاظ على مصادر المعرفة عبر التاريخ وحمايتها من التلف والإتلاف أمرًا معقدًا للغاية، لا سيما بعدما تعرضت إلى حملات ممنهجة من الغزاة والمستعمرين، كان نتيجتها أن زُج بملايين الكتب والمؤلفات إما في النار أو النهر، وما نجا منها من هاتين المقصلتين واجه شبح التمزيق، ووصل الأمر إلى حفظ المؤلفات في المعابد بعيدًا عن أيدي التالفين.
وفي العصور الحديثة سقطت عشرات المكتبات في براثن الجماعات المتطرفة والشعبوية، قدموها قربانًا لأطماع سياسية أو عقدية، فساهموا عن جهل وبجهل في حرمان العقل الإنساني من أمهات الكتب وزخائر المعرفة، فيما يبدو كأن الغزاة يكرهون العلم ويحقدون على العلماء ويجاهدون قدر الإمكان في نشر الجهل والتخلف ووأد أي ميلاد لشعاع نور من هنا أو هناك.
ورغم ازدهار حركة التأليف في التاريخ الإسلامي منذ السنوات الأولى للبعثة النبوية، إلى الحد الذي كان يحتاج فيه بعض الملوك إلى أكثر من 60 جملةً لحمل ما لديه من الكتب والمؤلفات، كما ذكر جلال السيوطي في “المزهر“، فإنها – أي حركة التأليف – تعرضت لطعنات موجعة على أيدي بعض القوميات العرقية والدينية ألقت بجل التراث الإسلامي إما في الحرائق الهائلة وإما في مياه النهر.
وشهد التاريخ العربي والإسلامي عشرات الوقائع لحرق المكتبات ومخازن الكتب والمعرفة، نحاول في هذا المقال أن نلقي الضوء على بعضها، – فالتطرق لها حصرًا أمرًا شاقًا للغاية ويصعب تنفيذه بشكل دقيق -، للوقوف على حجم الخسائر التي تعرضت لها الإنسانية جراء الحقد والكراهية لكل ما هو عربي أو إسلامي.
مصر.. مليون كتاب في حريق مكتبة الإسكندرية
كانت مكتبة الإسكندرية أعظم مكتبات العالم في القرون الأولى، وأول مركز دراسات في التاريخ القديم، تأسست عام 300 قبل الميلاد على أيدي بطليموس الأول، وإن نسبت فيما بعد إلى القائد المقدوني الإسكندر الأكبر الذي أمر بإنشائها، لتحيا أوج ازدهارها خلال عصر بطليموس الثاني (309 – 246 قبل الميلاد).
تعرضت المكتبة لواحدة من أقبح جرائم التاريخ على الإطلاق، حين أحُرقت بالكامل على أيدي إمبراطور الرومان يولويوس قيصر عام 48م، وذلك على خلفية نزاعه على حكم مصر مع بطليموس الصغير، فقد أحرق أسطولًا كاملًا من السفن كان موجودًا على شاطئ البحر المتوسط أمام المكتبة، فأراد ألا يستفيد منه خصومه فأحرقه لتمتد النيران إلى المكتبة فأحرقتها بالكامل.
لم تكن مكتبة الإسكندرية الحالة الوحيدة في مصر لحرق خزائن المعرفة والكتب
في ذلك الوقت كانت مكتبة الإسكندرية خزانة كتب العالم القديم، وقد وصل عدد المؤلفات والمخطوطات التي ذهبت في الحريق أكثر من مليون كتاب، من بينهم أعمال الشاعر الأسطوري الإغريقي “هوميروس” ومكتبة الفيلسوف اليوناني المعروف “أرسطو”.
هناك بعض الآراء الضعيفة التي حاولت لصق جريمة حرق المكتبة بالفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص (642 م) لكنها الروايات التي فندها المؤرخون والباحثون التاريخيون وكذبوها جملةً وتفصيلًا، لتظل تلك الواقعة وصمة عار في جبين الرومان من الصعب أن يمحوها التاريخ.
لم تكن مكتبة الإسكندرية الحالة الوحيدة في مصر لحرق خزائن المعرفة والكتب، ففي عام 1291م حرقت خزائن الكتب بالقاهرة، وبحسب تقي الدين المقريزي في كتابه “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” فقد كانت تحوي مليون و600 كتاب، بينهم 1200 نسخة من تاريخ الطبري بجانب نفائس العلوم الأخرى.
كما تعرضت “خزانة الفاطميين” هي الأخرى لواحدة من أروع جرائم الإهمال، فبعد سقوط الدولة الفاطمية على أيدي السلطان صلاح الدين بن أيوب، تم التفريط في الخزانة التي اشتراها القاضي الفاضل وأوقفها في إحدى المدارس بالقاهرة قبل أن تمتد إليها أيادي العابثين لتقضي على ما تبقى منها، ويذهب المؤرخون إلى أنها كانت تضم عشرات آلاف أمهات الكتب كما ذكر أبو العباس القلقشندي في كتابه “صبح الأعشى“.
العراق.. الكتب تسد نهر دجلة
كانت بغداد من المدن السبّاقة في التأليف، وكانت عاصمة الخلافة العباسية وواحدة من منارات العلم في العالم، بل كانت قبلة العلماء ومنبت الفقهاء وجذر التنوير الضارب في عمق التاريخ، ومن ثم حاول الغزاة قدر الإمكان أن يجردوها من تلك الميزة التاريخية كلما هبت عليهم ريح الاستعمار.
وتعرضت العراق بصفة عامة إلى عشرات الجرائم الوحشية خلال الغزو المغولي (1258م) على أيدي هولاكو خان، الذي كشف عن وجهه القبيح في معاداة الفكر والتنوير والثقافة البغدادية، من خلال همجيته التي مارسها في خزائن المعرفة والمكتبات التي كانت تزخر بها بغداد.
في كتابه “خزائن الكتب العربية في الخافقين” يصف الباحث اللبناني (سوري الأصل) الفيكنت فيليب دي طرازي بشاعة الجرائم التي ارتكبها هولاكو بحق مكتبات بغداد قائلًا إنه تمادى في التخريب والبطش قاصدًا دار الحكمة وخزائن كتب المدرسة النظامية والمستنصرية وخزائن الكتب العامة والخاصة، حتى ألقى بها في نهر دجلة فسد مجراه وكان الناس يستخدمونها كجسر يعبرون عليه النهر.
ومن قبلها تعرضت خزانة الكتب في بغداد لحريق مروع عام 1225م أسفر عن حرق أكثر من عشرة آلاف مجلد وأربعمئة من نفائس العلوم في شتى المجالات، وبعد قرابة 90 عامًا من تلك الواقعة، وقع حريق البصرة فأطاح بدار الكتب الشهيرة التي أنشأها عضد الدولة وكانت أول دار كتب أُنشئت في الإسلام.
كانوا ينظرون إلى كل كتاب عربي أو إسلامي على أنه عدو يجب التخلص منه بأي طريقة
ومع غزو العراق في 2003 وما تلاها من سنوات عربدت فيها الجماعات المسلحة فيما بعد، سقطت عشرات المكتبات العامة في أيدي الغزاة، أبرزها دار الكتب والوثائق ببغداد والمكتبة المركزية لجامعة بغداد ومكتبة الأوقاف المركزية ومكتبات أخرى، فأحرقوها وأتلفوا ما بها من كتب، ولم ينج منها إلا القليل عبر جهود شخصية بذلها أبناء الوطن للحفاظ على تراثهم الذي تعرض لجريمة اغتيال تاريخية مكتملة الأركان.
المكتبة المغربية.. الإسبان يحرقون كل ما هو عربي
ومن العراق إلى المغرب، حيث أحرق الغزاة الإسبان ومعهم البرتغاليون أمهات الكتب في البلاد، إذ كانوا ينظرون إلى كل كتاب عربي أو إسلامي على أنه عدو يجب التخلص منه بأي طريقة، فكان الحرق والرمي في البحر الوسيلة الأسرع للتخلص من هذا التراث الذي يذكرهم بأمجاد المسلمين وحضارتهم التي أنارت أوروبا حين كانت شوارعها بلا أضواء ولا مدارس ولا كتب.
المؤرخ المغربي وخبير المخطوطات الموسوعي محمد المنوني في كتابه “دور الكتب في ماضي المغرب” تطرق إلى حالة العداء بين الإسبان والكتب العربية قائلًا: “نُلاحظ أنَّ المكتبة المغربية نالها حظها من المحن التي نزلت بالمغرب، من جراء احتلال البرتغال والإسبان للكثير من شواطئ المغرب”، وأضاف “فإنَّ هؤلاء المحتلين وبالأخص الإسبان الذين أحرقوا كل كتابٍ عربي لما انتصروا على المسلمين في إسبانيا لا بد أن يبيدوا بالمغرب كل ما وقفوا عليه مما يرجعُ للعربِ والإسلام، أو على الأقل ينهبوا ما عثروا عليه من ذلك”.
ومن أشهر المكتبات التي أحرقها الإسبان حسبما ذكر المنوني “مكتبةُ الجامع الأعظم بآسفي” وكان بها نحو أربعمئة كتاب في مختلف العلوم، كذلك “مكتبة زيدان” التي كان بها أكثر من ثلاثة آلاف مخطوط عربي استولى عليهم الغزاة وألقوا بها في البحر والباقي أحرقوه.
دار العلم بالشام.. الصليبيون يحرقون 3 ملايين كتاب
كانت “دار العلم” في طرابلس الشام واحدةً من منارات الكتب والمعرفة في العالم، تلك الدار التي قال عنها ابن الفرات: “لم يكن في جميع البلاد مثلها حسنًا وكثرةً وجودةً”، إذ كانت تحوي أكثر من مليون كتاب في علوم القرآن والآداب، وكانت تعتبر أحد عجائب الدنيا، غير أن الصليبيين والمغول لم يتركوها هكذا، خوفًا مما بها من كتب تحث على الجهاد ومقاومة المستعمر.
في أعقاب الغزو الصليبي والمغولي للشام، أحرق هولاكو مدارس دمشق وخزانة كتبها، التي كانت تحتوي على أكثر من أربعمئة ألف مجلد، وتشير الروايات إلى أن النار ظلت مشتعلة طيلة 3 أيام كاملة، حتى أكلت الأخضر واليابس، ولم يتبق من تلك المكتبات إلا الجدران والحوائط فقط.
ومن المكتبات التي أحرقها المغول والصليبون مكتبة الجامع الأموي بدمشق عام 1253 ومكتبة بني عمار في طرابلس، تلك المكتبة التي كانت تمثل ملتقى الكتب الفارسية واليونانية والعربية، وكان يزيد عدد عناوينها على مئة ألف كتاب حسبما ذكر الباحث السيد عبد العزيز في كتابه “طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي“.
مكتبات الأندلس.. 7 سنوات من حرق الكتب
خلال القرنين الخامس والسادس للهجرة شهدت الأندلس موجةً من حرق الكتب الإسلامية، بأوامر عليا من السلطة الحاكمة آنذاك، حيث أحرقت كتب الإمام ابن حزم الظاهري في عهد “أمراء الطوائف”، كما أحرقت كتب الإمام أبو حامد الغزالي في عهد أمير دولة المرابطين، علي بن يوسف.
وفي عام 1501 أمر الكاردينال الإسباني سيسنيروس (1436 -1517) بحرق مكتبة “مدينة الزهراء” وكان بها 600 ألف مخطوط في شتى العلوم، فيما تشير الروايات إلى أن السنوات السبعة التي أعقبت سقوط الأندلس شهدت حرق أكثر من 70 مكتبة إسلامية تضم مئات آلاف الكتب.
وبعد 8 قرون متتالية كانت فيها الأندلس منارة علم للحضارة الإسلامية، يشع نورها فيضيء ظلمات الجهل في أوروبا، سقطت في أيدي الإسبان لتواجه شبح الانتقام، ليس من المدينة لكن من الحضارة الإسلامية التي وثقت فيما تركته من مؤلفات وكتب ومخطوطات، فكان الحرق الوسيلة الأسرع لوأدها كما توهموا وقتها.
جرائم في حق التاريخ
في 2015 تعرضت مكتبة المعهد العلمي للعلوم بروسيا لحريق مروع تسبب في إتلاف أكثر من مليون وثيقة ومخطوط تاريخي، هذا الحريق الذي وصفته الأوساط العلمية بـ”تشرنوبيل ثقافي”، ولولا سرعة التعامل مع الحريق لكانت الكارثة أكبر إذ تحتوي تلك المكتبة التي أنشئت عام 1918 على أكثر من عشرة ملايين وثيقة.
إن كان الغزاة قديمًا يعتقدون أن الانتقام من العرب والمسلمين يكون عبر حرق تراثهم وطمس هويتهم الثقافية، فإن التاريخ أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه رغم كل تلك الفواجع والمآسي التي فجعوا بها، ما زالت حضارتهم منارة ينهل منها العالم في شتى العلوم
ومن أكثر المكتبات التي سلط المؤرخون الضوء عليها عقب حرقها “مكتبة الكونغرس” التي أنشأها الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفروسن عام 1800، وتضم قرابة 130 مليون مادة مختلفة، منها 29 مليون كتاب وأكثر من 58 مليون وثيقة.
تعرضت المكتبة لحريق هائل في 1851 بسبب إحدى المداخن، لتلتهم النيران قرابة 35 ألف كتاب، وكان صدمة للشارع الأمريكي، الأمر الذي دفع الحكومة وقتها لبناء جناح جديد للمكتبة بمواد غير قابلة للاشتعال، كان ذلك عام 1853، فيما تم توفير كل وسائل الحماية اللازمة.
إن كان الغزاة قديمًا يعتقدون أن الانتقام من العرب والمسلمين يكون عبر حرق تراثهم وطمس هويتهم الثقافية، فإن التاريخ أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه رغم كل تلك الفواجع والمآسي التي فجعوا بها، ما زالت حضارتهم منارة ينهل منها العالم في شتى العلوم، لتؤكد التجربة أن الحضارات لا تسقط بحرق كتبها التي تظل محفورة في الأذهان والقلوب مهما طال الزمن.
وفي هذا الشأن يقول المؤرخ المغربي محمد عبد الحي الكتاني في كتابه “نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية“: “إنْ أُحرقَ ما أُحرق ونُهبَ ما نُهب وحُجرَ ما حُجر وأُخفيَ ما أُخفي فالأصلُ الأصيل لتفاصيلِ المدينة الإسلامية القرآنُ الكريم الذي جمعَ فأوعى وكان حفظهُ الذي لا يُنسى على ممر الدهور”.