يجمع الباحثون في الشؤون العسكرية والأمنية على أن هناك تطورًا ملحوظًا في النشاط العسكري التركي تقنيًا خارج ديار الأناضول إلى آفاق أرحب، لدى الدول التي ترى في السلاح التركي بديلًا متكاملًا للصادرات العسكرية القادمة من الموردين التقليديين شرقًا وغربًا.
إلى جانب المعارض الدفاعية العملاقة والتسهيلات الاقتصادية في الشراء وندرة الشروط السياسية وافتتاح المكاتب الخارجية، فقد جرى إسناد موثوقية المنتجات التركية بالتجارب الميدانية العملية، سواء من خلال التجارب المصورة لأعمال اختبار تلك الوسائل أم مشاركات الجيش التركي الفعالة ضد خصومه خارج الحدود، وصولًا إلى الوقوف الفوري مع الحلفاء ضد المخاطر المشتركة.
في هذا السياق، يلاحظ أن أحد أبرز الأسواق الجديدة التي اقتحمتها المنتجات العسكرية التركية خلال الأشهر الأخيرة بصفقات يصل مجموع قيمتها إلى مئات ملايين الدولارات هي السوق المغربية.. فما هي الدلائل والمقومات الداعمة لتلك المقولة؟
تنويع مصادر التسلح
بالنسبة لمعظم الدول، فإن تنويع مصادر السلاح يعد هدفًا إستراتيجيًا لا يخدم فقط الأغراض الأمنية وقت الأزمات، وإنما يساعد في بلورة معادلة اقتصاد سياسي متوازنة للدول غير المنتجة، بحيث تستطيع تلك الأسواق الحصول على احتياجاتها في جو من التنافسية، بعيدًا عن الاحتكار.
في المغرب، تمكنت معادلة الاجتماع السياسي السائدة في البلاد من المضي قدمًا في قطاعات مختلفة باتت جزءًا من هوية الدولة دون الحاجة إلى موارد نفطية ضخمة أو مديونيات خارجية عملاقة، وذلك اعتمادًا على الموقع المتميز والتسهيلات الاستثمارية، ما أدى إلى بروز اسم الرباط في قطاعات حيوية بعينها مثل صناعة السيارات والأدوية والسياحة.
من الواضح أن قرارًا سياديًّا مغربيًّا اتخذ بتعميق التعاون مع بدائل أخرى، كان على رأسها تركيا
عسكريًا، لطالما اعتمدت الرباط على الشركاء الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا، من أجل تلبية احتياجاتها المتعلقة بتأمين الحدود المترامية برًا وبحرًا والحد من النزعات الانفصالية وموازنة وتيرة العسكرة لدى جيرانها الإقليميين الذين يعتمدون على الكتلة الشرقية.
ولما كان الموردون الغربيون لا يمكنهم الوفاء بكل متطلبات الرباط الدفاعية لأسباب بيروقراطية داخلية خاصة بهم، أو أسباب تتعلق بالاعتبارات الأمنية غير المعلنة، فمن الواضح أن قرارًا سياديًّا مغربيًّا اتخذ بتعميق التعاون مع بدائل أخرى، كان على رأسها تركيا.
إعادة تجديد الجيش
تشي التطورات المتلاحقة في هذا الشأن بأن هناك إعجابًا شديدًا لدى متخذ القرار المغربي بأبرز المنتجات الدفاعية التركية، في ظل العمل على تنويع مصادر السلاح من ناحية وتجاهل بعض الشركاء الغربيين تلبية الاحتياجات النوعية للرباط من جهة أخرى.
أبرز الوقائع في هذا الشأن، كان الرفض الأمريكي غير المباشر في المرحلة الثانية، مرحلة الموافقة التشريعية، لصفقة تصدير طائرات مسيرة شديدة التطور للمغرب، رغم موافقة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على الصفقة، وموافقة الرباط على الانخراط في الخطة السياسية لواشنطن في عهد ترامب المتعلقة بتعزيز العلاقات مع “إسرائيل”.
بشكل عام، تحتاج الدول إلى المسيرات لتقليل الاعتماد على الطائرات التقليدية في المهام التي لا تستلزم الاستعانة بالمقاتلات، كما تسعى الكثير من الدول إلى تعزيز أسطولها من الطائرات المسيرة لأسباب اقتصادية تتعلق برخص ثمن هذا النوع من الطائرات مقارنة بالطائرات التي تحتاج إلى فاتورة أعلى في التصنيع والشراء والصيانة وتكلفة الطلعات الجوية، إلى جانب سد الفجوة التقنية الخاصة بالإقبال الملحوظ من الجميع على المسيرات.
في الفترة من أبريل/نيسان 2021 إلى سبتمبر/أيلول من نفس العام، وهي فترة وجيزة للغاية، نجح المفاوض المغربي في إقناع نظيره التركي بالحصول على 13 طائرة مسيرة تركية من طراز “بيرقدار تي بي 2” التي تصنعها شركة “بايكار” وتسلم الدفعة الأولى منها بالفعل، ضمن برنامج يشمل التدريب الفني للكوادر المغربية في تركيا بقيمة إجمالية تصل إلى 80 مليون دولار.
ربطت مجلات عسكرية بين هذا الخبر وخبر مماطلة الكونغرس الأمريكي في تمرير صفقة مسيرات MQ-9B شديدة التطور إلى المغرب، بمجرد الإعلان عن نيته الحصول على البيرقدار، لأسباب على رأسها “التزامن” بين الخبرين من جهة، ولجوء دول كثيرة إلى الخيار التركي رغم تفوق المسيرات الأمريكية تقنيًا، لأسباب على رأسها العامل الاقتصادي والتجربة العملية التي تصب في صالح ترجيح المنتج التركي من جهة أخرى.
في بيان الفجوة الموجودة والمتنامية إلى حد ما بين وسائل الدفاع الجوي التقليدية والمسيرات الحديثة، التي تعد أحد أسباب الإقبال الحاليّ على تلك الوسائل، يقول الخبير العسكري دان غيتنغر: “وسائل الدفاع الجوي المنتشرة في الجيوش التقليدية مخصصة للتعامل مع المقاتلات السريعة والصواريخ، لكنها تجد صعوبة في التصدي للطائرات المسيرة رخيصة السعر سهلة التوجيه”.
ليست الصفقة الأولى
ما يشي بأن هناك مُخرَجًا نهائيًا من صانع القرار المغربي بأن السلاح التركي يوافق متطلبات الرباط التقنية والاقتصادية، أن المغرب سعى، في نفس الوقت الذي تفاوض خلاله لإنجاز صفقة “بيرقدار” على وجه السرعة، لشراء المنتج المكمل لتلك الصفقة ميدانيًا، وهو منظومة الحرب الإلكترونية “كورال”.
في المعارك ضد الانفصاليين الأكراد شمال سوريا والعراق، وبعض المعارك في ليبيا وأذربيجان، كانت منظومة “كورال” تعمل بتناغم وتآزر ميداني ملحوظ مع المسيرات من طراز “بيرقدار”
ففي يوليو/تموز 2021 كشف موقع “جلوبال ديفينس كورب” المتخصص في الشؤون الدفاعية، أن المغرب أبرم تعاقدًا مع شركة “أصيلسان”، إحدى أبرز المؤسسات العسكرية التركية، للحصول على أدوات إخماد الرادارات المعادية من طراز “كورال” بقيمة تجاوزت 40 مليون دولار أمريكي.
في المعارك ضد الانفصاليين الأكراد شمال سوريا والعراق، وبعض المعارك في ليبيا وأذربيجان، كانت تلك المنظومة تعمل بتناغم وتآزر ميداني ملحوظ مع المسيرات من طراز “بيرقدار”، فقبل أن تنقض الأخيرة على المركبات والأرتال المدرعة المعادية، كانت “كورال” تتولى مهمة التشويش على وإخماد الرادارات المعادية.
في أغسطس/آب الماضي أيضًا كشفت مصادر مغربية محلية أن القوات الجوية المغربية تفاوض نظيرتها التركية ممثلة في شركة “توساش تاي” للصناعات الجوفضائيّة من أجل إبرام واحد من أكبر العقود في تاريخ الصناعات العسكرية التركية والعلاقات الثنائية بين البلدين وذلك من أجل الحصول على 55 مروحية من طراز “أتاك” بقيمة تصل إلى 1.3 مليار دولار.
حال الإعلان الرسمي عن الصفقة، مع الأخذ في الاعتبار أن المغرب مثل دول أخرى يفضل أن ينهي تعاقداته بقدر من السرية منعًا لإثارة غضب ومخاوف الجيران الإقليميين، فإنه سيكون الدولة الثالثة التي تحصل على هذا المنتج العسكري مستوردًا من تركيا، بعد باكستان والفلبين.
وقبل ذلك، كانت مواقع دفاعية قد كشفت نجاح المغرب في إبرام تعاقد بري مع تركيا أيضًا مطلع عام 2021، للحصول على مركبات مدرعة رباعية الدفع من طراز “إجدر يالشين” المصنعة من طرف شركة “نورول ماكينة” التركية لتدعيم القوات الخاصة المغربية، وهي نفس المركبة التي نجحت تركيا في تصديرها إلى المجر، ما يعني أن صانع القرار المغربي قرر وضع تركيا في مصاف أبرز المصدرين العسكريين لديه.
ما سر القلق الفرنسي؟
وفقًا للبيانات الرسمية الفرنسية عام 2020، فإن المغرب يعد أول الدول استيرادًا للمنتجات العسكرية الفرنسية من إفريقيا سنويًا، والثالث على مستوى العالم، بعد السعودية والولايات المتحدة، مع الأخذ في الاعتبار أن الأخيرتين تزيد مشترياتهما لأسباب من بينها الارتفاع الضخم في ميزانيتهما العسكرية في الأساس.
لا تقتصر المشتريات العسكرية المغربية من فرنسا كل عام على الصفقات العسكرية لأنواع جديدة في تخصصات البحرية والجوية والدفاع الجوي فقط، وإنما تشمل أيضًا تطويرات وصيانة وقطع غيار على الأسلحة الفرنسية المتغلغلة منذ زمن في بنية الجيش المغربي لأسباب تاريخية وسياسية وتقنية وثقافية.
فرنسا تواجه تركيا من خلال لاعبين يعملون لصالحها في الإقليم سواء على الصعيد العسكري أم السياسي من خلال بعض أنظمة الحكم في إفريقيا السمراء
من هذا المنظور الاقتصادي البحت، لا يعد توجه المغرب إلى الاعتماد الشامل على تركيا في تحديث جيشه مؤخرًا كما يتضح من تتبع الصفقات والمفاوضات الجارية بين البلدين، خصمًا من فاتورة المبيعات الفرنسية للمغرب فقط، وإنما تأسيسًا مستقبليًا بعيد المدى للوجود العسكري التركي، بالمبيعات، في المغرب، وهو ما أكده لنا الخبير في الشأن التركي محمد نور فرهود.
وفقًا لفرهود في حديث اختصنا به في “نون بوست”، فإن الحديث عن قلق فرنسا من النفوذ التركي في المغرب لا يعد مجرد تحليل مبني على أساس اقتصادي أو إعلامي فقط، وإنما هو استقراء أيضًا للموقف الفرنسي من النفوذ التركي في أي مكان آخر بالقارة الإفريقية.
وفي نفس الدائرة الجيوسياسية يربط فرهود النقاط ببعضها قائلًا: “فرنسا تواجه تركيا من خلال لاعبين يعملون لصالحها في الإقليم سواء على الصعيد العسكري أم السياسي من خلال بعض أنظمة الحكم في إفريقيا السمراء، ويمكن القول بالنظر إلى تمدد ساحات الصراع بين البلدين من ليبيا إلى شرق المتوسط، حيث أقحمت باريس نفسها في مواجهة أنقرة لصالح اليونان، أن الأمر تطور من القلق العام إلى التنافس الحاد، وهو ما يشمل طبيعة الصراع في البيئة المغربية بالتبعية، حيث التنافس على النفوذ في كعكة المشتريات المغاربية”.
دبلوماسية الصادرات العسكرية
مرت العلاقات التركية المغربية منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا بعدة مراحل، وأخذت عدة تمظهرات من الاقتصادي النفعيّ إلى العسكري، ومن التعاون الحذر إلى التوتر المكتوم وصولًا إلى المنافع المشتركة.
ففي 2004 وقع الجانبان اتفاقًا للتجارة الحرة يقضي بتبادل السلع الاقتصادية بين البلدين بلا تعقيدات جمركية من أجل رفع التبادل التجاري وتعزيز المعاملات المالية بين رجال الأعمال لدى الطرفين، وهو الاتفاق الذي بدأ تنفيذه على أرض الواقع عام 2006.
ساهم هذا الاتفاق بالفعل في إنعاش المعاملات الاقتصادية بين البلدين ليصبح المغرب من أبرز الدول الإفريقية التي تربطها علاقات تبادل تجاري مع تركيا، لتصل التجارة بين البلدين إلى نحو 2.8 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2018.
لكن هذا الانتعاش في الأرقام الخارجية للمعاملات التجارية بين البلدين كان ينطوي على قلق مغربي وصل إلى حد الانزعاج من تفوق تركيا في الميزان التجاري المشترك، وبالأخص في بعض المنتجات التي يشتهر بها المغرب في الأساس كالصناعات النسيجيّة، ما فتح الباب أمام التكهنات بشأن أزمة دبلوماسية محتملة بين الطرفين، حال أقدمت الرباط على إلغاء الاتفاقية، في ظل صادرات تركية تجاوزت 1.6 مليار دولار من إجمالي التبادلات البينية.
في الفترة من 2018 إلى 2020، عكف البلدان على إعادة صياغة الاتفاق بحيث يقلص دخول المنتجات التركية إلى الأسواق المحلية بما لا يؤثر سلبًا على تماسك المجتمع الصناعي في الرباط، بعد أن فعّلت الأخيرة المادة 17 من الاتفاقية التي تتيح لها زيادة الجمارك على منتجات محددة، وهو ما لاقى تفهمًا لدى الجانب التركي.
يصف الخبراء تلك الأزمة بأنها نجمت عن تركيز البلدين على القطاعات الإنتاجية كثيفة العمالة في بنيتهما الاقتصادية مثل صناعة الغزل والنسيج، تزامنًا مع تنافسية عالمية للمنتج التركي، ما استلزم إعادة النظر في الاتفاقية بين البلدين، وهو ما ينتظر أن يقوم به المغرب تباعًا مع دول أخرى عقد معها اتفاقات تجارة حرة، كما يقول إدريس بوانو الخبير المغربي.
بالنظر إلى الإقبال المغربي على المنتجات التركية في مجال حساس كالصناعات العسكرية وهو ما لا يمكن أن يحدث – خاصة في دولة مثل المغرب – دون ضوء أخضر ملكي، فإن العلاقات الثنائية بين البلدين لم تعبر عنق الزجاجة وحسب، وإنما أرست تقليدًا يقوم على المصالح المشتركة لدى الطرفين، وهو ما تقول تركيا إنه يميزها عن منافسيها العالميين.
ماذا عن الجزائر؟
على عكس فرنسا، فإن الجيران الإقليميين للمغرب ينظرون إلى التقارب العسكري بين الرباط وأنقرة بعين أقل قلقًا، وذلك يعود إلى عدة أسباب على رأسها أن الصادرات التركية للمغرب تستهدف بشكل رئيس حفظ الأمن بمفهومه الشامل والمساعدة في تأمين الصحراء، دون تهديد للجزائر.
ما يشغل بال تركيا ليس الوجود العسكري المحض، وإنما الحفاظ على الأمن وإنعاش القارة السمراء واعتماد سياسة الربح للجميع، وليس تحقيق الأرباح لها وحدها على حساب الدول الإفريقية، كما تفعل الدول الكبرى
فمع العلاقات المتوترة بين المغرب والجزائر، فإن تركيا تحرص على أن تمد المغرب بالمنتجات التي تتميز بها الصناعات العسكرية التركية، التي تحقق معادلة: تقنية عالية، شروط سياسية أقل، المساعدة في تعزيز قوة الجيش النظامي ضد الحروب غير المتماثلة، وسعر تنافسي، بعيدًا عن معادلة سباق التسلح بين البلدين.
وفي نفس الوقت، فإن تركيا تحتفظ لنفسها بعلاقات متينة وتاريخية مع الجزائر، إذ تعد الجزائر واحدةً من مصدري الغاز إلى الاقتصاد التركي وفقًا لعقود تستمر إلى عام 2024، وتعتبر الجزائر، إلى جانب مصر، الشريك التجاري الأكبر لتركيا في القارة الإفريقية بمجموع تبادلات سنوية يفوق 4 مليارات دولار.
تدرك الجزائر كذلك أن الدبلوماسية التركية تنظر إلى الشركاء في إفريقيا وفقًا لعدة مناظير واعتبارات، كالإرث السابق للاستعمار الفرنسي وضرورة الحفاظ على التوازنات العربية والنفوذ التركي المستجد في غرب ليبيا والدور التركي المتصاعد في حفظ الأمن بدول الساحل والصحراء وتنويع الصادرات التركية، وكلها عوامل تقلل من المخاوف الجزائرية إزاء ذلك الملف.
وهو ما يؤكده فرهود قائلًا: “بالنسبة لتركيا فإنها لا تضع النفوذ العسكري هدفها الأهم وأولويتها القصوى في علاقتها مع إفريقيا، وإنما تولي الاهتمام الأكبر إلى القوة الناعمة والنشاط الإنساني والإغاثي، وهو ما يتجلى في تخطيطها لمشاركة لقاحها المحلي مع الدول الإفريقية التي حرمت من اللقاحات العالمية”.
“ما يشغل بال تركيا ليس الوجود العسكري المحض، وإنما الحفاظ على الأمن وإنعاش القارة السمراء واعتماد سياسة الربح للجميع، وليس تحقيق الأرباح لها وحدها على حساب الدول الإفريقية، كما تفعل الدول الكبرى، ومنهم فرنسا”، يقول فرهود.