نشر موقع (BBC عربي) في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 تقريرًا تحت عنوان “انقلاب السودان: لماذا غاب “حميدتي” عن المشهد السياسي؟” حاول من خلاله البحث عن إجابة وتفسير عن ابتعاد نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو “حميدتي” عن الساحة منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وبروز رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان كوجه الانقلاب الوحيد.
ورغم الضغوط التي تعرض لها البرهان جراء انقلابه، سواء من الداخل أم الخارج، التي كانت تتطلب وجود نائبه بجواره – إعلاميًا على الأقل – بما يعزز موقفه، فإنه كان بعيدًا تمامًا عن حديث الإعلام، الأمر الذي أثار وقتها تساؤلات عما يدور في الكواليس بشأن الجنرال الذي كان الساعد الأيمن لنظام الإنقاذ ورئيسه المعزول عمر البشير.
وبعد صمت دام لأكثر من ثلاثة أشهر، يعود حميدتي للأضواء مرة أخرى، عبر سلسلة من اللقاءات والتحركات الدبلوماسية والشعبية، داخليًا وخارجيًا، يحتل بها مركز الصدارة في اهتمامات وسائل الإعلام المحلية والإقليمية، ليعيد الرجل الجدل مجددًا بشأن سر تلك العودة وما تعكسه من دلالات.
تكثيف الحضور الشعبي
كثف حميدتي خلال الأيام الماضية حضوره الشعبي والمجتمعي من خلال عدد من اللقاءات التي جمعته بولاة المدن ورموزها السياسية بجانب رؤساء بعض الأحزاب بالبلاد، هذا بخلاف لغة الخطاب المستخدمة التي باتت أقرب للدبلوماسية منها للعسكرية خاصة بعد ظهوره أكثر من مرة مرتديًا الزي المدني.
وبجلباب وعمامة بيضاء، خطب حميدتي في حضور قرابة 7 آلاف شاب وطالب في حفل تدشين منظمة “أيادي الخير” بالخرطوم، الذي أقيم في 11 من الشهر الحاليّ، كمبادرة شبابية برعايته شخصيًا، مناشدًا الشعب السوداني بالتعاون والتكافل من أجل عبور المرحلة الحاليّة، وأن تتضافر كل الجهود لتعزيز اللحمة الوطنية.
الجنرال الأبيض (نسبة إلى لون جلبابه) كشف أن بلاده تنعم بالعديد من الخيرات والثروات التي من الممكن أن تنقلها إلى مصاف الدول المتقدمة، مستدركًا “المشكلة فينا نحن” داعيًا أهل السودان إلى نبذ العنصرية والقبلية، مشددًا على أن “كل من يعرقل الوفاق نتجاوزه وما لدينا هو مشروع وليس برنامج”.
كثيرون ينظرون لحميدتي على أنه البديل العسكري الجاهز للقفز على السلطة في ظل تصاعد حدة الانتقادات ضد رأس السلطة الانتقالية الحاليّة، وربما يكون وجه العملة المقابل للبرهان
التحركات الخيرية التي قام بها حميدتي لاقت ترحيبًا كبيرًا لدى قطاع كبير من المجتمع السوداني، هكذا أراد أن يقول الجنرال، حين أعلن تبرع رجال أعمال سودانيين بأكثر من 11 مليون دولار، ستخصص “لأعمال صيانة الداخليات والخلاوي، إلى جانب مساعدة الطلاب لاستكمال تعليمهم”، حسبما نشر في بيان له على صفحته على فيسبوك.
وأعرب نائب رئيس مجلس السيادة عن أمله بأن “يتوجه السودانيون جميعًا نحو العمل بوضع خريطة طريق ومشروع وطني ينهض ببلادهم، ويضعها في مكانها الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه”، مشددًا على “ضرورة توافق الأحزاب السياسية على رؤية موحدة تحقق مصلحة البلاد”، مشيرًا إلى أن “الحل الحاسم لأزمة السودان لا يتم إلا عبر صناديق الانتخابات”.
حراك دبلوماسي
وبالتوازي مع الحضور الشعبي كانت هناك تحركات دبلوماسية داخلية وخارجية، ففي 12 فبراير/شباط الحاليّ التقى حميدتي، وفد مفوضية الاتحاد الإفريقي برئاسة موسى فكي رئيس المفوضية، إذ قدم تصورًا عامًا عن تطورات الوضع وتعقيدات الأزمة، مرحبًا بأي وساطة يقوم بها الاتحاد لتقريب وجهات النظر بين الأطراف السودانية.
الجنرال السوداني حاول قدر الإمكان تقديم صورة إيجابية عن رؤيته الخاصة لحلحلة الأزمة، التي تمحورت في الحوار كمدخل أساسي لحل أي خلافات قائمة، مع التأكيد على التشاركية في الحكم، بحيث تضم كل أطياف اللون السياسي في البلاد، والعزف مجددًا على وتر التحول الديمقراطي وإجراء انتخابات نزيهة.
وقبل هذا اللقاء بثلاثة أيام، أجرى نائب رئيس مجلس السيادة السوداني زيارة خاطفة لدولة الإمارات، التقى خلالها ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، حيث بحثا معًا سبل تعزيز العلاقات وتقويتها، وهي الزيارة التي أثارت الكثير من الجدل لتزامنها مع زيارة مبعوث سوداني إلى “إسرائيل”، وعقد سلسلة اجتماعات مع كبار المسؤولين في دولة الاحتلال.
وفي 22 يناير/كانون الثاني الماضي، توجه حميدتي إلى إثيوبيا في زيارة استمرت يومين كاملين، فتحت الباب أمام العديد من التكهنات بشأن دوافعها ودلالاتها، حيث قوبل الجنرال بترحيب كبير من رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، في ظل التوتر الحدودي بين البلدين والخلافات بشأن عدد من الملفات أبرزها ملف سد النهضة.
عودة تثير التساؤلات
قبل يوم واحد فقط من انقلاب البرهان الذي أطاح فيه برئيس مجلس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك ومؤسسات الدولة المدنية، وزج بعشرات المسؤولين وأعضاء الحكومة في السجون، خرج حميدتي ليؤكد دعم عملية الانتقال الديمقراطي، مستنكرًا أي تسريبات بشأن وجود رغبة لدى العسكر في الاستئثار بالحكم.
بعدها غاب الرجل عن المشهد، هذا الغياب الذي أرجعه البعض لخلافات بينه وبين البرهان بخصوص بعض الملفات، لا سيما المتعلقة بكيان قوات الدعم السريع ومسألة دمجها في صفوف الجيش، وفي ظل عدم قناعة تيار كبير بهذا المبرر ظل الابتعاد عن الساحة لغزًا من الصعب فك طلاسمه.
ربما يكون الظهور المفاجئ لحميدتي محاولةً لامتصاص الغضب المتصاعد ضد البرهان، عبر تجميل صورة المؤسسة العسكرية، من خلال أنشطة خيرية واستمالة للشارع عبر وعود الديمقراطية والمسار المدني، وهو ما قد يكسر موجة الاحتقان الشعبي ضد الجيش
العودة مرة أخرى للأضواء عبر المؤتمرات الشعبية واللقاءات الجماهيرية والعزف على وتر العمل الخيري ومغازلة الشارع بالحديث مرة أخرى عن الانتخابات والمسار الديمقراطي، بجانب التأكيد أكثر من مرة على اتساع دائرة المشاركة في الحكم لتشمل كل القوى السياسية، دفع إلى التساؤل عن النوايا الحقيقية للجنرال من وراء تلك التحركات.
كثيرون ينظرون إلى حميدتي على أنه البديل العسكري الجاهز للقفز على السلطة في ظل تصاعد حدة الانتقادات ضد رأس السلطة الانتقالية الحاليّة، وربما يكون وجه العملة المقابل للبرهان، لا سيما أن لديه أطماع وطموحات سياسية لا سقف لها، يسعى لتعزيزها عبر ثنائية المال والسلطة، الأولى من خلال السيطرة على ثروات البلاد وعلى رأسها الذهب وتهريبه للخارج، والثانية عبر شبكة قوية من الحلفاء في أبو ظبي والقاهرة وأديس أبابا.
حميدتي والبرهان.. صدام أم تبادل للأدوار؟
بعيدًا عن التصريحات الدافئة بشأن التنسيق والوئام بين حميدتي والبرهان، ردًا على ما أثير بشأن تصاعد الخلافات بينهما، فإن عشرات المؤشرات تؤكد تعقيد العلاقة بينهما رغم أن كلاهما ينتمي إلى المؤسسة العسكرية التي تقبض هيمنتها على السلطة الانتقالية في البلاد.
يستمد حميدتي قوته من ميليشا قوات الدعم السريع التي يقارع بها المؤسسة العسكرية الرسمية، فيما يستند البرهان على شرعية الجيش بصفته الكيان المسلح الوحيد الذي يجب أن يمثل الدولة وتنضوي تحت لوائه كل الميليشيات والحركات المسلحة الأخرى، وهذا أحد أبرز الخلافات بين الجنرالين.
ومنذ تعيين حميدتي نائبًا للبرهان داخل المجلس العسكري وتظهر بين الحين والآخر تسريبات تشير إلى وجود خلافات بينهما، هذا في الوقت الذي أكد فيه رئيس مجلس السيادة أكثر من مرة أن القوات المسلحة وقوات الدعم السريع على قلب رجل واحد.
التحديات المشتركة التي تواجه الجنرالين، والقلق من المساءلة القانونية بسبب جرائمهما في حق المتظاهرين، نحى الخلافات جانبًا في الفترة الأخيرة، من أجل التصدي لها، لكنها التنحية المؤقتة التي لا تخفي رغبة كل منهما في الانفراد بالسلطة، خاصة أن منسوب الأطماع السياسية لكليهما يتصاعد يومًا تلو الآخر.
ربما يكون الظهور المفاجئ لحميدتي محاولةً لامتصاص الغضب المتصاعد ضد البرهان، عبر تجميل صورة المؤسسة العسكرية، من خلال أنشطة خيرية واستمالة للشارع عبر وعود الديمقراطية والمسار المدني، وهو ما قد يكسر موجة الاحتقان الشعبي ضد الجيش، ما يعني أن هناك تبادلًا للأدوار بينهما، أحدهما يعزز مكاسب العسكر في السلطة والآخر يدغدغ مشاعر الغاضبين.
على كل حال فإن الأيام القادمة ستكون ساحةً واسعةً لتقييم عودة حميدتي للأضواء مرة أخرى، كما أنها ستفرز نوايا العسكر خلال المرحلة المقبلة، وما إذا كان هذا الظهور رغبة حميدتية في ارتقاء كرسي الحكم أم مجرد تبادل أدوار لكسب المزيد من الوقت وصولًا إلى لحظة الانتخابات، دون تصعيد داخلي، حينها يكون الطريق ممهدًا للجنرالات للفوز بها بعد إنهاك المدنيين عبر جولات تسويفية لا نهائية.