بعد تسمية وزير الداخلية الليبي السابق فتحي باشاغا رئيسًا لحكومة ليبية جديدة، بمباركة من اللواء المتقاعد خليفة حفتر، أصبحت ليبيا حاليًّا دولة برأسَين بعد 11 شهرًا من تولّي حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة مهامها، وقبل انتهاء مدتها القانونية المحدَّدة بشهر يونيو/ حزيران المقبل وفق اتفاق جنيف، ما يثير الشكوك في جدّية الحكومة الجديدة الموازية في إجراء انتخابات قريبة.
وبالتالي، لا تعدو العملية سوى مزيد من التمديد لبقاء حلفاء حفتر في السلطة بعد هزيمته عسكريًّا، وإفشاله المحاولة الانتخابية لـ 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لقطع الطريق أمام منافسه الدبيبة ونجل القذافي سيف الإسلام.
عاد جدل الشرعية، لكن الأخطر هو عودة الانقسام ليس بين الشرق والغرب هذه المرة، بل بين الغرب نفسه، رغم دخول رئيس الحكومة الموازية فتحي باشاغا العاصمة سلميًّا، بحكم ترتيبات أمنية وظروف إقليمية، خاصة أن المطلب الأهم شعبيًّا هو سرعة إنجاز الانتخابات، نظرًا إلى غياب الثقة في الحكومة الجديدة التي سمحت لنفسها بمزيد الاستئثار بالسلطة، دون تقديم خريطة طريق للانتخابات المقبلة، ولا أفق انتخابي واضح.
الخلاف سياسي
يبدو انشقاق الصف في المنطقة الغربية هذه المرة يصبغ الصراع طابعًا سياسيًّا، بما أن الاتفاق بين وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا ورئيس البرلمان عقيلة صالح ليبي ليبي، والأكثر من ذلك أن قيادات عسكرية كانت تقاتل ضد عسكرة الثورة، موالية اليوم للحكومة الجديدة، في انقسام مستجدّ للمنطقة الغربية، بداية من المدينة الواحدة، وبين حلفاء الأمس، من مجتمع مدني ونشطاء ومدونين وشخصيات عامة، وبين جماعة الإخوان نفسها، خاصة تيار فتحي باشاغا وحزب العدالة والبناء اللذين ساندا حفتر، وتيار المفتي الشيخ الغرياني الذي حافظَ على مناهضته للتحالف مع حفتر.
هذا فيما بقيَ تيار خالد المشري رئيسًا للمجلس الأعلى للدولة بين بينين، يحاول مسك العصا من المنتصف، يظهر عداءً لحفتر لكنه في الواقع موافق على الحكومة الجديدة، ما قد يثبت حقيقة الرؤية السياسية للتعاطي مع تغيُّرات الوضع الإقليمي، وإعادة التموقع من جديد للمحافظة على الكيان من الانزلاقات التي تشهدها الدول المجاورة، وهو ما انعكس على العلاقات داخل القيادات التي كانت بالأمس مقارعة لحفتر على الجبهات.
لا تستمعوا للإشاعات لا يوجد أي إنقسام.
الخلاف داخل مصراتة هو سياسي فقط ولن يطول كثيراً ، ولهذا لن تكون هناك حرب بين الأخوة ولن يتم رفع الأسلحة على بعض ولن تحدث فتنة بين أبناء المدينة الواحدة.حفظ الله #ليبيا حفظ الله مدينتنا الغالية #مصراتة
— عبدالمالك المدني (abdulmalek) (@madaaNe14) February 13, 2022
إذن، فقد عاد الانقسام مجددًا إلى الساحة، بل تعمّق أكثر بولادة شرخ جديد في المنطقة الغربية، بعد نجاح رئيس البرلمان عقيلة صالح في دقّ إسفين التصدُّع بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ووزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق فتحي باشاغا، وانتقال هذا الانشقاق إلى مدينة مصراتة، أحد أعمدة ثورة فبراير، وأكبر المدن التي تنحدر منها الكتائب المناهضة للانقلاب على المسار الديمقراطي.
في المقابل، يبدو التحالف بين فتحي باشاغا وحفتر، عبر ذراعه السياسي رئيس البرلمان عقيلة صالح، تحالفَ مصالح مرحلية بحكم التطورات الإقليمية، خاصة في تونس ومصر ونتاج المصالحة الخليجية والتقارب المصري التركي.
وبالتالي، يأتي تشكيل حكومة فتحي باشاغا الموازية لحكومة الوحدة الوطنية لخلق شرخ في العاصمة طرابلس التي وصلها باشاغا، وأكّد من مطار معيتيقة سعيه لتنظيم انتخابات خلال 14 شهرًا، في مسعى لإظهار تركيزه على الانتخابات، لإدراكه أهميتها بالنسبة إلى المعارضين له، ومبديًا عدم معاداته للدبيبة الذي لا يزال يحظى بدعم كثيرين له.
هذا الموعد الذي أطلقه باشاغا لا يثق فيه كثيرون مع انعدام الثقة في السياسيين، وبالتالي يطالبون بسرعة إجراء انتخابات جديدة يكون أقصى حد لموعدها يونيو/ حزيران المقبل، كما حددته المبعوثة الأممية ويليامز، من هنا جاءت إشارة الدبيبة واضحة ضد باشاغا في معرض حديثه عن رفضه تسليم السلطة إلا لحكومة منتخَبة، متّهمًا لأول مرة بالاسم “الإخوان والعسكر” لأجل التمديد للبقاء في السلطة.
ويعني دبيبة بالعسكر حلف عقيلة صالح وحفتر، بينما يقصد بـ”الإخوان” رئيس مجلس الدولة خالد المشري، واتفاقهما على خريطة طريق صوّت لها البرلمان بهدف تعديل الدستور، بينما رُفض ذلك في الانتخابات المقررة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فالدبيبة يرفض اختيار حكومة جديدة تسمح لباشاغا وعقيلة بالبقاء أكثر في السلطة وتعطيل الانتخابات.
كل التخوف يبقى قائما من لعب عقيلة وباشاغا منذ رسم خارطة طريقهما، على عامل الزمن، لعدم إجراء الانتخابات قبل تاريخ ال21 من يونيو/ حزيران، وهي فترة انتهاء مدة السلطة التنفيذية الانتقالية لحكومة الدبيبة المحددة بـ18 شهرا، وبالتالي نزع الشرعية عنه نهائيا
ورغم اتفاق خالد المشري مع عقيلة صالح حول التعديل الدستوري أولًا، ثم النظر في مصير حكومة الوحدة، فإن حالة الرفض تواصلت في طرابلس ضد حكومة باشاغا، ما جعل المشري يعدُ المعارضين له بالنظر في طعونهم المقدَّمة بخصوص حكومة باشاغا خلال جلسات مقبلة، مهاجمًا المنتقدين لمجلس الدولة وللتوافق مع مجلس النواب.
وعلى خلاف المشري المتلكِّئ نوعًا ما، استعجلَ عقيلة صالح في إعلان فتحي باشاغا رئيسًا للحكومة مباشرة بعد التصويت على تعديل الإعلان الدستوري.
هذا الإجراء رفضه كثير من الليبيين، من منطلق رفضهم لفترة انتقالية خامسة، حتى لو اضطر الدبيبة للتنازل فإن قسمًا كبيرًا لن يرضى بأي حكومة أخرى، ليس لأن الدبيبة قادر على تنظيم انتخابات في أقرب وقت، بل لكون حكومة الوحدة يجب أن تكون الحكومة التي تسلِّم الحكم لحكومة منتخَبة، وفق تفاهمات جنيف، وغير ذلك قد يعني الاقتتال إذا تواصل عمل الحكومتَين المتوازيتَين دون أي أفق انتخابي.
ويتزامن هذا مع تسرُّب وثيقة (لا يُعلم مدة صحتها) عززت المخاوف من هيمنة حفتر على الحقائب الوزارية، وتؤكّد مراجعة الاتفاقيات الدولية لحكومتَي السراج والدبيبة، وتسديد “المستحقات المالية للجيش” أي قوات حفتر، مع السماح لـ”القوات المسلحة” بتعيين وزير دفاع أي منح الاختصاص إلى قوات حفتر، والأخطر على المنطقة الغربية هو “ملاحقة كل المتورطين في أعمال إرهابية، وعزل عسكريين وأمنيين متورطين ضد الجيش”.
هذا مع كون الأمل يبقى قائمًا في أن تثبت حكومة باشاغا عدم صدقية كل التكهُّنات بشأن عودة القتال، وإجراء انتخابات حرة نزيهة في أقرب الآجال، أو التواصل مع حكومة الدبيبة للتوافق على موعد مُرضٍ للجميع.
لكن التخوف يبقى موجودًا من لعب عقيلة وباشاغا، منذ رسم خارطة طريقهما، على عامل الزمن، لعدم إجراء الانتخابات قبل تاريخ 21 يونيو/ حزيران، وهي فترة انتهاء مدة السلطة التنفيذية الانتقالية لحكومة الدبيبة المحددة بـ 18 شهرًا، وبالتالي نزع الشرعية عنه نهائيًّا.
التأثير العسكري
بات الانقسام واضحًا، وتخوّفَ كثيرون من إمكانية نشوب قتال مدمِّر قد يندلع بين الكتائب الغربية، ما بين مناصري الدبيبة وأنصار باشاغا، حيث إن الشخصيتَين من مدينة مصراتة، ومع أهمية كتائب المدينة وثقلها في الغرب الليبي، وفي ردع خليفة حفتر ومقاتليه في حربه الأخيرة على العاصمة وكل المنطقة الغربية.
لكن مهما يكن الأمر، لا يمكن للخلاف السياسي ألّا ينعكس على الميدان ولو بمناوشات بسيطة هنا وهناك، في أي لحظة، خاصة أن ليبيا تجربة متفردة في الثورات، حيث تختلف الولاءات السياسية للتشكيلات المسلحة، ما يصعّب انضباطها لقيادة واحدة.
وعليه، يبدو الخيط رفيعًا بين السياسي والعسكري، لكن تبدو تداعيات الانقسام الحالي بين القيادات العسكرية، بما فيها قوات “بركان الغضب” تلك التي واجهت عدوان حفتر عام 2019، لن تنزلق إلى اقتتال داخلي كبير، طالما أن الخلاف هذه المرة يأخذ أبعادًا مختلفة نوعًا ما، منها يُعتبر من إكراهات المرحلة.
المخابرات المصرية اصدرت اوامر للمرتزقة الاعلاميين بتسويق الخلاف مع الارهابي مرتكب المجازر حفتر و اعوانه بأنه (خلاف سياسي).
حفتر الذي قتل الالاف من الليبيين بما فيهم اطفال و نساء هو مجرم حرب فار من العدالة ولا علاقة له بالسياسة….و على فريق عمله في مصراتة الكف عن الدفاع عنه.— Ahmed Sewehli (@LibyanIntegrity) February 13, 2022
من بين تلك الإكراهات قبول حكومة الوفاق الوطني السابقة بعودة العلاقات مع مصر، وقبول الأخيرة بتطبيع علاقتها مع طرابلس طمعًا بالظفر بعقود الإعمار وأكثر من مليوني يد عاملة، ما قد يبرر اتهام البعض للمخابرات المصرية بهندسة تجربة باشاغا الجديدة، وهذا أمر مقبول إلى حدٍّ ما إذا ما لوحظ أن مصر هي أول المهنّئين بتشكيل حكومة باشاغا، ثم انضمت إليها جامعة الدول العربية في القاهرة.
هذا في وقت لا تزال معظم الدول العربية الأخرى تلتزم الصمت، وكذلك الدول الغربية، دون اعتبار الولايات المتحدة صاحبة اليد الطولى التي لم تعطِ انطباعًا واضحًا إلّا من خلال المبعوثة الأممية ستيفاني ويليامز، الممثل الأبرز للموقف الأمريكي، بحيث اكتفت بالتشديد على إجراء الانتخابات في أقرب وقت، لذلك ظلّت أمريكا تتصرّف بحذر مع باشاغا.
ثم كان ردّ الخارجية الأمريكية أول ردٍّ دولي، فيما تخندقت روسيا، الداعم القوي لسيف الإسلام القذافي، خلف حفتر بعد خسارتها الرهان على نجل القذافي، عقب سقوط ورقته في الانتخابات التي كانت مقررة في 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حيث تخلّت عنه من بوابة عقيلة وعبر تحريك الدمى (السيسي وابن زايد ومخابراتهما في ليبيا)، لذلك صمتت الولايات المتحدة لعدم رغبتها في دعم باشاغا، خشية من وصول حفتر للعاصمة عبر واجهته الجديدة باشاغا، لضمان عدم منافسة الروس هناك.
ومن هنا لا يمكن إنكار دور مصر التي سبق لها أن استقبلت فتحي باشاغا، ثم أعادت فتح سفارتها في طرابلس، وزار رئيس مخابراتها العاصمة الليبية بعد هزيمة حفتر، كما زار باشاغا مصر عام 2020، فلا غرابة أن تخترق المخابرات المصرية المنطقة الغربية وتلعب على عامل التقسيم والتأزيم.
هذا العامل تفطّنت إليه القيادات العسكرية، من ذلك ما عبّر عنه آمر قوة مكافحة الإرهاب مختار الجحاوي، عن وقوفه بوجه كل من يحاول التمهيد لدخول حفتر لطرابلس، مع التشديد على عدم توتير الأجواء في العاصمة وغيرها.
مع ذلك بدأت الأرتال العسكرية بأخذ الحيطة والحذر، بتكوين غرفة عمليات من كتائب مصراتة والزاوية مؤلفة من 400 آلية، والاتجاه نحو طرابلس لحماية المؤسسات السيادية، وضمان عدم تسليمها للحكومة الجديدة، حتى أن عقيلة صالح دعا إلى تركيز حكومة باشاغا في مدينة سرت، خط التماسّ بين القوات الشرقية والغربية.
كذلك يمكن الإشارة إلى فشل المراهنة على نزاع داخلي بمصراتة، عبر مؤامرة بثّ الفرقة بعد ظهور أصوات محرِّضة على الفوضى لاحتلال الفراغات، وتنفيذ انقلاب ناعم وسلس، لكن حكمة القيادات العسكرية في مصراتة فوّتت الفرصة على المتربّصين.
المجتمع المدني.. الانتخابات أولًا
يبدو أن المنتصر الوحيد في ليبيا هو الطرف الذي سيضمن إجراء انتخابات قريبة وعلى قاعدة دستورية دائمة، لذلك خرج الحراك المدني وأظهر رفضه منذ البداية لأي سلطة، طالما أن حكومة الدبيبة يجب أن تكون آخر سلطة قبل السلطة المنتخَبة، لذا نجح رئيس حكومة الوحدة، بالمقارنة مع غيره، في نيل ثقة قطاع واسع من الشارع، بتمسُّكه بالاستحقاق الانتخابي في أقرب وقت، بعدما تآكلت كل الشرعيات الأخرى مع التجديد لها مرات عديدة.
وقد ناور الدبيبة مباشرة بعد دخول باشاغا للعاصمة بصفته الجديدة، بحديثه عن إجراء انتخابات قريبة، وعزمه بدء مشاورات مع عدة أطراف لتحديد موعدها، عبر وضع مخطط بعنوان “عودة الأمانة للشعب” سيُعلن عنه بمناسبة ذكرى ثورة 17 فبراير/ شباط.
كل ما يفعله القادة السياسيون في ليبيا من مساعٍ هي بغرض إطالة أمد أزمة الشرعية، وبات يدرك القطاع الأكبر من الناس أن المعركة ليست بين باشاغا والدبيبة أو هي أزمة شرعيات اليوم، بل هي أزمة إجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن، لتجديد الأجسام القديمة وعلى رأسها مجلس النواب، شرط أن يتمَّ ذلك على أُسُس دستورية صحيحة غير مفصّلة على قياس أحد، وبالتالي ضمان عدم التمديد والهروب من أولوية إجراء الانتخابات.
وعلى هذا الأساس ظهر حراك ميدان الشهداء، الذي دعا إلى عدم الصمت على تأجيل الانتخابات، والتظاهر للمطالبة بمجلس نواب جديد، وقد ظهرت قيادات اجتماعية ومدنية في مصراتة والزاوية وزليتن وتاجوراء وسوق الجمعة، ومكونات أخرى في مدن الساحل الغربي، تطالب في بياناتها بسرعة إجراء الاستحقاق الانتخابي، وتؤكّد على دعمها لحكومة الوحدة كضمانة لعدم التمديد السياسي لكل الأجسام السياسية القديمة، خاصة أن الدبيبة قد تعهّد بتسليمه لحكومة منتخَبة، على خلاف حكومة باشاغا التي قد تمدِّد ولايتها لسنوات قادمة.
التيار المسيطر على #مجلس_الدولة
يعلن دعمه لمهزلة #عقيلة_صالح
والتمديد لنفس حتى عام 2024‼️— بشير السويحلي (@BSewehli) February 12, 2022
في المقابل، لا يعني ضغط المجتمع المدني لتقريب إجراء الانتخابات أن موعدها سيكون بعد شهر أو شهرَين، بل المقصود من القرب هو أن حكومة الدبيبة آخر حكومة قبل الانتخابات، وعلى هذا الأساس تمَّ رفض أي حكومة جديدة قد تمدِّد لنفسها لسنوات، وللسبب نفسه وافق حفتر على تحالف حكومي مع باشاغا (دون خارطة طريق واضحة)، خشية تنظيم انتخابات قريبة غير مضمونة النتائج لصالحه.
وفي كل الأحوال، إن اطمئنان المجتمع المدني لحكومة الدبيبة هو لكونها حكومة مدنية مؤقتة ومسقّفة زمنيًّا بشهر يونيو/ حزيران المقبل، ما يعني أن قيام حكومة موازية قبل الموعد هو تمسُّك بالبقاء في السلطة، ومحاولة التفافية جديدة على إرداة الشعب، علّها تكون الفرصة الأخيرة.