تحتلُّ تركيا المرتبة الأولى في قائمة الجاليات الأكبر تواجدًا في القارة الأوروبية، إذ يتجاوز عددهم أكثر من 6 ملايين مواطن من إجمالي 15 مليون تركي مهاجر، ما جعلهم يشكّلون قوة لا يستهان بها، خاصة في ظلّ ما يتمتّعون به من حضور لافت للنظر على كافة المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وتتصاعد نسبة الأتراك المهاجرين إلى أوروبا سنويًّا بصورة لافتة للنظر، بحسب هيئة الإحصاء التركية (TÜİK) التي أشارت إلى زيادة معدلات الهجرة بنسبة 20% منذ عام 2018، ما أثارَ حفيظة التيار اليميني المتطرف في أوروبا الذي أعربَ عن تخوفاته أكثر من مرة إزاء هذا التنامي، الذي يعيد إلى ذاكرته سيطرة الإمبراطورية العثمانية على مساحات كبيرة من أوروبا خلال القرنَين الـ 15 والـ 16.
وبعيدًا عن المسائل الجدلية والخلافية بين تيارات السياسة في أوروبا، حول تأثير وتأثُّر الجالية التركية والدور الذي تلعبه، إلا أنها تقدِّم نموذجًا يحتذى به في التعبير عن هوية بلادهم أمام المجتمع الغربي بصورة أثارت إعجاب الكثيرين، وكانت ذا تأثير كبير في تسويق الصورة الإيجابية عن بلادهم، بالفعل والقول.
استطاع الأتراك -بقصد أو دون قصد- القيام بدور دبلوماسي لافت خلال تواجدهم في معظم عواصم أوروبا، قدّموا من خلاله ترجمة عملية لنهضة بلادهم وحضارتها الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، صحّحوا من خلاله التشويه المتعمَّد لصورتهم، فكانوا مواطنين بدرجة سفراء، رغم تضييق الخناق عليهم واستهدافهم بين الحين والآخر من التيارات الشعبوية من جانب، وخصوم أنقرة السياسيين من جانب آخر، وقد يكون السبب الأبرز في وضوح أثرهم أوروبيًا براعتهم في استغلال أدوات القوى الناعمة التي تنوعت بين الدراما والسينما والمنح الدراسية والسياحة والأيادي البيضاء في الأعمال الخيرية ونشر الإسلام.
خارطة الجاليات التركية في أوروبا
القراءة الديموغرافية لخارطة التوزيع تشير إلى تأصُّل الأتراك في جذور الدول الأوروبية، بصورة تزيحهم من دائرة اللاجئين والمهاجرين إلى المواطنين، إذ إن نحو 27% من الأتراك الأوروبيين لهم وجود هناك منذ أكثر من 30 عامًا، بعضهم وصل اليوم إلى الجيل الرابع.
يشكّل الأتراك قرابة 8% من إجمالي الجاليات الأجنبية المتواجدة في أوروبا، ورغم انتشارهم في أكثر من 26 دولة أوروبية، لكنهم يتمركزون بشكل أكبر في 5 دول تشكّل القوة العظمى للجالية التركية في القارة العجوز، على رأسها ألمانيا التي يتجاوز عدد الأتراك بها 3.5 ملايين مواطن، يشكّلون أكثر من 50% من عدد الأتراك في أوروبا.
ثم تأتي فرنسا في المرتبة الثانية بأكثر من مليون تركي، فيما تشير مصادر أخرى إلى أن العدد يتجاوز هذا الرقم بكثير، وسط توقُّعات بزيادة تلك النسبة مستقبلًا في ضوء معدل الخصوبة العالي للأتراك (5.2) مقارنة بالفرنسيين (3.7)، تليها هولندا بأكثر من 500 ألف ثم بلجيكا بـ 280 ألف تركي وأخيرًا النمسا بقرابة 250 ألف تركي.
وتمثّل ألمانيا الحاضنة الأكبر للأتراك في أوروبا، إذ تحتضنُ وحدها نصف العدد الإجمالي، وتعود تلك العلاقة القوية بين الأتراك والدولة الأوروبية إلى ستينيات القرن الماضي، حين وقّع البلدان اتفاقية القوى العاملة عام 1961، حينها فتحت ألمانيا أبوابها للعمالة الأجنبية فيما عُرف وقتها باسم برنامج “العمّال الضيوف”، لبناء ما دمّرته الحرب العالمية الثانية.
أعدت رئاسة أتراك المهجر والمجتمعات ذوي القربى (YTB) فيلمًا تسيجيليًا قصيرًا بمناسبة مرور 60 عامًا على اتفاقية القوى العاملة الموقعة مع ألمانيا، حيث تناول الدور الذي لعبه الأتراك على مدار 6 عقود كاملة في إثراء المجتمع الألماني
ويشكّل الأتراك في ألمانيا قوة اقتصادية كبيرة، فبجانب الخارطة الاستثمارية الممتدّة لهم في جميع ربوع البلاد، لهم دور لافت للنظر في دعم اقتصاد تركيا، ففي عام 2016، وهو العام الذي شهد محاولة انقلاب عسكري فاشلة ضد نظام الرئيس رجب طيب أردوغان، وتهاوت على إثرها الليرة التركية، حوّل الأتراك بألمانيا قرابة 800 مليون يورو إلى بلادهم.
هذا الرقم عكسَ حجم الترابط الكبير بين أتراك المهجر ووطنهم الأم رغم سنوات الغياب الطويلة، والاصطياد في الماء العكر الذي يلجأ إليه الشعبويون في ألمانيا، ولعلّ تصويت 63% من حجم من شاركوا في اقتراع التعديلات الدستورية التركية في أبريل/ نيسان 2017 (700 ألف شاركوا في الاستفتاء) لصالح التعديلات التي أقرّها الرئيس التركي، كانت خير دليل على وحدة الشعب التركي في الداخل والخارج، وهو ما كان له أثره في توتُّر العلاقة بين برلين وأنقرة لاحقًا.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2021، أعدّت رئاسة أتراك المهجر والمجتمعات ذوي القربى (YTB) فيلمًا تسجيليًّا قصيرًا، بمناسبة مرور 60 عامًا على اتفاقية القوى العاملة الموقّعة مع ألمانيا، تناول الدور الذي لعبه الأتراك على مدار 6 عقود كاملة في إثراء المجتمع الألماني على كافة المسارات، من خلال قصص وحكايات وتجارب لبعض المقيمين هناك.
تعدّ تركيا واحدة من أكثر دول العالم التي تمتلكُ قوى ناعمة مؤثرة، وذلك لما تتمتّع به من قدرات وإمكانات، وما تتبنّاه من سياسات ورؤى كان لها صداها في تجميل صورة الدولة التركية، وتحويلها إلى نموذج يحاول الآخرون الاحتذاء به قدر الإمكان، وذلك رغم التحديات التي تواجهها ومساعي تشويه تلك القوى.
نجاح اقتصادي مبهر
على مدار 6 عقود كاملة منذ الرعيل الأول للأتراك في أوروبا، استطاعوا الانخراط في المجتمع الأوروبي عبر أدوات الاقتصاد والأعمال، فباتوا يمتلكون خارطة متّسعة الأطراف من الأصول العقارية والاستثمارية، بنوا من خلالها أرضية متجذِّرة لضمان بقائهم في مواجهة أي استهداف من أي نوع.
رجل الأعمال الهولندي (من أصول مصرية) أحمد عثمان، يقول إنه منذ قدومه إلى أمستردام قبل 10 سنوات تقريبًا، كانت الجالية التركية هي الأكثر نفوذًا على المستوى الاقتصادي، منوّهًا أنهم يمتلكون اليوم عشرات المشاريع في العاصمة الهولندية وبعض المدن في بلجيكا وفرنسا، هذا بخلاف ألمانيا التي يحتلون فيها مكانة مرموقة اقتصاديًّا.
وأوضح عثمان في حديثه لـ”نون بوست” أن الأتراك كانوا الأسرع في التحول من العمّال خلال ستينيات القرن الماضي إلى أصحاب مشاريع كبرى بداية القرن الحالي، منوّهًا أن معظم المطاعم وسلاسل المتاجر الشهيرة (سوبر ماركت) مملوكة لأتراك، ونسبة منها مملوكة لمغاربة.
حضور سياسي مؤثِّر
تتميز الجالية التركية في أوروبا بحضور سياسي كبير، منحها قوة زادت من ثقلها داخليًّا، حتى باتت واحدة من كبريات الكتل التصويتية التي يُعمل لها ألف حساب من قبل القوى السياسية في الدول الأوروبية خلال الماراثونات الانتخابية بشتى أنواعها، وهو ما تترجمه لغة الأرقام.
ففي الانتخابات العامة الأخيرة في ألمانيا عام 2021، فازَ 18 مرشحًا من أصول تركية بمقاعد في البرلمان الاتحادي (بوندستاغ)، واللافت هنا أن الفائزين من خيوط سياسية متباينة، ما يعكس حجم وقوة الثراء والاندماج (9 عن الحزب الديمقراطي الاشتراكي، 5 عن حزب الخضر، 3 عن حزب اليسار، وعضو عن الاتحاد الديمقراطي المسيحي).
يذكر أنه في تلك الانتخابات الأخيرة قد ترشّح أكثر من 100 شخص من أصول تركية، فيما ارتفع عدد الفائزين بمقاعد برلمانية من 14 في الدورة البرلمانية السابقة إلى 18 فائزًا في الدورة الحالية، ما يشير بشكل واضح إلى تصاعُد الحضور السياسي والنفوذ المجتمعي، ما يبرهن على شعبية الأتراك سياسيًّا وقدرتهم على الحصول على ثقة الناخب الألماني.
وفي السياق ذاته، تزخر الأحزاب السياسية الأوروبية، لا سيما في ألمانيا وهولندا والنمسا وبلجيكا، بعشرات الأعضاء المؤثرين من أصول تركية، بعضهم خاض الانتخابات لدورات متتالية ويتمتّع بمصداقية وحضور فعّال مقارنة بأبناء أوروبا الأصليين، وهي الظاهرة التي فرضت نفسها على موائد مراكز الفكر والدراسات في برلين وباريس وأمستردام.
لا يمكن قراءة هذا التأثير السياسي الخارجي بمعزل عن الحضور الفعّال على المستوى الوطني الداخلي، فالبُعد عن الوطن لا يمكن أن يكون مبررًا للغياب عن الدور القومي عبر المشاركة في المحافل الدستورية لتركيا، ولعلّ هذا كان السبب في اندلاع أزمة دبلوماسية بين أنقرة وبعض العواصم الأوروبية، التي منعت تنظيم لقاءات جماهيرية بين مسؤولين أتراك والجالية في تلك البلدان، أبرزها ألمانيا وهولندا.
وكانت الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو/ حزيران 2015 أبرز الشواهد على قوة الحضور السياسي لأبناء الجالية التركية، فمن بين 2.9 مليون تركي لهم حقّ التصويت طبقًا للسجلّات، شارك 40% منهم في عملية الاستفتاء، وكالعادة كان لألمانيا الريادة في ذلك، فمن بين 1.43 مليون لهم صوت انتخابي شارك 575564 تركيًّا بنسبة 40.24%، تلتها فرنسا بـ 142950 صوتًا بنسبة 43.80%، ثم هولندا بـ 114555 صوتًا بنسبة 45.3%.
التحديات والعراقيل
لا شك أن الطريق أمام الأتراك في أوروبا لم يكن مفروشًا بالورود، لا سيما خلال العقد الأخير الذي شهد تناميًا كبيرًا في الحضور والتأثير، ومع تصاعد تيار اليمين المتطرف منذ عام 2015 تحولت تلك الجالية إلى هدف رئيسي في مرمى الشعبوية، تارة بزعم القلق من النفوذ السياسي وتداعياته، حيث شبح الخلافة العثمانية على عقلية البعض هناك، وتارة أخرى بزعم التأثير الأيديولوجي ونشر الإسلام، وثالثة بزعم التأثير المجتمعي والتغيُّر المحتمَل في التركيبة الديموغرافية لسكّان القارة العجوز.
قال الرئيس التركي في ديسمبر/ كانون الثاني 2021، خلال حديث وجّهه للمستشارة الألمانية -آنذاك- أنجيلا ميركل، إن الأتراك يعانون من العنصرية ومعاداة الإسلام داخل القارة، لافتًا أن كراهية الأجانب والتمييز على رأس المشاكل التي يعاني منها أبناء وطنه في القارة الأوروبية، وهو ما تترجمه أرقام استهداف المسلمين بصفة عامة في أوروبا خلال السنوات الماضية.
وبجانب العنصرية الأوروبية ضد الأتراك، هناك تحديات أخرى تواجه أبناء الجالية، منها عدم القدرة على الانصهار المجتمعي في كثير من البلدان، ويعزو البعض تلك الظاهرة إلى سياسة الحكومات الإقصائية والاستهداف الفكري والثقافي أحيانًا، ويرتبط هذا المؤشر بالتمييز في كثير من ملامحه.
لتحديات رغم ما تمثله من قوة وتأثير إلا أنها غير قادرة على وقف الدور الدبلوماسي القوي للجالية التركية في الترويج لصورة بلادها خارجيًا
في إحدى دراساته الديموغرافية التي تناولت أسباب عدم اندماج الأتراك في المجتمع الألماني، ألقى “معهد برلين للسكان والتنمية” اللوم على المهاجرين العرب والأتراك، بزعم أن زواجهم من جاليتهم نفسها وعدم إجادتهم للغات الأجنبية بطلاقة كانا وراء عدم الانصهار؛ لكن بحسب مراقبين آخرين، فإن تعاقب الحكومات في ألمانيا أهملَ سياسة دمج المهاجرين وأجّلَ مواجهة التمييز العنصري ضدهم، وهو ما كان له تأثيره الخطير في هذا المسار.
ومن التحديات التي تواجه الجالية التركية في أوروبا ما تعاينه من انقسام بعض الشيء إزاء توجهات ومواقف سياسية بعينها، وهو التحدي الذي عززته مساعي المعارضة التركية ومعها خصوم أنقرة السياسيين، في تفتيت وحدة الجالية وإحداث خلخلة بين مكوناتها.
يرتبط هذا التحدي بشكل كبير بانعدام التنظيم الاجتماعي والسياسي للجالية، فالتحركات في معظمها تحركات فردية، اللهمّ إلا بعض الكيانات الاجتماعية والسياسية التركية الأخرى التي تنشط في أوروبا، لكن ما تواجهه من ضغوط وتهديدات يجهض جهودها في وحدة الصف وتنظيم عمل الجالية. مع ذلك، فإن تلك التحديات رغم ما تمثّله من قوة وتأثير، إلا أنها غير قادرة على إيقاف الدور الدبلوماسي القوي للجالية التركية في الترويج لصورة بلادها خارجيًّا، وقدرتها على التحول سريعًا من مواطني درجة ثالثة أو رابعة، كما هو الحال مع بعض الجاليات الأخرى، إلى أحد مكونات المشهد وضلع أساسي لا يمكن تجاهله.