مثلما أضاءت السلطات الإماراتية برج خليفة بالعلم التركي، وكتبت عبارة “هوش غيلدينيز” التي تعني “مرحبًا بكم” بالتركية، ترحيبًا بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الإمارات التي تستغرق يومَين، أضاء البلدان صفحة جديدة في العلاقات بينهما، وطويا صفحة الخلافات التي استمرّت أكثر من 10 سنوات، ليطلقا معًا شراكة إقليمية لا تنعكس في تزايد حجم التعاون الاقتصادي والدفاعي بين البلدَين فحسب، بل في مواجهة العديد من الملفات والتحديات بالمنطقة.
تأتي زيارة الرئيس التركي لأبوظبي تحقيقًا لأهداف أنقرة في تسوية خلافاتها مع مختلف جيرانها، وجذب الاستثمارات الخليجية والسياحة العربية إلى أراضيها، وفتح الأسواق أمام منتجاتها المختلفة، في محاولة لإنعاش الاقتصاد الذي يعاني من تضاعف معدلات التضخُّم وتراجع العملة المحلية، قبيل موعد الانتخابات التركية العام المقبل.
في المقابل، لدى الإمارات هي الأخرى دوافعها في التقارب مجددًا مع تركيا، بعد طيّ صفحة ثورات الربيع العربي، وتراجُع قوى الإسلام السياسي في المنطقة، والفتور في العلاقات الأمريكية الخليجية، حيث تطمع أبوظبي في الحصول على العديد من الامتيازات الاقتصادية في تركيا وتوسيع دائرة استثماراتها هناك، وإنشاء شراكة مع قطاع الصناعات الدفاعية التركية.
غير أن تلك الشراكة الإقليمية الجديدة، يبدو أنها تصطدم مع السياسات والمصالح الإيرانية في المنطقة، وفي نظر عدد من المحللين طهران غاضبة من المقاربة التركية الإماراتية في العديد من الملفات والقضايا، وتبدَّى هذا الغضب في قطع إمدادات الغاز الإيراني عن تركيا، والهجوم من قبل عناصر جماعة مقرَّبة من طهران على القاعدة العسكرية التركية بالعراق، تواكبًا مع الهجمات الصاروخية على أبوظبي.
مسار المصالحة
سريعًا، وخلال الشهور القليلة الماضية، شهدت العلاقات التركية الإماراتية تطورات كبيرة وخطوات واسعة نحو التقارب وبناء شراكة جديدة بين البلدَين، فعقب زيارة مستشار الأمن الوطني بدولة الإمارات أنقرة ولقائه الرئيس التركي في أغسطس/ آب الماضي، تمَّ الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لبحث ملفات الخلاف العالقة بينهما.
وبعد الزيارة بأسبوعَين، أُعلن عن اتصال هاتفي بين أردوغان وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، أعاد التأكيد على توجُّهات المصالحة، ودعا خلاله أردوغان محمد بن زايد لزيارة تركيا، وهو ما تمَّ في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني، حين بحثا في أنقرة “سُبل فتح آفاق جديدة للتعاون والعمل المشترك بين الإمارات وتركيا في جميع المجالات التي تخدم مصالحهما المتبادلة”.
واعتبر الرئيس التركي أن الزيارة “تمهّد لمرحلة جديدة مزدهرة وواعدة من العلاقات والتعاون اللذين يصبّان في مصلحة البلدَين وشعبيهما والمنطقة”، فيما أعلنت الإمارات عن تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات والاقتصاد التركي وتوثيق التعاون بين البلدَين. وتُوِّج التقارب بين البلدَين بزيارة أردوغان الحالية للإمارات، والتي وجدت حفاوة بالغة وترحيبًا واسعًا من قبل سلطات أبوظبي، وتشهد توقيع عدد من الاتفاقيات التي تؤسِّس لشراكة إقليمية وتعاون كبير بين البلدَين.
أوجُه تعميق العلاقات
تأتي تركيا في المرتبة الـ 11 بين أكبر الشركاء التجاريين للإمارات، فيما تمثّل الإمارات الشريك التجاري الـ 12 لتركيا عالميًّا، والشريك التجاري الأكبر لتركيا على مستوى منطقة الخليج والشرق والاوسط.
وبلغت قيمة التجارة بين البلدَين في النصف الأول من عام 2021 أكثر من 26.4 مليار درهم، بقفزة نمو بلغت 100% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2020، وتحتلُّ الإمارات المرتبة الأولى بين دول الخليج التي تستثمر داخل تركيا بحجم 4.3 مليارات دولار.
وهناك 400 شركة في تركيا مؤسَّسة برأسمال إماراتي، ويعتبر قطاع العقارات على رأس قائمة الاستثمارات الإماراتية في هذا البلد، إلى جانب استثمارات كبيرة في قطاع المصارف وتشغيل الموانئ والقطاع السياحي.
وبلغ إجمالي تدفقات الاستثمار الإماراتي إلى تركيا نحو 18.4 مليار درهم في نهاية عام 2020، فيما بلغ رصيد الاستثمارات التركية في الإمارات حتى بداية عام 2020 أكثر من 1.3 مليار درهم، وتركّز الاستثمارات التركية على قطاعات البناء والتشييد والعقارات والقطاع المالي والتأمين والصناعة وتكنولوجيا المعلومات.
وتعتزم تركيا والإمارات، خلال زيارة أردوغان الجارية لأبوظبي، توقيع 12 اتفاقية تشمل مجالات الاستثمار والدفاع والنقل والصحة والزراعة، وذلك ضمن زيارة رسمية يقوم بها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى أبوظبي تستمر يومَين.
تضم الاتفاقيات اتفاق مجموعة أبو ظبي مع شركة كاليون التركية التي تعمل في مجال الطاقة، والبنية التحتية، الى جانب استثمارات إماراتية في مجال الموانئ، وسلاسل الإمداد
وتشمل الاتفاقيات بين الجانبَين مذكرة تفاهم حول التعاون في مجال الاستثمار، وبروتوكول تعاون في مجالَي الإعلام والاتصال، وخطاب نوايا بشأن بدء اجتماعات التعاون في الصناعات الدفاعية. وكذلك توقيع مذكرة تفاهم بشأن التعاون في مجالات النقل البرّي والبحري، وبيان مشترك حول بدء المفاوضات بخصوص اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة.
ومن ضمن الاتفاقيات، مذكرة تفاهم بشأن التعاون في مجال الزراعة، وأخرى حول التعاون في الصناعة والتقنيات المتقدمة، وتتضمّن كذلك مذكرات تفاهم بشأن التعاون في مجال الصحة والثقافة والشباب وإدارة الكوارث والطوارئ والأرصاد الجوية.
وسبق زيارة أردوغان توقيع البنك المركزي التركي على اتفاق لتبادل العملات مع مصرف الإمارات المركزي بحجم اسمي يبلغ 64 مليار ليرة (4.7 مليارات دولار) و18 مليار درهم، ويهدف الاتفاق إلى تعزيز التجارة الثنائية وأشكال التعاون المالي بين البلدَين، وسيستمر لمدة 3 سنوات مع إمكانية تمديده باتفاق الطرفَين.
وكانت زيارة ولي عهد أبوظبي لأنقرة قد شهدت أيضًا توقيع العديد من الاتفاقيات الاستراتيجية ومذكرات التفاهم بين البلدَين لتعزيز التعاون الثنائي، منها 10 اتفاقيات ومذكرات تعاون أمنية واقتصادية وتكنولوجية، وسوف تستثمر الإمارات في شركات التكنولوجيا التركية، وفي صندوق التكنولوجيا الموجهة في تركيا.
وتضمُّ الاتفاقيات اتفاق مجموعة أبوظبي مع شركة كاليون التركية التي تعمل في مجال الطاقة والبنية التحتية، إلى جانب استثمارات إماراتية في مجال الموانئ وسلاسل الإمداد، كما تستثمر الإمارات في شركة تجارة التجزئة على الإنترنت “غيتير”، بالإضافة إلى منصة البيع على الإنترنت “ترينديول”.
دوافع التقارب
لا شك أن أنقرة تريد من الإمارات دعمًا اقتصاديًّا، وتريد أيضًا أن توقف أبوظبي دعمها للمسلحين الأكراد في سوريا، وأن تساند تركيا في مطالبها بالحصول على حصة من كعكة الغاز ومصادر الطاقة في شرق المتوسط، وأن تتوصّلا إلى تفاهمات حول ملفات شائكة في ليبيا واليمن، كما يمكن أن تسهم الإمارات في إنجاح جهود أنقرة لتحسين علاقاتها مع القاهرة والرياض.
ولعلّ أصدق تعبير عن أهداف أنقرة من تعزيز العلاقات مع الإمارات، هو كلمات الرئيس أرودغان الذي أكّد في مقال له بموقع “غلف نيوز”، أنه حان لمبادرات السلام والتعاون الإقليمي، مشدِّدًا على استعداد بلاده لتعزيز التعاون مع كافة الدول لحلّ المشاكل الإقليمية.
وأوضح الرئيس التركي أن للإمارات أهمية اعتبارها أكبر شريك تجاري لتركيا بين دول مجلس التعاون، وأن هدف زيارته تعزيز التعاون مع الإمارات في مجال الطاقة والصحة والزراعة والبنية التحتية وتغيُّر المناخ والمياه والأمن الغذائي، كما شدّد على أن أمن واستقرار الإمارات وجميع الأشقاء الخليجيين لا ينفصل عن أمن واستقرار تركيا.
يؤكّد بعض المحلِّلين أن الإمارات تستهدف من تقاربها مع تركيا الحصول على بعض الامتيازات الاقتصادية، في ضوء الامتيازات التي حظيت بها قطر خلال السنوات الأخيرة في تركيا. فالدوحة استحوذت على 10% من أسهم بورصة إسطنبول، ومعها ميناء أنطاليا وأكبر مراكز التسوق في إسطنبول، ومشاريع تطوير خليج القرن الذهبي في الجانب الأوروبي من المدينة السياحية.
وتطمع أبوظبي هي الأخرى في شراء حصص في مشاريع تركية وإنشاء شراكات استراتيجية، لا سيما في مشروع قناة إسطنبول الجديدة، والذي سيربط بين بحر مرمرة والبحر الأسود، كما ترغب الإمارات بشراء بنوك وحصص في البورصة التركية.
ومن المرجّح أن يوافق الرئيس التركي على منح محمد بن زايد امتيازات اقتصادية كبيرة في تركيا، طالما أن ذلك سيصبُّ في النهاية في صالح دعم الاقتصاد التركي والعملة التركية المحلية المتراجعة.
يضاف إلى ذلك، تستهدف الإمارات تأسيس شراكات قوية تدعم قطاع الصناعات الدفاعية التركية، الذي شهد نموًّا كبيرًا في السنوات الأخيرة، تحديدًا في قطاع تصنيع الطائرات المسيّرة، وأبرزت مصادر إعلامية تركية رغبة أبوظبي في الحصول على صفقة لشراء طائرات تركية من طراز أكنجي المسيّرة.
كما تسعى أبوظبي من خلال تقاربها مع أنقرة إلى بناء شراكة أقليمية يمكن من خلالها مواجهة فتور العلاقات الخليجية الأمريكية في ظلّ إدارة بايدن، وتوجُّهات واشنطن الواضحة للانسحاب من المنطقة، بجانب التحديات الأمنية الكبيرة التي تواجهها دول الخليج في ظلّ ما تراه تلك الدول “تهديدًا إيرانيًّا متصاعدًا”، ورفض شركات السلاح الأوروبية إبرام صفقات جديدة مع أبوظبي بسبب تورطها في حرب اليمن.
شراكة تزعج إيران
رغم ما تردّدَ عن التوصُّل إلى اتفاق لفتح طريق برّي يصل بين ميناء الشارقة مرورًا بإيران ومنها إلى تركيا، لنقل المنتجات الإماراتية إلى تركيا خلال 6 أيام ومنها إلى أوروبا، إلا أن طهران تبدو غاضبة من التقارب التركي الإماراتي، ففضلًا عن قرار طهران بقطع إمدادات الغاز عن تركيا، واجهت الأهداف الإماراتية والتركية سلسلة من الهجمات من قبل بعض الجماعات المرتبطة بإيران، حيث تعرضت قاعدة عسكرية تركية في العراق للهجوم في 3 شباط/ فبراير الجاري، بعد يوم من زعم جماعة “ألوية الوعد الحق”، وهي جماعة مرتبطة بكتائب حزب الله العراقية، أنها أطلقت 4 طائرات مسيّرة استهدفت منشآت حيوية في الإمارات.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها القوات التركية في قاعدة بعشيقة، بالقرب من الموصل، للهجوم، لكن توقيت حادثة 3 شباط/ فبراير، حيث تمَّ إطلاق 18 صاروخًا عليها، كان واضحًا.
فقد أعلنت جماعة غير معروفة حتى الآن، تطلق على نفسها اسم “أحرار سنجار”، أنها هاجمت القاعدة التركية لأن الحكومة العراقية فشلت في حماية سنجار، المنطقة اليزيدية، حيث تلاحق تركيا حزب العمال الكردستاني وفروعه المحلية.
وبالنظر إلى المعطيات الحالية، فإن استهداف تركيا من قبل جماعات مقرَّبة من إيران لم يكن مفاجئًا، وسط سعي أنقرة لتطبيع العلاقات مع دول الخليج و”إسرائيل”.
إشارة أردوغان الى أن امن واستقرار الامارات لا ينفصل عن أمن الامارات، تبدو رسالة واضحة لطهران بتضامن تركيا مع الامارات ضد هجمات الحوثيين المتكررة على أبوظبي.
وقد يكون وراء الهجمات على الأهداف الإماراتية والتركية، الجهود المستمرة لتشكيل حكومة ائتلافية في العراق، إذ يبدو أن خطة السيد مقتدى الصدر، الفائز في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لتشكيل حكومة أغلبية مع كتلتَين سنّيتَين والأكراد، تتداخل مع مصالح كل من تركيا والإمارات العربية المتحدة.
وفي إحدى اللقاءات الصحفية، قلّل أردوغان من شأن قطع إيران المؤقت لإمدادات الغاز عن تركيا، فيما سلّطَ الضوء على التعاون في مجال الغاز مع “إسرائيل”، وهو ما يؤكد على أن تطلع أنقرة إلى جذب “إسرائيل” من خلال شراكة في مجال الطاقة، وجذب الإمارات والسعودية من خلال التعاون الدفاعي، بما في ذلك بيعهما طائرات مسيّرة مسلحة، لن يرضي طهران، وبالتالي قد يكون العراق الجبهة الأولى التي يظهر فيها انزعاج إيران من تركيا.
يضاف إلى مخاوف طهران من التقارب التركي الخليجي، الملف اليمني، حيث تخشى إيران أن تُقدِم تركيا على تزويد الإمارات بطائرات مسيّرة، يمكن أن يكون لها دور في حسم الصراع المرير في اليمن لغير صالح حلفائها الحوثيين. كما أن إشارة أردوغان الى أن أمن واستقرار الإمارات لا ينفصل عن أمن واستقرار تركيا، والتي وجدت ترحيبًا من ابن زايد، تبدو رسالة واضحة لطهران بتضامن تركيا مع الإمارات ضد هجمات الحوثيين المتكررة على أبوظبي.
رغم حالة التودد والتقارب العامة، إلا الشراكة الجديدة بين أنقرة وأبوظبي تصطدم بعدد من التحديات الإقليمية، أبرزها ذلك التناقض الصارخ في مواقف وسياسات ومصالح البلدَين في العديد من القضايا، في مقدّمتها جماعة الإخوان المسلمين، وجماعات الإسلام السياسي، والانقسام الليبي، والأزمة السورية، والخلافات في شرق المتوسط، والتوتر المصري التركي.
فتركيا كانت تتّهمُ الإمارات بمساندة قوات سوريا الديمقراطية ووحدات الحماية الكردية في شمال شرق سوريا بالمال والسلاح والتعاون الاستخباراتي، كما تتّهمُها بالتحالف مع اليونان وقبرص ضد توجُّهات أنقرة في البحر المتوسط، وبدعم قوات حفتر في شرق ليبيا، فيما كانت أبوظبي تتّهمُ أنقرة بدعم الميليشيات الإرهابية وتيارات الإسلام السياسي وإثارة القلاقل بدول المنطقة.
ومع ذلك، يبقى احتمال التقاء وجهات نظر البلدين فيما يتعلق بالأزمة السورية والخلافات في شرق المتوسط وليبيا، قائمًا ومطروحًا، ولا سيما في ظل التطبيع في العلاقات بين مختلف الأطراف والمحاور المتصارعة في المنطقة، والخطوات التي اتّخذتها أنقرة نحو تحسين علاقاتها مع القاهرة والرياض، والخطوات المماثلة التي قرّبت أبوظبي من أنقرة ومن قبلها الدوحة، حيث فيما يبدو أن الجميع ينخرط في شراكة جديدة مع “إسرائيل”.