بين هتافات المقدسيين بـ”الله أكبر” ومحاولات التصدي للمستوطنين خلال اقتحامات المسجد الأقصى، كانت سلطات الاحتلال تفرز قرارات عنصرية لا قانونية، تنصّ بإبعاد المقدسي عن مسجده ومدينته، وعزله عن قضيته من خلال حبسٍ منزلي، تفترض فيه حكومة الاحتلال أنه سيجرده من وطنيته ومقدسيته.
سياسة الإبعاد التي ينتهجها الاحتلال، تهدف في أساسها إلى ردع وتنكيل وتنغيص حياة المقدسي، وللسيطرة على القيادات الشعبية التي تظهر في العاصمة المقدسة، أي أن الاحتلال يعزل هذه القيادات، ويعتقلها داخل بيوتها بدلًا من السجون، بحيث يعزلها عن الحدث في النقاط المشتعلة، كالمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وباب العامود وغيرها.
وجاءت قرارات الإبعاد الإسرائيلية لتطال المقدسيين على اختلاف نشاطهم، فطالت أسرى محررين، ومرابطين ومرابطات في المسجد الأقصى، وحرّاس المسجد، ولم يسلم منها سياسيو القدس، حيث أصدرت سلطات الاحتلال قرارات إبعاد بحقّ عدد من أعضاء الهيئة الإسلامية العليا إلى الأردن بعد أشهر من احتلال القدس عام 1967، والثانية بعد انطلاق انتفاضة الحجارة عام 1987، ويتعرض المقدسي الذي يخرق قرار الإبعاد للسجن 6 أشهر.
سياسة عنصرية: لـ”أوسلو” نصيب منها
في قانون حكومة الاحتلال لدولتها المزعومة، لا يوجد اصطلاح قانوني للإبعاد، إلا أنه من الممكن تصنيفه ضمن ما يُسمّى “تقييد الحركة”، إذ يُمنع بموجبه المتهم من الوصول لمكان معيّن، وبيّن أن هذا المسمّى بالأصل يطبَّق على متّهمي القضايا المدنية، لكن محاكم الاحتلال تتحايل على القانون عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين.
واحتلال كـ”إسرائيل” وجوده غير قانوني في الأساس، لا يستند إلى قانون واضح في ملفات إبعاد الفلسطينيين، لذلك يشرع في توجيه لوائح اتهام على المقدسيين، وفرض الحبس المنزلي حتى إتمام إجراءات القضية، الذي يضاف إليه الإبعاد عن موقع الإخلال بالنظام -على حد وصف شرطة الاحتلال- في التهم الموجهة للناشط الفلسطيني، وهكذا يبقى الملف مفتوحًا على ذمة القضية.
من ناحية أخرى، يقول رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد ناصر الهدمي لـ”نون بوست”، إن “الخطيئة الكبرى” التي ارتكبها الفريق الذي يؤمن بحلّ الدولتَين، أنه رضي بتغيير الواقع القانوني لمدينة القدس، ففي القانون الدولي، تعتبر المدينة تحت الاحتلال بشقَّيها الشرقي والغربي، فلا اعتراف للاحتلال لا بالقسم الشرقي ولا بالغربي، لكن المؤمنين بحلّ الدولتَين اعتقدوا أنهم يستطيعون الحصول على عاصمة في مدينة القدس، عبر الاعتراف للاحتلال بعاصمة في القسم الغربي من مدينة القدس.
بعدما كان ينظر القانون الدولي للمقدسي على أنه ابن شعب تحت الاحتلال، ومن حقه أن يقاوم محتله ويرفضه، ويبعده عن أرضه ويتسوطن فيها، أصبحت اليوم إجراءات الاحتلال “قانونية” لدواعيَ أمنية.
إن هذا الاعتراف الذي أقرّته منظمة التحرير الفلسطينية بتوقيعها اتفاقية أوسلو عام 1993، غيّر الواقع القانوني لمدينة القدس، من مدينة تحت الاحتلال يسري عليها قوانين المدن تحت الاحتلال، إلى مدينة يقع جزء منها كـ”عاصمة” لكيان معترف به دوليًّا، واعترفت به منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح واقعًا.
في ظل هذا المشهد السياسي الذي أحدثته أوسلو، حصل على شرعية “موهومة” لوجوده في مدينة القدس، أكّدها الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لدولة الكيان، وأصبح أمرًا واقعًا يتعامل معه العالم من هذا المنطلق، من مبدأ أن القدس عاصمة الاحتلال، يطبَّق فيها قانونه الذي يريد، ومن حقه أن يبعد عن عاصمته من يشاء، لا سيّما أن المقدسيين في عرف قانون الاحتلال ليسوا مواطنين، بل مقيمين وأقلية موجودة، وهو يرعى شؤونهم، ومن حقه “الحفاظ على أمنه منهم”.
وقد أدلى اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بجزء من القدس للاحتلال واعتراف الولايات المتحدة بالمدينة عاصمة الدولة الاستعمارية، بدلوه على تغيُّر وضع المقدسيين القانوني، فبعدما كان ينظر القانون الدولي إلى المقدسي على أنه ابن شعب تحت الاحتلال، ومن حقه أن يقاوم محتله ويرفضه، وفي الوقت ذاته يجرّم على الاحتلال أن يستولي على ممتلكاته ويبعده عن أرضه ويستوطن فيها، أصبحت اليوم إجراءات الاحتلال “قانونية” لدواعٍ أمنية.
مراحل سياسة الإبعاد
بحلول عام 2013، صعّد الاحتلال الإسرائيلي من سياسة الإبعاد عن المسجد الأقصى، بتقاسم الأدوار بين شرطة الاحتلال كجهة رسمية، والجماعات اليهودية المتطرفة المنضوية في إطار “منظمات الهيكل” المزعوم؛ وبات اتّباع سياسة الإبعاد بحقّ العاملين في الأقصى وروّاد المسجد سياسة ثابتة تأخذ منحىً تصاعديًّا، لمعاقبة المرابطين والمرابطات، دون تفريق بين رجل وامرأة، وبين كهلٍ طاعن بالسن وشبلٍ قاصر صغير، وبين عاملٍ وحارسٍ ومسؤول.
في رمضان عام 2014، بدأت شرطة الاحتلال بفرض قانون “إبعاد جماعي صباحي للنساء” عن المسجد الأقصى، وذلك خلال الساعات التي يتمُّ فيها تنفيذ الاقتحامات للمسجد الأقصى، بحيث بات ما يقارب 500 طالبة من طالبات مصاطب العلم يمنعن يوميًّا من الدخول إلى المسجد الأقصى.
وتشير إحصاءات “مركز معلومات وادي حلوة” في سلوان إلى أن سلطات الاحتلال أبعدت خلال عام 2014 عن المسجد الأقصى 300 فلسطينيًّا، مع ملاحقة موظفي المسجد الأقصى من الخطباء والحرّاس، بالإضافة إلى اعتقال طلبة مصاطب العلم، بما في ذلك النساء والأطفال والشيوخ وفرض الغرامات المالية عليهم.
ومؤخرًا، أسدلَ عام 2021 الستار على 519 قرار إبعاد للمقدسيين، وفق ما رصده مركز معلومات وادي حلوة في القدس، وقد توزّعت ما بين 357 عن المسجد الأقصى، 110 عن القدس القديمة، 31 عن مدينة القدس، 11 منع دخول مدن الضفة الغربية، وهي الحصيلة الأكبر خلال السنوات الأخيرة تبعًا لما شهدته الأراضي الفلسطينية، والقدس -كبؤرة صراع- خلال العام المنصرم.
منعًا للمواجهة.. أبعِد المقدسي!
تزداد قرارات سلطات الاحتلال بالإبعاد في فترة الأعياد اليهودية، والتي أصبحت موسمًا لإغلاق معظم أبواب المسجد الأقصى المبارك، أو في أعقاب حدوث مواجهات تسمّيها سلطات الاحتلال “إخلالًا بالأمن العام”؛ ويهدف الاحتلال فيها إلى ردع المقدسي من جهة، وإفراغ الساحة أمام المستوطن من جهة أخرى.
بحسب الهدمي، المبعد حاليًّا عن المسجد الأقصى، فإنه في فترة اقتحامات المسجد الأقصى المبارك، وحين دخول فوج من المستوطنين، تراقب شرطة الاحتلال مَن الذي يحرّك الناس، ويبدأ بالتكبير، ويتابع تحركات المقتحمين ويزعجهم ويحاول أن يقف في طريقهم، هؤلاء الناشطين ترصدهم أنياب سلطات الاحتلال، وتصدر أوامر إبعادهم عن المسجد الأقصى المبارك.
ويعزي الهدمي ذلك إلى هدف الاحتلال للتخلُّص منهم كي لا يكونوا عائقًا أمام أي عملية اقتحام قادمة، وردعهم في المقام الثاني، بحيث يشترط دخولهم للمسجد الأقصى أن يدخلوه وفق ما يمليه الاحتلال من شروط. ويضيف الهدمي: “كنت متواجدًا في العديد من النشاطات في الشيخ جراح والمسجد الأقصى المبارك، اليوم بعدما تمَّ إبعادي عن الجزء الشرقي من المدينة والمسجد الأقصى، لا أستطيع أن أتواجد في أي حدث من هذه الأحداث”.
وحول الإبعاد كسياسة للتغيير الديموغرافي، يستبعد رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد استخدام الاحتلال الإبعاد للتأثير على الواقع الديموغرافي في مدينة القدس، رغم أن تقارير عديدة تحدثت في الموضوع.
فحقيقة الأمر أنه منذ اليوم الأول لاحتلال مدينة القدس حتى يومنا هذا تمَّ إبعاد ما يزيد عن 5000 مقدسي، من أصل 400 ألف مقدسي من السكان، وهذا، وفق الهدمي، غير مجدٍ في الحديث عن تغيير ديموغرافي، مقارنة بسياسات الهدم التي يتبعها الاحتلال ومنع البناء.
يعتقد الاحتلال أنه يستطيع عزل المقدسي وثنيه عن قضيته من خلال إبعاده عن أرضه التي ينتمي إليها، ومسجده الذي يحبّ أن يرى قّبته الذهبية، إلا أن الشاهد التاريخي أثبت للاحتلال فشله، فمع الدقيقة الأولى لانتهاء أمر الإبعاد العنصري، ترى المقدسي ساجدًا في ساحات المسجد الأقصى، يبثّ أشواقه إليها، ويجدد الولاء.