إذا كانت معرفة لغة القوم تأمن شرورهم، فإن ترجمة فكرهم وثقافتهم تضمن الاستفادة منهم وتحويلهم من مصدر قلق إلى نافذة تطور ورخاء، وما نهضت حضارة بمفردها دون الاستفادة من الحضارات التي سبقتها أو المتزامنة معها، غير أن ثنائية الجغرافيا واللغة كانت الحاجز الأكبر، ومن هنا جاءت فلسفة الترجمة على مرّ التاريخ.
من هذا المنطلق أولى العرب والمسلمون أهمية فائقة للترجمة والنقل عن الثقافات الأخرى، إيمانًا منهم بأن في الاستفادة من تجارب الآخرين وعلومهم مكرمات عظام تدفع قاطرة التنمية والنهوض للأمام، وعليه وضع المسلمون الأوائل هذه المسألة تحت مجهر الاهتمام والتركيز، فأصبحوا في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات روادًا في الترجمة.
اجتهادات شخصية
كانت علاقة العرب بالترجمة قبل الإسلام تعتمد على الاجتهاد الشخصي الذي يرجع في الأصل إلى دوافع اقتصادية بحتة، حيث التبادل التجاري مع بعض أبناء الثقافات الأخرى، ما كان يتطلب النقل عنهم ومعرفة لغاتهم وأسلوب تفكيرهم وطقوس حياتهم، بما يسهم التعامل معهم في البيع والشراء، وكان ذلك يجري بشكل عفوي.
وتشير الدراسات التاريخية إلى أن أقدم الأشواط التي قطعها العرب قديمًا -على استحياء- في مضمار الترجمة، كانت دينية في مقامها الأول، حيث ترجمة الإنجيل الذي كان متواجدًا في بطريركية أنطاكية، ونقله إلى بطريركية القدس في فلسطين، وهو ما أشار إليه المستشرق الألماني كارل بروكلمان (1868-1956).
واتّسم النقل في تلك المرحلة بالاعتماد على الذاكرة دون التوثيق، حيث كان يتميز العرب في ذلك الوقت بالحفظ والتذكُّر أكثر ممّا كانوا عليه في مجال الكتابة، إذ كان يعاني معظمهم من الأمية الأبجدية، وهو ما جعل كافة الجهود المبذولة في هذا المسار عرضة للاندثار والاختفاء مع وفاة صاحبها، الأمر الذي فطنه العرب فيما بعد.
بذرة الترجمة الأولى
كانت بعثة النبي الإرهاص الأول لبزوغ فجر الترجمة في المنطقة العربية على أُسُس منهجية قويمة، حتى إن كانت وفق سردية دعوية دبلوماسية في المقام الأول، لكنها كانت اللبنة الأولى في جدار الترجمة الصلب الذي أثرى به العرب تراثهم وحضارتهم القديمة.
العديد من الروايات، الموثّق بعضها في كُتُب السيرة والأحاديث النبوية، تشير إلى أن النبي كان من أشد الناس حرصًا على تعلُّم اللغات غير العربية، وهو -عليه السلام- الذي كان يوجّه بنفسه أصحابه إلى ذلك، ومن أبرز النماذج في هذا الشأن شاعر الرسول، الصحابي الشاب زايد بن ثابت، الذي طلب منه النبي تعلُّم اليهودية لمقارعة زعمائها.
وبالفعل لم يكذب زايد الخبر، فتعلّم اليهودية في أقل من نصف شهر، عزّزها باللغة السريانية في 17 يومًا، وبات المترجم الأبرز لكتب اليهود ومعارفهم للنبي عليه السلام وصحابته الكرام، ومن هنا كان التحرك النبوي نحو النقل عن الثقافات الأخرى وترجمة كتبهم للاستفادة منها.
وطيلة فترة البعثة وما تلاها من عصور الخلافة، كانت الترجمة على رأس أولويات دولة الإسلام الأولى، حيث التوجيه المباشر للنقل عن حضارات بلاد فارس واليونان، ما مهّد الطريق نحو تخريج جيل كامل من المترجمين، كان لهم حضورهم القوي فيما بعد خلال العصرَين الأموي والعباسي.
العصر الذهبي
خطَت الترجمة خلال العصر الأموي (662-750) خطوات بارزة نحو النهوض والتقدُّم، قياسًا بما كانت عليه خلال عصور الخلافة، ففي هذا العصر تُرجمت جُلّ المصنّفات الإغريقية والسريانية في مجال الطب والفلك والفيزياء إلى اللغة العربية، وكان ذلك أول خطوة في مجال الترجمة العلمية بعيدًا عن المصنّفات الدينية.
ومع إزاحة العباسيين لبني أمية وبناء دولتهم العباسية (750-1517)، حظيت الترجمة بمكانة لم تحظَ بها من قبل، وشهدت أوجها في تلك السنوات، حيث كان يرى الخلفاء العباسيون في الترجمة أحد أضلاع بناء دولتهم الممتدة، وركنًا أسياسيًّا في نهضتها، فأولوها اهتمامًا غير مسبوق.
وانتقلت الترجمة في كنف العباسيين من إطار النقل والتعريب الضيق إلى آفاق رحبة من حيث التنظيم والإدارة وحجم ومعدلات الإنتاج، هذا بجانب ما كانت تتمتّع به من جودة عالية، ما كان له أثره الإيجابي على وضع الدولة الإسلامية على خارطة الترجمة بين حضارات العالم المختلفة.
ويذكر التاريخ جهود عدد من الخلفاء العباسيين أولوا الترجمة أهمية محورية في بناء دولتهم، أوّلهم أبو جعفر المنصور (714-775) صاحب السبق في توجيه كافة إمكانات الدولة لعلم الترجمة في مجال الطب والفلك والهندسة، وتُحسب له ترجمة موسوعات “إقليدس” و”الهند والسند” و”كليلة ودمنة” إلى العربية.
وثانيهم هارون الرشيد (766-809)، أول من أرسل بعثات علمية لتحصيل العلوم في بلاد الروم، وجلب مؤلفاتهم لترجمتها عربيًّا، وقد أحدث هذا التوجُّه حينها نقلة كبيرة في نهضة الدولة الإسلامية، وساهمَ في تعزيز حضورها بين الحضارات الإنسانية القديمة، بعيدًا عن الانتقادات التي كان يروّجها غير المسلمين حينها بأن الدولة الإسلامية دولة ثيوقراطية لا علاقة لها بالتمدُّن والعلوم الأخرى.
أما ثالثهم، والذي بلغت الترجمة في عصره أوجها، فهو الخليفة المأمون (786-833) الذي أولى العلوم بصفة عامة أهمية بالغة باعتبارها ركنًا أصيلًا في بناء الدولة، و في عهده وكّل إلى المسيحيين العمل في الترجمة عن اللغات الأخرى، هذا بجانب تأسيس أول مدرسة علمية متخصصة في الترجمة تحت ولايته، والتي عُرفت بـ”بيت الحكمة” في بغداد، والتي كانت بمثابة جامعة خرّجت العشرات من الأفذاذ في مجال التراجم، على شاكلة الجاحظ والخوارزمي وحنين بن إسحاق وغيرهم.
في كتابه “في النثر العربي.. قضايا وفنون ونصوص“، يشير الباحث محمد عبد العال إلى أن الترجمات بصيغتها المعروفة بدأت في القرن الأول الهجري، مستشهدًا بجهود خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في هذا المجال، إذ يعتبره أول من ترجمَ كتب الطب والنجوم والكيمياء، فيما نقل عن ابن النديم قوله إنه عاينَ العديد من الكتب التي ترجمها ابن يزيد، منها كتاب “الحرارات” و”الصحيفة الكبير” وغيرهما.
رواد الترجمة
تزخر حضارة الترجمة التي أرسى العرب قواعدها بالعديد من الرواد، من بينهم المفكر الشهير أبو محمد عبد الله بن المقفع (724-759)، والذي ولد مجوسيًّا ثم اعتنق الإسلام، وكان من أبرز حذّاق الترجمة في عصره، ويكفي أنه صاحب ترجمة الموسوعة الهندية الشهيرة “كليلة ودمنة” إلى اللغة العربية، والتي تعدّ حتى اليوم نموذجًا في الفصحى يشار إليه بالبنان.
أثرى ابن المقفع المكتبة العربية بعشرات الكتب المترجمة من الفارسية واليونانية والهندية إلى العربية، كما له عدة مؤلفات في الأدب الصغير والكبير، والتراجم والسِّيَر التي من أبرزها “باري ترمينياس” و”أيين نامة – في عادات الفرس” و”التاج – في سيرة أنو شروان”.
ولا تقلّ مكانة ابن المقفع عن أبو الحسن، ثابت بن قرة بن عرفان الحرافي (836-901)، أحد أبرز العلماء العرب في الفلك والهندسة والموسيقى، أتقن اليونانية والسريانية بطلاقة فنقل منهما إلى العربية، ومن أبرز ما نقل أعمال أبولونيوس وأرخميدس وإقليدس وبطليموس، وله -بحسب الروايات- نحو 150 كتابًا في شتى العلوم، وأكثر من 150 كتابًا باللغة السريانية القديمة.
ويأتي في سلسة عظماء الترجمة التاريخيين، أبو حفص عمر بن الفرخان الطبري (762-815)، الذي يعتبرونه المنجّمون الغربيون مرجعيتهم الأساسية في الترجمة، بفضل ترجمته النسخة الفهلوية من كتاب Pentateuch لدوروثيوس الصيدي إلى العربية، ويعتبره بعض المؤرِّخين أنه أحد حذّاق الترجمة من المسلمين.
على الدرجة نفسها من القيمة والقامة، يأتي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (805-873)، العلّامة البارع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس، وله باع طويل في الترجمة، وإليه يعود الفضل في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية والهلنستية التي نهلَ منها وأثرى المكتبة العربية بعشرات المؤلفات.
يروي ابن النديم أن للكندي 260 كتابًا على الأقل، ما بين الهندسة والفلسفة والطب والمنطق والفيزياء، فيما تشير روايات أخرى إلى أن العدد يتجاوز 280 كتابًا، هذا بخلاف العديد من المؤلفات في مجال الترجمات اللاتينية، بعضها محفوظ حتى اليوم في المكتبات التركية.
وفوق هذا وذاك يأتي أبو زيد بن إسحاق العبادي المعروف بحنين بن إسحاق العبادي (810-873)، الطبيب الخاص للخليفة المتوكل، وأحد أبرز علماء المسلمين رغم ديانته المسيحية، يجيد اللغة السريانية والفارسية واليونانية، وله عشرات المؤلفات في مجال الطب والأدوية، ويعدّ علمًا من أعلام علوم العقاقير في العالم.
لابن إسحاق منهج متميز في الترجمة، يضفي على أعماله خصوصية يتمايز بها عن أقرانه، إذ لا يكتفي بالنقل نصًّا قدر ما يضيف عليه في ضوء فهمه واستيعابه، ما يطعّم المنقول بفهم أوسع ودراية أكبر تسهّل على المتلقّي الاستيعاب والفهم وتثقل حصيلته العلمية، ومن أبرز ما ترجمَ أعمال جالينوس وأبقراط وأرسطو والعهد القديم من اليونانية.
بيت الحكمة ببغداد
إيمانًا بأهمية الترجمة، دشّن خلفاء الدولة الإسلامية مدارس متخصصة في الترجمة، تقوم على رعاية هذا العلم وتنميته وتوفِّر له سبل الدعم والنهوض، ومع الوقت تحولت تلك المدارس إلى مفرخة لتخريج الحذّاق في التراجم والتعريب من المشهود لهم بجودة ودقة أعمالهم.
وعلى رأس تلك المدارس “مدرسة بغداد للترجمة”، أو ما عرفت باسم “بيت الحكمة” أو “خزائن الحكمة”، والتي أسسها الخليفة العباسي هارون الرشيد في بغداد، لتصبح منارة لترجمة كتب الطب والهندسة والآداب والنجوم، حيث فتح الخليفة أبوابها أمام الطلاب والباحثين للاستفادة منها، فأثرت الحياة الثقافية في ذلك الوقت.
ومرّت المدرسة بعدة مراحل، حيث نشأت في البداية كمكتبة ثم تطورت لتصبح مركزًا للترجمة ومنه إلى مركز للبحث العلمي والتأليف، وصولًا إلى دار لتلقّي العلم والدروس، وقُسِّمت إلى عدة أقسام، قسم مكتبة وقسم للنقل والترجمة وآخر للبحث والتأليف، ومن أبرز مترجميها يوحنا بن ماسويه وجبريل بن بختيشوع وحنين بن إسحاق.
كذلك هناك “مدرسة طُليطلة للمُترجمين” في الأندلس، والتي تأسَّست في القرن الـ 12، وكانت أقدم مدارس الترجمة في القارة الأوروبية، ووصفها بعض المؤرِّخين بأنها “أول مدرسة حقيقية للترجمة”، وبعد سقوط الأندلس لم تتوقف المدرسة عن نشاطها في النقل والترجمة، حتى آلت اليوم إلى جامعة كاستيا لا مانتشا في مدينة طليلطة، تهتمّ بتعزيز التفاهم والتعاون بين مترجمي العربية والعبرية.