شهدت الأشهر الماضية تحركات حثيثة من غاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ومستشاره إلى الشرق الأوسط، وتحديدًا منطقة الخليج حيث زار الرياض ودبي والدوحة، لكن هذه المرة ليس كرجل سياسة ومهندس صفقات التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وإنما كرجل أعمال يبحث عن ممولين ومستثمرين لشركته الخاصة Affinity Partners، وهو ما دفعه لإجراء محادثات أحادية مع كل من ولي عهد السعودية محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، هذا بخلاف اتصالات أخرى أجراها مع المسؤولين في الحكومة القطرية.
لكن بحسب صحيفتا The New York Times وBloomberg خيبت النتائج آمال زوج إيفانكا، فقد رفضت قطر والإمارات دعمه بسبب سجله التجاري غير المطمئن، أما صندوق الاستثمارات السعودي البالغ قيمته 500 مليار دولار، ويرأسه ابن سلمان، فأبدى اهتمامه بالمقترح، دون تفاصيل بشأن قراره النهائي، وهناك مؤشرات على احتمالية الموافقة إذ أجرى الرجل جولةً داخل شركة أرامكو السعودية بصحبة كبار مسؤوليها.
وقد أسس كوشنر شركته الجديدة العام الماضي، برأس مال قرابة ملياري دولار بنهاية نوفمبر/تشرين الماضي، جمعها من الشركاء والمساهمين، غير أن الالتزامات الجديدة على الشركة تتجاوز 3 مليارات دولار، ما دفعه للبحث عن تمويلات جديدة لسد هذا العجز.
سياقات العودة
اختيار كوشنر لمنطقة الخليج تحديدًا لإنقاذه ماليًا لم يأت من فراغ، فالرجل منذ أن كان مستشارًا في البيت الأبيض يولي حكام وأمراء تلك المنطقة أهميةً خاصةً، إذ أقام علاقات صداقة شخصية مع بعضهم كما هو الحال مع ولي العهد محمد بن سلمان وصديقه الإماراتي ابن زايد.
وكان صهر ترامب أحد الداعمين لحكام الإمارات والسعودية في أزمتهم مع قطر التي اندلعت في يونيو/حزيران 2017، وفي الوقت ذاته كان مهندس التطبيع بين “إسرائيل” من جانب ودول الخليج وبعض الدول الإفريقية من جانب آخر، هذا بخلاف الدور الذي لعبه في أزمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، أكتوبر/تشرين الأول 2018، ودعمه الكامل لابن سلمان في الإفلات من مقصلة العقاب.
ميكافيللية كوشنر، أو بالأحرى برغماتيته المطلقة، دفعته لطرق أبواب قطر رغم انحيازه الكامل لخصومها في أزمة 2017، وذلك حين صدَّر نفسه كـ”حمامة سلام” لإنهاء هذا الخلاف والعودة إلى طاولة المصالحة، وذلك بعد أن أرغمت الظروف والتطورات الإقليمية والدولية واشنطن على المضي قدمًا لتخفيف التوتر الخليجي الخليجي.
ورغم خروجه من دائرة صنع القرار المباشر في يناير/كانون الثاني 2020 فإن كوشنر لم يتوقف عن الاهتمام بالخليج وحكامه، وعليه لم يقطع الرجل اتصالاته وتواصله مع أصدقائه هناك، بل تحولت بعض العواصم الخليجية إلى أماكن الترفيه المفضلة له ولأسرته، إلا أن العودة من باب الاستثمار الآونة الأخيرة أثارت الكثير من التساؤلات.
جني الحصاد
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 نشر الكاتب دوجلاس بلومفيلد مقالًا في صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية، حاول من خلاله تسليط الضوء على التطور السريع في العلاقات بين كوشنر وحكام الخليج، رغم افتقاره للخبرة والمؤهلات السياسية التي تقوده إلى هذا المستوى من الثقة لديهم، وإن ألمح أنه كان الباب الأوسع لترامب نحو تعميق تلك العلاقات إلى هذا الحد.
بلومفيلد أشار إلى ابتزاز ترامب وزوج ابنته لولي العهد السعودي مقابل التستر على جريمة خاشقجي، المتهم فيها ابن سلمان بصورة مباشرة وفق نتائج التحقيقات التركية والأمريكية على حد سواء، فقد قبل الرئيس ومستشاره تحمل كل الضغوط السياسية الداخلية والخارجية في عدم اتخاذ موقف حاسم إزاء تلك الجريمة، في مقابل توظيفها لاحقًا للحصول على المكاسب المالية.
يدين ولي العهد السعودي لكوشنر ووالد زوجته بالجميل لحمايته من الملاحقات القضائية التي ربما كانت تضع مستقبله السياسي على المحك
كشف المقال أيضًا وجود صفقة ضمنية تشير إلى غض الطرف عن الجريمة والضالعين فيها بما يمهد الطريق نحو ابتزاز مستمر لا يتوقف، فاستنادًا إلى أن الجرائم لا تسقط بالتقادم فإن مكاسبها هي الأخرى لا تسقط، إذ كتب بلومفيلد: “لكل جريمة ثمن إلا إذا كانت لديك العلاقات الكافية، لنقل أن صديقك (يقصد ولي العهد) قتل شخصًا ما وتخلص من جثته بعد أن حولها إلى أشلاء ولم يتم العثور على الجثة منذ ذلك الوقت، وصديقك هذا ثري للغاية وإذا ساعدته في الوقت الحاليّ، يمكنك الحصول على مكافأة، ويمكن أن يكون مفيدًا لك لأطول فترة ممكنة”.
إذن، يدين ولي العهد السعودي لكوشنر ووالد زوجته بالجميل لحمايته من الملاحقات القضائية، ورغم فتح ابن سلمان خزائن بلاده أمام ترامب خلال فترة حكم الأخير، فمن الواضح أن هذا لم يكن كافيًا، حتى بعد مغادرة البيت الأبيض، ليظل الجميل في حاجة للرد بين الحين والآخر. ومن هنا كان اختيار كوشنر للرياض لدعم مشروعه.
الموقف ذاته مع ولي عهد أبو ظبي، فيرى كوشنر أنه صاحب الفضل في تعزيز حضوره الإقليمي من خلال دعمه في العديد من الملفات، بعضها كان يتقاطع مع المصالح السعودية، هذا بخلاف دوره في إبرام اتفاقات أبراهام مع الاحتلال، وتحسين صورة حكام الإمارات لدى صناع القرار في واشنطن، وعليه كان لا بد من رد الجميل.
استغلال للموقف المتأزم
يعرف كوشنر جيدًا من أين تؤكل الكتف، وهو على دراية تامة أن العلاقات بين سلطتي السعودية والإمارات مع إدارة جو بايدن الجديدة ليست على المستوى الدافئ، مقارنة بما كانت عليه إبان ولاية ترامب، رغم الهجوم بين الحين والآخر الذي كان يشنه الرئيس السابق ضد حكام البلدين، وهو الذي استهدف العاهل السعودي ذات مرة قائلًا إنه لن يصمد في منصبه أسبوعين فقط إذا سقطت من عليه عباءة دعمه له.
كانت العلاقات بين ابن سلمان وابن زايد مع الولايات المتحدة في إدارة ترامب متميزةً إلى درجة ما، لكن سرعان ما تعرضت لفتور واضح في ظل حكم بايدن الذي لم يتحدث إلى ولي العهد السعودي منذ انتخابه، مكتفيًا بالتواصل المباشر مع الملك سلمان فقط، الأمر كذلك مع ابن زايد.
هذا الفتور في العلاقات الذي يتصاعد يومًا تلو الآخر في ظل حكم الديمقراطيين يهدد بالطبع نفوذ الرياض ومعها أبو ظبي في الولايات المتحدة، لا سيما في دوائر صنع القرار، ما قد يؤثر على مستقبل الأنظمة هناك، وهو ما يعرفه كوشنر جيدًا ويعزف عليه خلال جولاته المتتالية لدول الخليج.
يحاول الخليج الحفاظ على استمرارية سياسة الباب المفتوح مع ترامب من خلال زوج ابنته، لا سيما بعدما سجلت شعبية بايدن خلال عامه الأول تراجعًا لم تعرفه شعبية أي رئيس أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية
الحفاظ على سياسة الباب المفتوح
ما الذي يدفع الخليج للإبقاء على ذات العلاقات مع كوشنر رغم خروجه عن دائرة السلطة في البلاد؟ سؤال تفسر إجابته سر اختيار مستشار البيت الأبيض السابق للرياض وأبو ظبي تحديدًا للحصول على الدعم المالي المطلوب، فالرجل على دراية تامة بأهمية الولايات المتحدة لتلك المنطقة، وتأثير العلاقات الشخصية بين حكام دول الخليج وساكني البيت الأبيض في الحفاظ على أو تهديد نظم الحكم هناك.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن ترامب يُعتبر مرشحًا رئاسيًا محتملًا خلال انتخابات 2024، وهو الذي أعلن ذلك بنفسه، بل حدد منذ الآن المرشح لمنصب نائب الرئيس، حين أشار إلى أن حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس سيكون مرشحًا “جيدًا” لمنصب نائب الرئيس، بدلًا من مايك بنس الذي قال عنه ترامب: “أصيب بجروح بالغة بسبب ما حدث فيما يتعلق بـ6 يناير/ كانون الثاني 2020”.
وعليه يحاول الخليج الحفاظ على استمرارية سياسة الباب المفتوح مع ترامب من خلال زوج ابنته، لا سيما بعدما سجلت شعبية بايدن خلال عامه الأول تراجعًا لم تعرفه شعبية أي رئيس أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية، فقد انخفض تصنيفه بنسبة 11.3% من 56% إلى 44.7% حسب استطلاع أجراه المعهد الأمريكي للرأي العام “غالوب”.
ومن ثم فإن استمرارية العلاقة مع كوشنر ربما تصب في صالح الحكومات الخليجية، حتى إن ترشح ترامب خلال الانتخابات القادمة، فربما يكون الرجل حلقة الوصل بين أمراء الخليج ودوائر صنع القرار في الحزب الجمهوري، سواء فاز في الانتخابات أم خسر، في ظل العلاقات المتوترة معظم الوقت مع الديمقراطيين.
النائب السابق لمستشار الأمن القومي للرئيس أوباما، بين رودس، خلال تصريحات أدلى بها لقناة MSNBC الأمريكية تعليقًا على ما نشرته “نيويورك تايمز” بشأن توجه كوشنر لدول الخليج لجمع أموال لشركته الجديدة، قال إن الأموال التي يحاول كوشنر جمعها من السعوديين بمثابة “دفعة جديدة تحت الحساب لترامب” على أمل عودته للبيت الأبيض عام 2024، منوهًا أنها تهدف في المقام الأول لدعم الدعاية الانتخابية للرئيس الجمهوري لعودته للسلطة مرة أخرى.
رودس أوضح أن إصرار الرياض على الاستثمار مع كوشنر رغم سجله المشين وخروجه من البيت الأبيض، يعكس العلاقات القوية بينه وولي العهد، وهي العلاقة التي جعلت إدارة ترامب تتستر على دوره في جريمة مقتل خاشقجي، على حد قوله، مضيفًا “عائلة ترامب كان تبني علاقاتها التجارية مع قادة الخليج وفق مصالحها وليس مصلحة أمريكا، وقد آن الأوان لولي عهد المملكة أن يكافئ كوشنر ويرد له الجميل”.
ماذا عن “إسرائيل”؟
القناة السابعة العبرية في تقرير لها نشرته في 10 فبراير/شباط الحاليّ تساءلت: ما الذي يبحث عنه كوشنر في المملكة العربية السعودية؟ لافتة أن صهر ترامب بات مهتمًا بحكام الخليج أكثر بعد وساطته بين “إسرائيل” ودول المنطقة، في إشارة إلى اتفاق أبراهام الموقع في سبتمبر/أيلول 2020.
التقرير استند في معلوماته إلى ما نشره موقع بلومبيرغ بشأن الرحلات الأخيرة التي قام بها كوشنر لدول الخليج وبعض الشركات الكبرى، لكنه في الوقت ذاته لم يقدم إجابة شافية بما إذا كان هذا التحرك استمرارًا لأنشطة كوشنر الدبلوماسية على الرغم من أن ترامب لم يعد في البيت الأبيض أو لأغراض خاصة، تتعلق بدعم شركته الجديدة.
وتحت عنوان “جاريد كوشنر في طريقه للاستثمار في “إسرائيل” نشرت صحيفة “إسرائيل اليوم” تقريرًا في 29 يوليو/تموز 2021، ذكرت فيه ما تردده بعض وسائل الإعلام العالمية بأن صهر الرئيس السابق يفكر في التوسط من أجل تدشين مشروعات عملاقة واستثمارات كبيرة بين رجال الأعمال الإسرائيليين وشركائهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والهند.
يبدو أن سياسة “الحلب” التي كان يتبعها ترامب مع دول الخليج يواصلها زوج ابنته بعد مغادرة البيت الأبيض، مستغلًا حالة التوتر النسبي مع الإدارة الأمريكية الجديدة، بجانب التوظيف الجيد للملفات التي تمثل تهديدًا لاستمرار بعض أنظمة الحكم الخليجية وعلى رأسها الملف الحقوقي
وتساءلت الصحيفة: هل ينوي كوشنر فتح فرع استثماري في “إسرائيل” قريبًا؟ وفقًا لمصادر مجهولة تحدثت مع وكالة رويترز للأنباء، يعتزم صهر ترامب ترك السياسة – في الوقت الحاليّ – والتركيز على تأسيس شركة استثمارية في الأشهر المقبلة.
الكاتب المتخصص في الشأن الإسرائيلي، معتز محمد، يرى أن كوشنر يحاول قدر الإمكان الاستفادة من الخدمات التي قدمها لـ”إسرائيل” عبر اتساع دائرة التطبيع معها لتحقيق مكاسب خاصة، وفي المقابل تحاول تل أبيب رد الجميل لما بذله من دور إستراتيجي لدعم أجندتها التوسعية خلال السنوات الماضية.
ويشير الكاتب في حديثه لـ”نون بوست” أن الشركة الجديدة لكوشنر من المرجح أن تفتح لها فرعًا في تل أبيب، حسب مصادر تحدثت إلى “رويترز” وأن يكون هذا الفرع نقطة الارتكاز الإقليمية نحو التمدد في الخليج وشمال إفريقيا، بجانب الهند، منوهًا أن كثيرًا من رجال الأعمال الإسرائيليين وبعض السياسيين يدعمونه في هذا التوجه.
يذكر أن علاقة كوشنر بـ”إسرائيل” تعد الأعمق والأكثر دفئًا مقارنةً بالدول الأخرى، وصلت إلى حد أن اعتقد ترامب أن زوج ابنته ورغم أنه يهودي أرثوذكسي كان أكثر ولاءً لـ”إسرائيل” من بلاده، بحسب معتز الذي أكد أن ما قدمه زوج إيفانكا للإسرائيليين لم يقدمه أي مسؤول سابق في البيت الأبيض.
يبدو أن سياسة “الحلب” التي كان يتبعها ترامب مع دول الخليج يواصلها زوج ابنته بعد مغادرة البيت الأبيض، مستغلًا حالة التوتر النسبي مع الإدارة الأمريكية الجديدة، بجانب التوظيف الجيد للملفات التي تمثل تهديدًا لاستمرار بعض أنظمة الحكم الخليجية وعلى رأسها الملف الحقوقي، ليبقى السؤال: هل ترضخ العواصم الخليجية لهذا الابتزاز مرة أخرى؟