“لم يكن قرارًا سهلًا.. فالتخلي عن النجاحات والذكريات التي تحققت على مدار 15 عامًا خطوة تحتاج إلى شجاعة مفرطة، وما أصعب أن تبدأ في مكان آخر من جديد.. لكنه الفرار بالروح والحياة من عنصرية فاقت كل التصورات”، كانت هذه إجابة “سماح” المواطنة الفرنسية من أصول مصرية (45 عامًا) عن سؤال سبب تركها لفرنسا، لافتة أنها اضطرت للانتقال للحياة في هولندا خوفًا على حياتها وأسرتها من الاستهداف اليميني المتطرف في فرنسا.
لم تكن حالة “سماح” الوحيدة من نوعها، إذ شهدت الفترة الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد المسلمين الفرنسيين ممن غادروا البلاد، بعدما وصلت العنصرية إلى أقبح صورها، وتحولت فرنسا، ذلك البلد الذي يقدم نفسه كبلد حضاري يتسع لجميع الثقافات، إلى منطقة طاردة لأبنائها، ليس لسبب إلا لأنهم أصحاب ديانات أخرى أو عرقيات مختلفة.
ومع اقتراب الماراثون الانتخابي، بات المسلمون الفرنسيون الورقة الدعائية الأبرز حضورًا، لكن ليس لكتلتهم التصويتية كونهم يمثلون نحو 10% من المجتمع الفرنسي، وإنما لتوظيفهم وملف الهجرة عمومًا لخدمة الخطاب الشعبوي الذي يعتمد عليه معظم المرشحين لكسب أصوات اليمين صاحب الكتلة التصويتية الأكثر عددًا والأعلى صوتًا.
لم نعد نشعر بالأمان
في تقرير نشرته مؤخرًا صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بعنوان “رحيل في الخفاء لمسلمي فرنسا“، استشهد ببعض الحالات التي غادرت فرنسا قهرًا هربًا من الانتهاكات التي تتعرض لها على أيدي اليمينيين، في ظل تصاعد خطاب العداء والكراهية للمسلمين بصفة خاصة والأقليات بشكل عام.
صبري لوتة (38 عامًا) روائي فرنسي من أصول جزائرية، يقول إنه لم يعد يشعر بالأمان في فرنسا، لافتًا إلى أنه تعرض منذ 2015 لانتهاكات عنصرية لم يشهدها من قبل، وصلت إلى حد أن بصق عليه أحد الفرنسيين واصفًا إياه بـ”العربي القذر”، وعليه اتخذ قرار المغادرة، واستقر به الحال في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا الأمريكية.
الموقف ذاته عبر عنه عمار مكروس (46 عامًا) الذي ينحدر من أصول مهاجرة حين قال: “أنا فرنسي فقط في الخارج، أنا متزوج من امرأة فرنسية، أتحدث الفرنسية، أعيش الفرنسية، أحب الطعام والثقافة الفرنسية، لكن في بلدي فرنسا أنا لست فرنسيًا”، ومن ثم لم يتحمل هذا الوضع كثيرًا، فكان قرار الرحيل في 2016، حيث استقر مع زوجته وأطفاله الثلاث في ليستر ببريطانيا.
وكشفت الصحيفة الأمريكية إلى أنه في العام ذاته (2016) دشن عدد من المسلمين الفرنسيين في بريطانيا مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، تضم حتى اليوم أكثر من 2500 عضو، معظمهم من العائلات الشابة التي غادرت فرنسا بسبب صعوبة العثور على وظائف لأنهم مسلمون ويلتزمون بالزي والهوية الإسلامية.
وها هي سارة (اسم مستعار) المواطنة الفرنسية من أصول سورية، التي انتقلت للعيش في جنوب فرنسا منذ أكثر من خمس سنوات، في حديث إذاعي أجراه معها راديو “بي بي سي“، استعرضت مظاهر وطقوس العنصرية التي تعرضت لها في فرنسا وكيف أنها فقدت الإحساس بالأمان والاستقرار.
فضحت السيدة السورية بحديثها مزاعم قبول الآخر والاحتواء الثقافي الذي تزعمه الدولة الفرنسية بشعاراتها المستهلكة، لافتة إلى أنها يوميًا تتعرض لممارسات عنصرية ومضايقات من الجيران والمارة في الشارع والعمل، مفادها أن فرنسا يجب أن تكون للفرنسيين فقط ولا مجال لوجود أبناء الجنسيات والهويات الأخرى.
المرشحون الثلاث المنافسون لإيمانويل ماكرون في انتخابات أبريل/نيسان القادم والمتوقع أن يحصلوا على أكثر من 50% من أصوات الناخبين وفق استطلاعات الرأي، يعتمدون في برنامجهم الانتخابي على الحملات المناهضة للمهاجرين
وتضيف أنها تشعر بالخجل كلما ذهبت إلى أماكن ترفيه داخل فرنسا، بسبب ما يمكن أن تتعرض له جراء ارتدائها الحجاب، منوهة أنها أكثر من مرة تعرضت لسباب من فرنسيين في الطرقات في أثناء قيادتها سيارتها وصل إلى حد “البصق” عليها.
وأوضحت سارة أن الحرية والمساواة التي ينادي بها المجتمع الفرنسي لا تعدو كونها شعارات جوفاء، إذ لا تطبق على المسلمين رغم أنهم مواطنون بحكم الجنسية وسنوات الإقامة الطويلة والخدمات التي يقدمونها للبلد، مختتمة حديثها “أفكر في تغيير المكان.. أفكر أن أذهب إلى مكان أكثر عدالة”.
وفي إحدى ضواحي “لايدن” بهولندا يستضيف أحمد شحاتة (هولندي من أصول مصرية) أسرةً مصريةً بأكملها غادرت باريس قبل أسبوع تقريبًا بعد تصاعد حدة الانتهاكات التي تتعرض لها على أيدي اليمينيين في العمل والطرقات، حتى في محل السكن.
الأسرة وعلى لسان شحاتة فقدت وظائفها (الزوج كان يعمل في أحد مطاعم باريس والزوجة في مركز للأبحاث) بسبب هويتها الإسلامية والعربية، بل وصل الحال إلى كتابة التهديدات بالقتل مباشرة على جدران المناطق ذات الكثافة السكانية المسلمة العالية، منوهًا أنه بصدد البحث عن عمل لهم في هولندا وبدء حياة جديدة حتى تبرد حرارة الخطاب العدائي ضد المسلمين.
المضايقات ضد المهاجرين لم تقتصر فقط على عامة الشعب من أبناء التيار اليميني، بل وصلت إلى رأس الحكومة ووزرائها ممن سقطوا كذلك في ذات المستنقع، وهو ما وثقه الممثل الكوميدي الفرنسي ديودون مبالا (مولود في فرنسا عام 1966 لأب كاميروني وأم فرنسية) خلال حوار أجراه عبر الفيديو كونفرانس مع وكالة “الأناضول”.
الفنان الكوميدي أشار إلى أن الحياة في فرنسا “لم تعد تُطاق” بالنسبة له، في ظل الضغوط التي يتعرض لها يوميًا، حتى من رئيس الوزراء الذي قال إنه “فعل كل شيء لمنعي من تقديم عروض، وهو منزعج من حضور آلاف الأشخاص لعروضي ومن نجاحي”.
وأوضح أنه نتيجة لكل تلك الضغوط يفكر جديًا في مغادرة البلاد بشكل نهائي والتقديم لطلب اللجوء السياسي إلى تركيا، فكتب رسالة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، طلب فيها اللجوء لبلاده هربًا من العنصرية التي يواجهها في فرنسا وتستهدف المسلمين والسود تحديدًا على حد قوله.
في وحل الشعبوية
يلاحظ أن المرشحين الثلاث المنافسين لإيمانويل ماكرون في انتخابات أبريل/نيسان القادم (فاليري بيكريس، ماري لوبان، إيريك زمور) المتوقع أن يحصلوا على أكثر من 50% من أصوات الناخبين وفق استطلاعات الرأي، يعتمدون في برنامجهم الانتخابي على الحملات المناهضة للمهاجرين.
خطاب عدائي موحد يستخدمه الثلاثة ومعهم الرئيس الحاليّ لاستمالة التيار اليميني، وصل إلى حد المزايدة بينهم جميعًا على أكثرهم تطرفًا في الانتقام من المهاجرين والأقليات حال فوزه في الانتخابات، وهو ما زاد من مشاعر الاحتقان والكراهية داخل الشارع الفرنسي.
ربما من المنطقي وغير المستغرب أن يلجأ مرشحو اليمين، لوبان وزمور وبيكريس، إلى هذا النوع من الخطاب، كون ذلك يتناسب مع خلفيتهم الأيديولوجية الحمائية الشعبوية، لكن أن ينضم إليهم ماكرون الذي بدأ حياته السياسية اشتراكيًا وهو ما أهله للفوز في الانتخابات الماضية، فهذا يوضح الصورة المأساوية التي تعكس حال الأقليات خلال المرحلة القادمة.
يومًا تلو الآخر يثبت ماكرون أن قناع الحمل الوديع الذي ارتداه خلال حملته الانتخابية في 2017، والتصريحات الوردية بشأن اتساع فرنسا للجميع ودعم حقوق الأقليات والالتزام بمبادئ الاشتراكية الاجتماعية، لم يكن سوى قناع مزيف لكسب أصوات الناخبين
ماكرون الذي فشل في تحقيق أي نجاحات تذكر على مختلف المسارات، وكان نتيجة لذلك أن تراجعت شعبيته وتصاعدت حدة الاحتقان الشعبي ضده، يبحث عن وقف نزيف جماهيريته من خلال مغازلة اليمين المتطرف، فلم يجد غير استهداف المسلمين وسيلة مثلى وسريعة لتحقيق ذلك، ليقارع منافسيه على أصوات اليمينيين، البداية كانت مع “قانون الانفصالية” وصولًا إلى غلق المساجد ومنع الزي الإسلامي في الوظائف، ما كان له أثره في تصاعد معدلات الجريمة ضد المسلمين كما سيرد لاحقًا.
لم يعبأ ماكرون ومنافسوه بمغبة هذا التوجه الخطير على مستقبل بلادهم، فباتت الكلمة العليا للبرغماتية ولذة السلطة، وهو ما حذر منه الأستاذ في مركز العلوم السياسية والقانون العام وعلم الاجتماع بجامعة ليل، أوليفييه إستيفيز، الذي توصل بعد مسح أجراه على 900 مهاجر فرنسي ومقابلات مع 130 منهم إلى استفادة اقتصاد كندا وبريطانيا من عقول الفرنسيين وخبراتهم المهاجرة، واصفًا ما يحدث بـ”فرنسا بالفعل تطلق النار على نفسها”.
استهداف المسلمين.. تصاعد غير مسبوق
كنتيجة متوقعة لخطاب الكراهية المتنامي منذ صعود اليمين المتطرف في أوروبا في 2015، شهدت معدلات الجرائم المرتكبة ضد المسلمين خصوصًا تصاعدًا لم تشهده من قبل، ففي بيان صادر عن “المرصد الوطني ضد معاداة الإسلام” في فرنسا، أشار إلى وقوع 235 اعتداءً على المسلمين عام 2020، مقابل 154 عام 2019، بما يمثل زيادة بنسبة 53%.
البيان كشف زيادة الاعتداءات على المساجد بنسبة 35%، مقارنة بما حدث عام 2019، فيما أوضح رئيس المرصد عبد الله زكري، أن معظم الهجمات وقعت في مناطق رون ألب وباكا وإيل دو فرانس، التي تضم العاصمة باريس، لافتًا إلى تنامي شعور المسلمين بالقلق من النظرة السلبية للفرنسيين تجاه الإسلام.
الشبكة الأوربية لمناهضة العنصرية (ENAR) – مقرها بروكسل – كشفت في بيان لها تنامي اليمين المتطرف داخل المؤسسات الفرنسية خلال السنوات الماضية، محذرة من تصاعد الانتهاكات ضد المسلمين، كما رأت أن أوروبا يجب أن تكون قلقةً من خطاب الحكومة الفرنسية المتأثر بأيديولوجية اليمين المتطرف ما يزيد من الانقسامات المتزايدة.
المنظمة الحقوقية الأوروبية استنكرت الممارسات الإقصائية التي ترتكبها السلطات الفرنسية بزعم الأمن القومي، منها إغلاق المدارس والشركات المملوكة لمسلمين، بجانب اقتحام المساجد وترهيب المصلين، ومؤخرًا حل منظمات المجتمع المدني المعنية بشؤون الأقلية المسلمة في البلاد، منوهة أن “الحقوق الأساسية للأشخاص الذين يتعرضون للعنصرية في فرنسا – المسلمون على وجه الخصوص – مهددة ومعرّضة لخطر شديد”.
يومًا تلو الآخر يثبت ماكرون أن قناع الشخص التقدمي الذي ارتداه خلال حملته الانتخابية في 2017، والتصريحات الوردية بشأن اتساع فرنسا للجميع ودعم حقوق الأقليات والالتزام بمبادئ الاشتراكية الاجتماعية، لم يكن سوى قناع مزيف لكسب أصوات الناخبين، ليدفع المهاجرون جميعًا ثمن مغامرات الساسة وأطماعهم السياسية التي يرون أنها لن تتحقق إلا عبر جثث المسلمين ومستقبلهم المتلاعب به بأيدي نخبة فرنسا العظمى.