لحظات فقط قد تحوِّل الهدوء الحذر على الحدود بين روسيا وأوكرانيا جنونًا وفوضى نتيجة ما تحمله الأحداث من تطورات لا تكاد تهدأ حتى تتسارع مجددًا، فمن حشود عسكرية وتحركات ميدانية من قِبل أطراف الأزمة، إلى استنفار دبلوماسي في طريق البحث عن خفض التصعيد، وبين التصعيد والحراك السياسي تتّجه الأنظار إلى ما ستؤول إليه تطورات الساعات المقبلة.
وإذ تتجمّع غيوم الحرب على طول حدود أوكرانيا، وتستحكم العراقيل أمام الحلول السياسية، فإن إحدى المخاوف التي تقل ملاحظتها هي السؤال عمّا سيحدث للأراضي الزراعية الأكثر إنتاجية في المناطق الشرقية لأوكرانيا، وللبلدان التي تعتمد عليها للحصول على الغذاء في حالة هجوم روسي.
سلّة غذاء العالم في خطر
عُرفت أوكرانيا باسم “سلّة غذاء أوروبا” لعدة قرون من خلال تربتها الأكثر خصوبة على وجه الأرض، فصادراتها الزراعية سريعة النمو -الحبوب والزيوت النباتية ومجموعة من المنتجات الأخرى- ضرورية لإطعام السكان من أفريقيا إلى آسيا.
وتعدّ أوكرانيا مصدرًا رئيسيًا للذرة والشعير والجاودار “الشيلم المزروع” (حبوب تشبه القمح والشعير)، لكن قمح البلد هو المنتج الزراعي الأكثر تأثيرًا على الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم، ففي عام 2020 صدَّرت أوكرانيا ما يقارب الـ 19.4 مليون طن من القمح من إجمالي محصول يبلغ 24 مليون طن، بزيادة 18% عن الفترة نفسها من العام الماضي، ما يجعلها خامس أكبر مصدِّر في العالم.
أوكرانيا مصدر مهم أيضًا للبذور الزيتية، فهي موطن لنصف صادرات زيت دوّار الشمس في العالم، وهي المصدر الثالث لبذور اللفت، إذ سجّلت العديد من البذور الزيتية العالمية، وخاصة الزيوت النباتية، أسعارًا قياسية مرتفعة خلال العام الماضي.
إذا تحول هذا الصراع إلى حرب بين البلدَين، سيتعيّن حينها على الكثير من الدول العربية زيادة وارداتها من مصادر أخرى بأسعار أعلى، يمكن أن تكون لها على الأرجح آثار اقتصادية سلبية.
وتتوقع وزارة الزراعة الأوكرانية أن يصلَ إجمالي الصادرات لهذا العام إلى 61.5 مليون طن، وهو أعلى بكثير من إجمالي صادرات عام 2020-2021 البالغ 44.7 مليون طن، وتتوقع أوكرانيا أن يبلغ إجمالي إنتاج الحبوب لهذا العام 80.5 مليون طن مقارنة بـ 65.0 مليون طن في العام التسويقي السابق.
إلى جانب أوكرانيا، فإن روسيا في الأساس منتِجة ومصدِّرة زراعية رئيسية على مستوى العالم، إذ تستحوذ على 11% من صادرات القمح العالمية، في حين تستحوذ أوكرانيا على 5% من تلك الصادرات، كما أنها -أوكرانيا- تهيمن على 14% من صادرات الذرة على مستوى العالم (ثالث أكبر حصة على الصعيد العالمي)، و18% من صادرات الشعير، و19% من صادرات بذور اللفت.
تشمل قائمة المستوردين من أوكرانيا؛ الصين والاتحاد الأوروبي، لكن دول العالم النامي تمثل المكان الذي أصبح فيه القمح الأوكراني من أهم الواردات، حيث تشير الأرقام في هذا الصعيد إلى أن أكثر من 50% من صادرات القمح الروسي تذهب إلى مصر ولبنان واليمن والأردن، في حين تعتمد هذه البلدان على أوكرانيا للحصول على أكثر من 50% من إمداداتها من القمح والذرة.
على سبيل المثال، استوردت مصر، أكبر مستهلك للقمح الأوكراني، أكثر من 3 ملايين طن عام 2020، أي حوالي 14% من إجمالي قمحها، إلى جانب 52% من حاجاتها من القمح من روسيا، كما اشترت مصر في العام نفسه 8.9 ملايين طن قمح من روسيا عام 2020.
ومن المتوقّع أن يصل استهلاك مصر من القمح الروسي والأوكراني لعام 2021-2022 إلى 21.3 مليون طن، بزيادة قدرها 2.4% تقريبًا عن عام 2020-2021.
كما يستورد الأردن حوالي 31% من إجمالي استهلاكه من القمح من روسيا، وحوالي 42% من أوكرانيا، ويستورد اليمن حوالي 24% من القمح من روسيا، وحوالي 5% من أوكرانيا.
وفي لبنان، جاء حوالي نصف القمح المستهلك عام 2020 من أوكرانيا، و36% من حاجاته من روسيا، وفقًا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة “الفاو”.
ووفقًا لبيانات “الفاو”، قدَّمت أوكرانيا أيضًا 28% من استهلاك القمح في ماليزيا، و28% في إندونيسيا، و21% من استهلاك القمح في بنغلاديش عام 2020.
ماذا لو اندلعت الحرب؟
صعدَت أوكرانيا بشكل كبير في مراتب صادرات الحبوب على مدار العقد الماضي، حيث كانت تهدف هذا العام إلى احتلال المرتبة الثالثة في إنتاج القمح والمرتبة الرابعة في الذرة، رغم أن الصراع الأخير مع روسيا قد غرسَ الخوف في الأسواق بشأن ما إذا كانت جهود التصدير الأوكرانية يمكن أن تنجح.
أعرب التجّار بوضوح عن قلقهم، فالأحداث الأخيرة تذكّر الأسواق بما حدث عام 2014، عندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم إليها، ما أدّى حينها إلى صعود أسعار القمح رغم أن الشحنات لم تتأثر بشكل كبير، وكانت النتائج إيجابية في الغالب، رغم أنه كان من المتوقع حدوث تضارب في المحاصيل.
يقع جزء كبير من الأراضي الزراعية الأكثر إنتاجية في أوكرانيا في مناطقها الشرقية، وتلك الأجزاء بالتحديد الأكثر عرضة لهجوم روسي محتمل.
وفي خضمّ الأزمة، ارتفعت صادرات الحبوب الأولية في أوكرانيا إلى مستويات قياسية جديدة في كل عام من 2013-2014 حتى 2016-2017، وأدّى الدور المتزايد لأوكرانيا في السوق الزراعية العالمية إلى جذب الكثير من الاستثمار الأجنبي إلى البلاد، ما أدّى إلى زيادة المنتجات الزراعية والمحاصيل عالية الموثوقية.
لم يعرقل الغزو الروسي حينها بالضرورة صادرات الحبوب، لكن مع عدم وجود مقارنة مباشرة بين ما حدث قبل 8 سنوات وما يحدث اليوم من تطورات متسارعة، فإنه من غير المؤكّد كيف يمكن أن تتأثر الصادرات في حالة تصاعد الصراع، ومع ذلك أشار المزارعون بالفعل إلى مخاوفهم قبل موسم الذرة عام 2022 بشأن التأثير السلبي المحتمَل لارتفاع أسعار الوقود.
كذلك بدأت تداعيات التوترات المتزايدة بين روسيا وأوكرانيا تظهر بشكل متزايد في الأسواق الزراعية، مع ارتفاع الأسعار وزيادة الضغط على تضخم أسعار الغذاء العالمية، وكان أبرزها ارتفاع العقود الآجلة للقمح في شيكاغو وباريس بنحو 10%، مسجّلة أعلى مستوياتها في شهرَين، في حين أن أسعار الذرة قريبة من أعلى مستوياتها منذ يونيو/حزيران الماضي.
من المتوقع أن يُفضي أي اضطراب في صادرات روسيا وأوكرانيا الزراعية بشكل مباشر إلى تراجع حجم التجارة، وبشكل غير مباشر إلى ارتفاع أسعار القمح العالمية، خاصة بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والأخيرة واحدة من المنطقتَين الأكثر اعتمادًا على القمح المستورَد بعد منطقة أفريقيا جنوب الصحراء.
يتوقع البنك الدولي أنه إذا تحول هذا الصراع إلى حرب بين البلدَين، سيتعيّن حينها على الكثير من الدول العربية زيادة وارداتها من مصادر أخرى بأسعار أعلى، يمكن أن تكون لها على الأرجح آثار اقتصادية سلبية، ففي مصر مثلًا قد تزيد الأعباء المالية، إذ تغطّي صادرات القمح من كلٍّ من روسيا وأوكرانيا ما يقارب الـ 85% من احتياجاتها.
لسوء الحظ، يأتي جزء كبير من إنتاج القمح في البلاد من سلة الخبز التاريخية في شرق أوكرانيا، أقاليم خاركيف ودنيبروبتروفسك وزابوريزهيا وخيرسون، الواقعة غرب دونيتسك ولوهانسك، والتي تحتلها بالفعل روسيا والقوات المدعومة من موسكو، في حين يقع جزء كبير من الأراضي الزراعية الأكثر إنتاجية في أوكرانيا في مناطقها الشرقية، وتلك الأجزاء بالتحديد الأكثر عرضة لهجوم روسي محتمل.
ومن شأن الصراع السياسي والعسكري الراهن بين روسيا وأوكرانيا أن يؤدي إلى انخفاض حاد في صادرات القمح مع فرار المزارعين من القتال، وتدمير البنية التحتية والمعدات، وشلل اقتصاد المنطقة.
يأتي ذلك في الوقت الذي قفزت فيه أسعار القمح مع بداية تلك الأزمة بنسة 6% عن العامَين الماضيَين بعد حصاد قياسي عام 2021، وقد يفضي ارتفاع أسعار هذه الصادرات الرئيسية إلى تفاقم العجز في الحسابات المالية المرتفعة بالفعل في تلك البلدان التي تأثرت مباشرة من الصدمة، بل قد يشكّل هذا الأمر ضغوطًا إضافية على المستويات المرتفعة بالفعل للديون العامة للكثير من الدول العربية وغيرها.
علاوة على ذلك، لدى هذه البلدان مساحة ضئيلة للتحرك في السياسات المالية والنقدية لمواجهة التدعيات، لا سيما في حال تحقق السيناريو الأخطر، وهو انهيار صادرات روسيا وأوكرانيا من هذه السلع، ما قد يؤثر على أسعار السلع الأولية عالميًّا.
تداعيات سياسية
إن أسعار الغذاء العالمية آخذة في الارتفاع بالفعل إلى جانب أسعار السلع الأساسية الأخرى، فاعتبارًا من يوم 18 يناير/ كانون الثاني الماضي ارتفعت صادرات الحبوب الأوكرانية بنسبة 28% عن العام الماضي.
عادةً ما تبلغ شحنات القمح في البلاد ذروتها في أغسطس/ آب أو سبتمبر/ أيلول، ولكن يجب شحن أكثر من نصف حجم الذرة المتوقع في أوكرانيا في الأشهر الخمسة المقبلة.
مع زيادة التوترات بين روسيا وأوكرانيا، سوف يتفاقم انعدام الأمن الغذائي في العديد من البلدان النامية التي تعتمد على البلدَين في قُوتها؛ وفي البلدان غير المستقرة سياسيًّا مثل ليبيا واليمن ولبنان، يمكن أن تؤدي صدمات أسعار الغذاء الإضافية والجوع بسهولة إلى تدهور الوضع السيّئ بالفعل.
لم يمضِ سوى عقد من الزمان على ثورات الربيع العربي، حيث كان ارتفاع أسعار المواد الغذائية بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة في دول مثل تونس ومصر.
من المتوقع أن يهدِّد أي اضطراب بمزيد من الصدمات في الأسعار، مع تدافع البلدان المستوردة للحصول على الإمدادات في ظلّ تشديد السوق، فخلال العام الماضي أدّت موجات الجفاف التاريخية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى تفاقم الاحتياجات من الحبوب، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية المحلية والمخاوف المستمرة بشأن النقص.
في العديد من البلدان الأخرى أيضًا، يمكن أن يؤدي ارتفاع الأسعار وانعدام الأمن الغذائي إلى اشتعال الصراع، وزيادة التوترات العرقية، وامتداد العنف عبر الحدود، وزعزعة استقرار الحكومات؛ فمن بين 14 دولة تعتمد على الواردات الأوكرانية في أكثر من 10% من استهلاكها للقمح، يواجه عدد كبير بالفعل انعدام الأمن الغذائي بسبب عدم الاستقرار السياسي المستمر أو العنف المباشر.
في مصر، على سبيل المثال، اندلعت أعمال الشغب عام 1977، عندما رفع الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات الدعم، ما دفعه للتراجع السريع عن قراره، في حين كان الخبز أحد المطالب الثلاثة الرئيسية للثوار في انتفاضة 25 يناير/ كانون الثاني 2011: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”.
رغم أن المطلبَين الأخيرَين بقيا بعيد المنال عن المصريين، إلا أن المطلب الأول يواصل الدفاع عن مكانته في وجباتهم، حيث يستمر توفير الخبر بأسعار رخيصة إلى حدٍّ ما على بطاقات التموين، لكنّ اضطرابًا محتمَلًا في أسواق السلع قد يهدِّد هذه السلعة المصرية الأساسية، فقد سبق أن لوّح الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتلاعب بأسعار الخبز، قائلًا: “جاء الوقت إن رغيف العيش أبو 5 ساغ (قروش) يزيد تمنه، مش معقولة يبقى 20 رغيف بتمن سيجارة”.
لا ينبغي الاستخفاف بهذه السيناريوهات، إذ لم يمضِ سوى عقد من الزمان على ثورات الربيع العربي، حيث كان ارتفاع أسعار المواد الغذائية بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة في دول مثل تونس ومصر.
في الآونة الأخيرة، يمكن للمرء النظر إلى كازاخستان، ليرى مدى السرعة التي يمكن أن يؤدي بها ارتفاع سعر السلعة الأساسية -الوقود في هذه الحالة، رغم أنها تمتلك بعضًا من أكبر احتياطيات النفط في العالم- إلى الاحتجاجات والعنف، والتدخُّل العسكري الروسي.
قد تكون مظالم السكان أوسع بكثير ومتراكمة على مدى سنوات عديدة، ولكن غالبًا ما تكون صدمة الأسعار هي التي تؤدّي إلى نشوب الصراع، حيث يمكن أن يزيد الجوع من عدم المساواة الذي ينتج عنه التوترات، ويؤدّي في الوقت نفسه إلى تطرُّف الحركات السياسية الجماهيرية.