تواجه الجزائر رهانات داخلية وخارجية تتعلق بمدى قدرتها على البقاء ضمن نادي الدول المنتجة للطاقة، التي تجعل لمواقفها تأثيرًا في المشهد الدولي، خاصة بعد التقلبات التي تعرفها سوق الغاز العالمية جراء ارتفاع الطلب عليه، وكذا بسبب الأزمات الجيوسياسية التي تعرفها عدة مناطق في العالم، التي أعادت لقطاع الطاقة أهميته في رسم العلاقات الدولية في ظل عدم استطاعة استثمارات الطاقات المتجددة تعويض الطاقات الأحفورية.
وبالنسبة للجزائر البلد الذي يؤمّن أكثر من 95% من موارده المالية من عائدات النفط، يشكل الاهتمام بقطاع الطاقة أولوية داخلية وخارجية كونه كان في كثير من المرات سببًا في رسم السياسات الوطنية والدبلوماسية، ومع التطورات الجديدة التي تحدث في السوق الداخلية والدولية يتساءل المتابعون عن قدرة الجزائر على ضمان بقائها كبلد طاقوي يمكن الاعتماد عليه عالميًا.
طلب داخلي
ظلت الجزائر لسنوات مرتاحة من ناحية قدرتها على تلبية حاجاتها الوطنية من النفط، إلا أن ارتفاع عدد السكان الذي فاق 40 مليونًا وعدم القيام باستثمارات واستكشافات جديدة لرفع قدرة الإنتاج جعل المخاوف تتزايد من عدم قدرة البلد النفطي على تلبية احتياجاته من الطاقة في السنوات القادمة.
وبسبب هذه المخاوف، تم تعديل قانون المحروقات مرات عدة، لكنه حافظ على أفضلية الملكية في كل استثمار طاقوي للشركة الوطنية النفطية سوناطراك بنسبة لا تقل عن 51% من أي مشروع نفطي، كما صنف قطاع الطاقة ضمن المجالات الإستراتيجية.
ووفق إحصاءات شهر يناير/كانون الثاني، تنتج الجزائر يوميًا 982 ألف برميل من النفط ضمن تكتل أوبك+، لكن قدراتها الإنتاجية تقدر بـ1.1 مليون برميل يوميًا.
وقال وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب في أبريل/نيسان 2020: “احتياطات الجزائر المؤكدة من النفط تقدر بـ1.340 مليون طن، أي ما يعادل 10 مليارات برميل، وبهذه الوتيرة ما زال لدينا 27 سنة من الإنتاج”.
بعد تجميد بعض استثماراتها في السنوات الماضية بسبب تراجع أسعار النفط وجائحة كورونا، قررت شركة سوناطراك الحكومية النفطية استئناف تنفيذ هذه الاستثمارات التي رصدت لها مبلغ 40 مليار دولار
وحسب الوزير عرقاب، تتوافر في الجزائر “احتياطات من الغاز الطبيعي تقدر بـ2.368 مليار متر مكعب، يضاف إليها 260 مليون طن من المكثفات، أي ما يعادل 4.1 مليار طن من النفط”.
وقال الرئيس تبون مساء الثلاثاء في مقابلة تليفزيونية مع الصحافة المحلية إن نصف الإنتاج الجزائري من الغاز والنفط يوجه اليوم لتلبية السوق الداخلية، وأكد في هذا الإطار ضرورة أن تضمن الحكومة حق الجيل القادم من الجزائريين في النفط، ما يعني أن تعمل البلاد على بقائها ضمن الدول القادرة على الأقل على تلبية حاجاته النفطية محليًا دون التوجه إلى الخارج.
وبعد تجميد بعض استثماراتها في السنوات الماضية بسبب تراجع أسعار النفط وجائحة كورونا، قررت شركة سوناطراك الحكومية النفطية استئناف تنفيذ هذه الاستثمارات التي رصدت لها مبلغ 40 مليار دولار.
وقال المدير العام لسوناطراك توفيق حكار في حوار مع قناة الجزائر الدولية الحكومية: “خطتنا الاستثمارية بين 2022 و2026 هي نحو 40 مليار دولار، وفي سنة 2022 الاستثمارات ستكون 8 مليارات دولار”.
وأوضح حكار أن “ثلث هذه الاستثمارات ستكون مع شركاء أجانب”، مبينًا “الحصة الكبرى ستكون للاستكشاف والإنتاج للحفاظ أولًا على قدراتنا الإنتاجية، وكذلك هناك خطة مشاريع للتكرير حتى نلبي الطلب الوطني خاصة من ناحية الوقود، فهناك مشروع مصفاة في حاسي مسعود (جنوب الجزائر) وتوسعة لمصفاة سكيكدة (شمال شرق) من أجل تحويل بعض المشتقات إلى وقود”.
تحرك خارجي
لا تعول الجزائر فقط على الإنتاج والسوق الداخلية للبقاء ضمن الدول التي لها حضور في القرار الدولي الطاقوي، لذلك رفعت في الفترة الأخيرة من توجهها الباحث عن عقد اتفاقات خارجية، فبالإضافة إلى تزويدها إيطاليا وإسبانيا وتونس بالغاز بشكل كبير ودائم، تبحث اليوم عن مواطن جديدة لمنتجاتها، فقد باعت سوناطراك هذا العام جزءًا من إنتاجها الغازي في السوق الحرة بآسيا، مستغلة الارتفاع اللافت الذي عرفته أسعار الغاز.
وفي الأشهر الأخيرة ظهر توجه الجزائر للاستثمار الطاقوي من خلال عدة اتفاقات، ففي فبراير/شباط الحاليّ، أعلنت سوناطراك الحكومية توقيعها -في نيامي- عبر شركتها الفرعية “سوناطراك الدولية للاستكشاف وإنتاج النفط”، مع وزارة البترول والطاقة والطاقات المتجددة للنيجر، على عقد تقاسم الإنتاج لحقل كفرا.
ويعد هذا العقد تحيينًا للعقد المبرم سنة 2015، الهادف إلى ضمان تقييم أفضل للاحتياطات المتوافرة من المحروقات على مستوى منطقة كفرا شمال النيجر قرب الحدود مع الجزائر.
وأجرت سوناطراك أول عملية حفر بئر استكشافية بحقل “كفرا” شمال النيجر عام 2018، ما أظهر وجود احتياطات محتملة تقدر بـ168 مليون برميل، إضافة لكميات من النفط الثقيل، فيما أظهرت عملية حفر بئر ثانية في 2019، وجود احتياطات تقدر بـ400 مليون برميل من النفط الغني جدًا بالزيت الشمعي “البرافين”).
وبدأ الأربعاء الماضي وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب زيارة إلى النيجر، أين شارك في أعمال الطبعة الثالثة لمنتدى المناجم والبترول المُنظم من نيامي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
وتكمن أهمية تعاقد الجزائر مع نيامي، في إمكانية تحقيق استكشافات جديدة بالنظر إلى أن عدة مناطق بالبلاد لم يتم استكشافها، إضافة إلى أن ذلك سيسهل تنفيذ مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء الذي سينطلق من نيجيريا مرورًا بالنيجر وصولًا إلى الجزائر، وبعدها أوروبا.
وفي 8 فبراير/شباط الحاليّ، شكل أنبوب الغاز الضخم محور اجتماع عن بعد بين وزير الطاقة الجزائري محمد عرقاب ونظيره من نيجيريا تيميبري سيلفا.
وقعت المؤسسة هذا العام أيضًا اتفاقية مع مجمع الطاقة اليوناني “ديبا” لتمديد عقد، طويل المدى لبيع وشراء الغاز الطبيعي المسال الموجه لأثينا
وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، قال سفير نيجيريا بالجزائر محمد مبدول، لصحيفة “بانش” إن مشروع أنبوب الغاز الجزائري-النيجيري، يسير بسرعة كبيرة خلال الآونة الأخيرة، وأن البلدين نجحا في مد الأنابيب إلى حدود النيجر، والجزائر ستساعد بلاده على تسويق غازها في السوق الأوروبية.
ويمتد أنبوب الغاز على طول يقارب 4128 كيلومترًا، ويستهدف نقل 30 مليار متر مكعب من الغاز النيجيري سنويًا نحو أوروبا.
ويمكن وصف شهر فبراير/شباط الحاليّ بالنسبة لسوناطراك أنه شهر التعاقدات الإستراتيجية، ففي العاشر منه وقعت الشركة الحكومية مذكرة تفاهم مع المؤسسة الوطنية للنفط الليبية في مجال قطاع النفط والغاز.
وتهدف المذكرة إلى استئناف نشاط شركة سوناطراك في ليبيا لاستكمال التزاماتها التعاقدية والشروع في تطوير الحقول المكتشفة، إضافة إلى تعزيز سبل التعاون في مجالات إنجاز المشاريع النفطية والغازية وكذا الخدمات والتكوين والتدريب.
وأكد الطرفان ضرورة تسهيل العودة السريعة لسوناطراك للنشاط في ليبيا، من خلال استكمال التزاماتها التعاقدية في منطقتي التعاقد “065” و”96/95″ في حوض غدامس، ووضع رؤية مستقبلية لإعداد خطط لتطوير الحقول المكتشفة في المنطقتين.
ووقعت المؤسسة هذا العام أيضًا اتفاقية مع مجمع الطاقة اليوناني “ديبا” لتمديد عقد طويل المدى لبيع وشراء الغاز الطبيعي المسال الموجه لأثينا.
وتقوم سوناطراك عبر فرعها “سيباكس” بأنشطة في العديد من الدول الإفريقية مثل تونس وليبيا ومالي والنيجر، كما تبحث دخول السوق الموريتانية، إضافة إلى نشاطها بأمريكا اللاتينية بالبيرو، حيث تمتلك الشركة عقودًا ومساهمات في مشاريع النفط والغاز، في توجه جديد تعمل المؤسسة الحكومية من خلاله على تعزيز حضورها في الأسواق الخارجية، الذي تُرجم العام الماضي بإنجاز مصنع للبتروكيمياويات في مدينة جيهان بتركيا تجاوزت قيمته أكثر من 1.7 مليار دولار.
انتقال
رغم جهودها الكبيرة للحفاظ على بقائها كبلد غازي ونفطي، تحاول الجزائر أيضًا تدارك تأخرها في استغلال الإمكانات التي تملكها في مجال الطاقات المتجددة، وبالخصوص الشمسية منها.
وأقرَّت الجزائر لتحقيق هذه الأهداف في عام 2011 “البرنامج الوطني للطاقات المتجددة والفاعلية الطاقوية 2011-2030″، الهادف إلى توسيع استخدام الطاقات المتجددة في توليد الكهرباء للتقليل من الاعتماد على الغاز الطبيعي كمصدر مهيمن في توليد الطاقة الكهربائية.
وجاء في البيانات النظرية لهذا البرنامج أنه يسعى إلى تحقيق نسبة مزيج من الطاقة في إنتاج الكهرباء تكون فيه مساهمة الطاقات المتجددة في حدود 27%، ليكون بحلول عام 2030 نحو 40% من إجمالي إنتاج الكهرباء المخصصة للاستهلاك المحلي متأتية من الطاقات المتجددة، وهو ما يعني بلغة الإنتاج تأسيس قدرة تعادل 22 ألف ميغاوات يتم تصدير نحو عشرة آلاف ميغاوات منها، ويوجَّه الباقي إلى الاستهلاك المحلي.
ورغم إنشاء الرئيس عبد المجيد تبون الذي وصل إلى سدة الحكم بعد انتخابات 12 ديسمبر/كانون الأول 2019 وزارة للانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة، تظل النتائج المحققة دون المستوى المنتظر، فالمحقق حاليًّا لا يتجاوز إنتاج 400 ميغاوات من الطاقة الشمسية.
وفي 10 فبراير/شباط الحاليّ، بحث وزير الطاقة والمناجم محمد عرقاب ووزير الانتقال الطاقوي والطاقات المتجددة بن عتو زيان، استكمال وإنهاء مشروع “سولار 1000”، المُتمثل في إنجاز محطات للطاقة الشمسية الكهروضوئية بطاقة إجمالية تقدر بألف ميغاوات سنويًا، للوصول إلى نحو 15 ألف ميغاوات قبل 2035.
وحسب المدير العام لمجمع الطاقة الشمسية في الجزائر بوخالفة يايسي، فإن برنامج 1000 ميغاوات سيوفر ما بين 7 و10 آلاف وظيفة، مبينًا أن تحقيق البرنامج الحكومي يتطلب موارد مالية.
ولا تريد الجزائر أن تكون الممول الوحيد لتنفيذ انتقالها الطاقوي، لذلك تبحث عن شركاء أجانب، بالنظر إلى تكلفة هذا البرنامج الضخمة، التي فشلت في تأمينها سابقًا بعد أن أخفقت الشراكة مع ألمانيا في برنامج “ديزاتك” في الوصول إلى تفاهم ينتهي بتنفيذ مشاريع للطاقة الشمسية بالجزائر.
يتمثل الخط الثالث وهو مشروع قديم يحاول الناتو إحياءه ويتمثل في أنبوب “ميدكات” الذي يربط الجزائر بإسبانيا وفرنسا من خلال مناطق كاتالونيا وميدي بيرينيه
وفي انتظار تحقيق هذه المشاريع، تراهن الحكومة في المدى القريب على استغلال شبكتها الكبيرة الخاصة بنقل الغاز لنقل الهيدروجين الأخضر الذي يعد أحد أساسيات الطاقات المتجددة.
حتى الآن، استطاعت الجزائر أن تحافظ على تقديم نفسها كشريك طاقوي ذي ثقة مع مختلف الدول التي تربطها اتفاقات اقتصادية، الذي أثبتته في التزامها بتزويد إسبانيا بكل ما تحتاجه من الغاز رغم إيقاف التوريد عبر الأنبوب المغاربي المار عبر المغرب في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مسقطة بذلك كل التقارير التي شككت في قدراتها في الماء.
وأدى وفاء الجزائر بهذا الالتزام إلى ترشيحها من خبراء بأن تكون بديلًا لموسكو أو القيام بدور المنقذ للأوربيين في حال أوقفت روسيا تصدير الغاز إلى جيرانها في القارة العجوز بسبب الأزمة الأوكرانية، رغم أن كل المعطيات تشير إلى أن الجزائر لا تريد أن تكون طرفًا في هذا الصراع، والوقوف ضد حليفها الروسي التاريخي.
وحسب موقع “يورو نيوز”، فإن الجزائر يمكن أن تزود عبر ثلاثة أنابيب للغاز: الأول هو خط الأنابيب عبر المتوسط (TransMed) الذي يربط الجزائر بإيطاليا وفق عقد يمتد لـ10 سنوات، حيث تعد الجزائر اليوم ثاني أكبر مصدر للغاز إلى إيطاليا بعد روسيا مباشرة.
أما الثاني فهو خط أنبوب “ميد غاز” الذي يربط ميناء بني صاف غرب الجزائر بألميريا الإسبانية، الذي تم تشغيله في 2010، وتبلغ طاقته الحاليّة 10 مليارات متر مكعب، وتقول الجزائر إنها قادرة على رفع طاقته إلى 14 مليار متر مكعب سنويًا، أما الخط الثالث فهو مشروع قديم يحاول الناتو إحياءه ويتمثل في أنبوب “ميدكات” الذي يربط الجزائر بإسبانيا وفرنسا من خلال مناطق كاتالونيا وميدي بيرينيه.
وإذا كان خطاب المسؤولين الجزائريين وتحركاتهم الأخيرة داخليًا وخارجيًا تنبئ بأن البلد قادر على أن يعزز مكانته الطاقوية في السوق العالمية أو الحفاظ عليها على الأقل، فإن الوصول إلى هذا المبتغى يبقى متوقفًا على مدى الجدية في تنفيذ مختلف البرامج المسطرة والسرعة في تنفيذها لأن ما هو متوافر حاليًّا قد لا يصبح كافيًا حتى لتلبية الطلب المحلي في بلد يضم احتياطات ضخمة من الغاز الصخري الذي قد يكون بديلًا للغاز التقليدي.